منذ سنوات عدة، أصبح شهر رمضان موسماً للأعمال الدرامية والترفيهية. وبالتبعية، أصبح موسماً للإعلانات أيضاً. فهذه هي المسؤولة عن ضخ الأموال للقنوات التلفزيونية من أجل شراء الأعمال الدرامية، وبالتالي جذب القطاع الأكبر من المشاهدين لتحقيق أعلى نسبة مشاهدات للعمل والقناة، والتي كلما ارتفعت، ارتفع بالمقابل سعر ثانية الإعلان خلالها. مع الوقت، أصبح الإعلان هو المتسيد على شاشات القنوات، وغذت الفواصل الإعلانية تستغرق زمناً أكثر من المادة الدرامية المعروضة، حتى أنه من الممكن أن ينسى المشاهد ما كان يتابع بين فاصل وآخر.
الملاحظ منذ عدة أعوام، اختفاء نجوم الإعلانات من النساء والرجال الذين اكتسبوا شهرة كوجوه إعلانية. وبات السائد أن يكون نجوم الإعلان هم نجوم التمثيل والغناء وكرة القدم، وحتى بعض الإعلاميين. تماماً كما هو الحال هذا الموسم؛ ففي إعلان إحدى شركات الملابس القطنية للرجال كان البطل هو المعلق الرياضي مدحت شلبي. وفي إعلانات أخرى ظهر نجوم الفن مثل يسرا وليلى علوي وشريهان وكريم عبد العزيز ودينا الشربيني وروبي.
يشكو عملاء الشركة منذ أشهر سوء شبكاتها وتمنوا لو أنها أنفقت المبلغ الذي تقاضته شريهان (يقال 2 مليون دولار) لإصلاح الخدمة.
وعلى الرغم من أن أهمية الإعلان أنه يروج لسلعة أو خدمة، وأن يوفر معلومات تحفز المستهلك على اقتناء هذه السلعة/ الخدمة. إلا أننا نجد أنفسنا هذا العام أمام إعلانات بلا هدف، ولا تقدم أي معلومة عن المنتج؛ سواءً بشكل مباشر أم غير مباشر. فأمامنا شركات الاتصالات الأربع في مصر، والتي قدمت إعلانات باذخة جلبت إليها نجوماً بالملايين. وكانت الحصيلة الدعائية لا شيء؛ ما يقدم هو استعراض غنائي لا علاقة له بالسلعة/ الخدمة.
في إعلان شركة الاتصالات الذي شاركت فيه الفنانة نانسي عجرم. يتمحور الإعلان حول مواصفات فتى أحلامها (الفنان أمير كرارة) دون أن يصل المشاهد لأي معرفة حول شركة المحمول وخدماتها. فلا إشارة مثلاً إلى الجهاز المحمول أو إلى مكالمها بينها وبين فارس أحلامها، ترسل خلالها رسالة مفادها أنه يسمعها وسط الضجيج. وفي النهاية نستمع إلى عروض الشركة بصوت المعلق الصوتي.
أما في إعلان الفنان سمير غانم وابنته الفنانة إيمي، فتم فيه الوقوع في خطأ فادح. حينما رأينا أن على الفنان أن يشحن رصيده لكي يتمكن من الاتصال بالشرطة. وهذا غير صحيح، فخدمات الطوارئ في مصر لا تشترط وجود رصيد، أو حتى تفعيل للخط التلفوني.
من الملاحظ أيضاً أن الكثير من الإعلانات توظف مفهوم النوستاليجا (الحنين للماضي) في اختيارها نجومها أو موضوعاتها، وإعلان الفنانة شريهان لشركة "فودافون" للاتصالات هو خير نموذج على ذلك. وعلى الرغم من أن هذا الإعلان، الذي قدمته الشركة أثار ضجة كبيرة، إلا أنه لم يقدم لي أي شيء، كمستهلكة، عن الشركة أو عروضها أو خدماتها. بل هو أشبه بفيلم قصير تخبرنا فيه شريهان أنها ما زالت قادرة على الرقص والحركة كما كانت قبل مرضها. وحتى اللحظة أحاول أن أفهم علاقة الحادث الذي وقع معها عام 1989 بشركة "فودافون". فهل أنقذها المحمول مثلا؟ هل تم إنتاج إعلان تخييلي عن: ماذا لو وُجد المحمول وقت الحادث؟ بالطبع لم يحدث.
