شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
حنجرة ونظارة وكرش فؤاد المهندس... الأستاذ والأب والزوج العاشق

حنجرة ونظارة وكرش فؤاد المهندس... الأستاذ والأب والزوج العاشق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 6 سبتمبر 201903:40 م

قد ينجح الكوميديان بسبب تكوينه البدني، فيعتمد في الإضحاك على كونه سميناً مثلاً كجورج سيدهم، أو نحيفاً كمحمد صبحي فيستخدم مرونته، ليست البدنية فقط، في المعارضة مرتدياً ثوب النظام، أو ربما يفهم الكوميديان أن المصريين لا يضحكون إلا على النكات السريعة أو الحركات التي تمزج بين الجنس والضحك، مثلما فعل عادل إمام.. وتباً لهذه مدرسة تجرّ الضحك إلى دورات المياه... أما أن يكون مصدر إضحاكك نابع من حنجرتك فهذا هو جديد فؤاد المهندس، الذي يدين للصندوق المعلق في عنقه بالكثير من وجوده في قلوب الناس.

يلقبونه بـ"الأستاذ"، وكم كان في مصر من أساتذة، لكنه استأثر باللقب دون سابقيه أو مُجايليه، فهو منصة لإطلاق النجوم، وهذا دور من أدوار المُعلّم، والجميلُ أنه لم يكن يخشى نجومية من حوله، بعكس آخرين خافوا على نجاحهم المحدود من مواهب المحيطين، فأحاطوا أنفسهم بكورَس من الضعفاء ومحدودي الحضور، أما هو فكان يؤخّر نفسه خطواتٍ على خشبة المسرح مُقدِّماً رفاقه من الجيل الجديد، كما يفعل أبٌ مع أبنائه المتفوّقين، يُباهي بهم ويتباهى بحُسن صنيعهم.

فعل هذا مع الضيف أحمد، الموهبة الكبرى قصيرة العمر، وعادل إمام، الذي لم يتعلّم من أستاذه شيئاً من الفن، وسناء يونس، "ابنته البِكرية"، وأحمد راتب، السنّيد الأهم سينمائياً منذ ثمانينيات القرن العشرين، ثم محمد أبو الحسن، الذي لمع مرة واحدة في مسرحية "سك على بناتك" لمعان شهاب أحرقه المرض.

بالتأكيد لا يمكن اختزال فؤاد المهندس ببساطةٍ هكذا في صندوق مقفل به أحباله الصوتية ونغمته المميزة، لكنها مفتاح مهم من مفاتيح الخزائن التي يملكها الرجل أو أوتيها ضمن ما أوتي من عطاء إلهي، لكن يمكننا التدليل على أن حنجرته كانت سراً من أسراره، ففي مطلع عام 1968 اختار المخرج الإذاعي يوسف حجازي الفنان فؤاد المهندس لتقديم برنامج "كلمتين وبس"، أحد أشهر البرامج المصرية عبر الأجيال، حيث تحدث فيها عن سلبيات المجتمع المصري، معتمداً على كتابةٍ اجتماعيةٍ ساخرة من أحمد بهجت، وأداء درامي لافت محوره صوت "عمو فؤاد" الأبوي والأفندي ابن الطبقة المتوسطة، ولمدة 27 عاماً، ظلَّ "المهندس" يقدم البرنامج حتى قبيل رحيله بوقتٍ قصير.

وقد حاول كثيرون إعادة تجربة "كلمتين وبس" بأشكالٍ مختلفة، لكنها في كل مرة تفشل، كان آخرها عندما قام اتحاد الإذاعة والتليفزيون المصري بتحويل البرنامج إلى مسلسل رسوم كرتونية متحركة، وهي الفكرة التي لاقت هجوماً من قِبل أبناء كاتب البرنامج، باعتبار أن ذلك بمثابة "سرقة"، كذلك حاول الفنان المصري شريف منير استكمال تقديم البرنامج، إلا أنه اعترف بوجود معوقات من قِبل الإذاعة حالت دون تقديمه البرنامج، رغم إعداده حلقة تجريبية بُثت أثناء استضافته لأول مرة خلال برنامج "صاحبة السعادة" مع الإعلامية إسعاد يونس.

كل ذلك فشل لأن المحاولات كان ينقصها أهم ما في تكوين البرنامج، وهو صوت فؤاد المهندس وأداؤه الباهر وقدرته على التشخيص عبر أحبال تتأرجح فيها أنفاسه، وبقدرة فائقة على تلوين الأصوات والنغمات التي تصدر عنه وتقطيع الجمل بحيث لا يرهق أذن المستمع... إنه ملحن ذكي لأداءٍ درامي نادر الوجود، كما زادته ملامحه الأبوية نوعاً من الطمأنينة والقبول، وتمتع بشكل الزوج المصري التقليدي، بما فيه "الكِرش"، وظل نموذجاً للزوج العاشق، ما جعل حبيبته شويكار تبكي دائماً على علاقتهما الزوجية التي لم تستمر، فهو صانعها وهي المتمردة عليه، بحسب ما تقول أسطورة "بيجماليون"، التي حولها الثنائي إلى واحدةٍ من أبدع مسرحيات الكوميديا المصرية في ستينيات القرن العشرين.

هو ملحن ذكي لأداءٍ درامي نادر الوجود، كما زادته ملامحه الأبوية نوعاً من الطمأنينة والقبول، وتمتع بشكل الزوج المصري التقليدي، بما فيه "الكِرش"، وظل نموذجاً للزوج العاشق، ما جعل حبيبته شويكار تبكي دائماً على علاقتهما الزوجية التي لم تستمر

هل يمكننا أن نرى فؤاد المهندس في خيالنا دون نظاراته السوداء؟ طيب لنتخيل أنه بلا "كِرش" أو "مؤخرة كبيرة" كان يصر على استعراضها في رقصاته، متعمداً ترسيخها في مخيلة المشاهدين، ربما لأنه كان على علم بتأثير المكونات الجسدية  في ثقافة التلقي 

"فين التلميذ؟ هاتولي التلميذ"

في أوائل الأربعينيات جاء الطالب الجامعي فؤاد المهندس، الذي شغفه المسرح ليخطو خطوة أكبر في حياته، فتجرأ وزار فرقة نجيب الريحاني وطلب لقاء أهم ممثل في تاريخ الكوميديا العربية، الذي يمكن التعامل معه باعتباره عالم اجتماع وليس كوميديا، فهو وثّق الحياة المصرية وسمات شخصيتها الدقيقة وأحداثها الكبرى وتفاصيلها الاقتصادية المعيشية في النصف الأول من القرن العشرين.

جاءه "فؤاد" ليطلب منه أن يخرج لطلبة الجامعة معالجة لمسرحية "حكاية كل يوم"، وهي من تراث الريحاني، وفوجئ، رغم غرابة طلبه، بقبول الريحاني للتجربة، وبدأ يعلّمه وزملاءه كيفية الوقوف على المسرح، وبالطبع لعب "فؤاد" دور "حسن عاشور أبو طبق"، الذي قدّمه الريحاني بطلاً للمسرحية، فكان "فؤاد" يقلد بحّة صوت "نجيب"، فما أن سمع صوته حتى غضب وقال له: "أنت بتعمل ايه؟ ماتقلدنيش... صوتي دا جزء مني... قول بصوتك أنت... طلع صوتك"، ومن هذا الدرس البسيط خرجت لنا "حنجرة فؤاد المهندس"، التي تعرف متى تبطئ ومتى تعلو ومتى تزعق ومتى تتنفس كالصباح النقي الفتيّ.

الأب والابن

ولفهم البيئة التي أنتجت فؤاد المهندس أكثر، لنا أن نذهب قليلاً إلى جذوره، فهو ابن الأستاذ زكي المهندس، الذي تخرج من دار العلوم عام 1910، وسافر في بعثة إلى إنجلترا ونال دبلوماً في التربية والأدب وشهادة تخصص في علم النفس، وبعد عودته عمل مدرساً بالمدارس الثانوية، ثم اختير مدرساً للتربية بدار العلوم ثم مفتشاً للغة العربية، وكان من أوائل الأساتذة الذين استُدعوا إلى التدريس بكلية دار العلوم كأستاذ لكرسي التربية والفلسفة، وظل كذلك حتى اختير وكيلاً لدار العلوم ثم عميداً لها عام 1945، ثم اختير عضواً بمجمع الخالدين، حماة اللغة العربية، عام 1946، ضمن عشرة أعضاء مصريين صدر مرسوم ملكي بتعيينهم، وكان مقرراً للجان اللهجات والأصول، والأدب، وتيسير الكتابة، والعلوم الفلسفية والاجتماعية، والعلوم الرياضية والهندسية، ونشر التراث القديم، وانتخب سنة 1964 نائباً لرئيس المجمع اللغوي، وظل في منصبه حتى وفاته سنة 1976.

خطا "فؤاد" خطواته الأولى نحو النجومية في الخمسينيات، بينما أبوه كان رئيساً لمجمع اللغة العربية، وفي أثناء ذلك قدم أعمالاً تُصنف باعتبارها "هلس كوميدي" بالأمر المباشر من الرئاسة المصرية الناصرية عقب نكسة يونيو 1967، مثل "شنبو في المصيدة"، وذلك لإلهاء الناس عن الهزيمة التي حلت بالعرب، ونفذ فؤاد الأمر على نحو عبثي بل زاد من جرعة الهلس على نحو أخذ بالسينما جميعاً لمرحلة من اللاوعي ربما يحاسبه عليها الزمن، رغم اعترافه بالندم على ذلك... لا أحد ينجو تماماً من خطايا زمنه يا أستاذ فؤاد.

النظّارة والمؤخّرة

لعلها تكون مبحثاً مهماً إذا ما أردنا دراسة فؤاد المهندس دراسة أنثروبولوجية، فالسمات الجسدية وأكسسوارات الرجل كانت جزءاً مما يسمونه "الكاراكتر"... تأمل مثلا نظارته السوداء! هل يمكنك أن ترى فؤاد المهندس في خيالك بدونها؟ طيب تخيل أنه بلا "كِرش" أو "مؤخرة كبيرة" كان يصر على استعراضها بجلاء في رقصاته أو ملابس شخصياته القصيرة، متعمداً ترسيخها في مخيلة المشاهدين، ربما لأنه كان على علم بتأثير المكونات الجسدية أيضاً وأكسسوارات الجسد في ثقافة التلقي لدى الجماهير، رغم أنها في كثير من الأحيان كانت محل استنكار، لكن يحسب لـ"المهندس" هذا الوعي الكوميدي بثقافة الجسد وكيف يخرج منه الضحك دون ابتذال.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image