يعتبر هذا النوع من الإعلانات عن التجمعات السكنية مستفزاً بشكل خاص في ظل ارتفاع معدلات الفقر في مصر
ثمة فارق كبير بين أن تطل علينا شريهان بشكل دوري من خلال الفوازير والتي قدمت فيها استعراضاً جديداً وفكرة جديدة يومياً، وبين أن تكون أمام عيني على مدار اليوم من خلال إعلان تلفزيوني يقتحمني، في حين أنني قد أبدّل القناة بسهولة، وقد أكتم الصوت، فهو في النهاية إعلان. وبالمناسبة، يشكو عملاء الشركة منذ أشهر سوء شبكاتها وتمنوا لو أنها أنفقت المبلغ الذي تقاضته شريهان (يقال 2 مليون دولار) لإصلاح الخدمة.
إعلان آخر لشركة محمول أخرى جاءت بصوت الفنان حسين الجسمي. كالعادة، يتغنى بجمال مصر وعراقتها وعادتها الرمضانية المحببة، والنتيجة: لا شيء عن خدمات الشركة.
على الجانب الآخر، هناك إعلانات "الكومباوندات" (التجمعات السكنية الراقية) والمدن السكنية الجديدة في مصر، والتي تعرض أشخاصاً يعيشون رفاهية مطلقة، لا همّ لهم إلا الحفلات والسهر والذهاب إلى الشاطئ، دون معرفة نوع الخدمات المقدمة من خلال الإعلان. فلم نكتسب المعلومات الهامة عن أسعار الوحدات أو مساحتها، وعن الطرق المؤدية لهذه المدن، هل قريبة من أماكن العمل؟ ما هي الخدمات الخاصة بالتعليم والترفيه؟ فبالطبع، لا تخاطب هذه الإعلانات المشاهد العادي، فهي تبحث عن شريحة معينة أعتقد أنها غير مهتمة بالبحث من خلال الإعلان عن أماكن سكنية جديدة. إذن من هو جمهورها؟ أصحاب الأموال القادرون على الشراء بهذه المبالغ الطائلة لا يهتمون بهذه النوعية من الإعلانات، فهم يمتلكون قنواتهم الخاصة. أما الشريحة المستهدفة مثل العاملين في الخارج، أو الراغبين في الاستثمار العقاري، هي نسبة قليلة قياساً بحجم الدعاية. ويعتبر هذا النوع من الإعلانات عن التجمعات السكنية مستفزاً بشكل خاص في ظل ارتفاع معدلات الفقر في مصر وفق ما تظهره الأرقام الرسمية.
لماذا لا يقوم أصحاب الإعلانات المبالَغ فيها بدفع جزء من أجر الفنانين كتبرعات لتلك المستشفيات والمؤسسات الخيرية
الإعلانات، سواء لشركات المحمول أو المدن السكنية، المكتظة بالنجوم الذين حصلوا على مبالغ طائلة، تستفز المشاهد. تقابلها إعلانات تطلب من نفس المشاهد أن يتبرع لمستشفيات السرطان والقلب والحروق وغيرها. هذا الاستفزاز من الجهتين يترك المواطن العادي المشغول بتوفير قوت يومه وإعالة أسرته، يجعل البعض يطرح باستمرار فكرة: لماذا لا يقوم أصحاب الإعلانات المبالَغ فيها بدفع جزء من أجر الفنانين كتبرعات لتلك المستشفيات والمؤسسات الخيرية، وإعلان ذلك كجزء من حملة الدعاية والتخفيف عن المواطن غير الميسور.
بشكل عام، نجد أن معظم الإعلانات طويلة وتتجاوز الدقيقتين، مكتظة بنجوم الفن والرياضة، ومستخدمة كلمات أغاني لا تعلق في أذن المستمع كما في السابق. اختفت اللازمة الخاصة بكل إعلان كجملة "انسى يا عمرو" من إعلان إحدى شركات العصائر في التسعينيات، والتي لا تزال رائجة حتى الآن كـ"إفيه" (نكتة).
بالإمكان إبداء نفس الملاحظات تجاه إعلانات السلع الاستهلاكية. فلم يقدم للمستهلك أي دعاية عن المنتج أو مواصفاته، تتحدث الفنانة عن استخدامها للمنتج وينتهي الأمر.
في النهاية، فن الإعلان في مصر بحاجة لوقفة كبيرة، لأنه أصبح، كالدراما، موسماً بلا روح أو فكر. هي إعلانات من باب التواجد أمام الجمهور الذي مل منها، ولم يعد يتابعها. بل لكثرتها واقتحامها للبرامج، خرجت توصيات من المجلس الوطني للإعلام بتحديد زمن الفقرة الإعلانية داخل كل عمل. فهي أصبحت وسيلة عمل لبعض نجوم الفن ممن ليس لديهم أعمال في الموسم الرمضاني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...