شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الوصول إلى

الوصول إلى "كعكتي المفضلة"… تحولات السينما الإيرانية وفق الحركات الاجتماعية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

السبت 26 أبريل 202501:28 م

مع ظهور صانعي الأفلام المجددين في ستينيات القرن العشرين في إيران، ظهرت موجة جديدة من السينما الإيرانية، علي يد مخرجين أمثال إبراهيم كُلِستان، وفَرُّخ غفّاري، وهجير داريوش، وفُروغ فَرُّخزاد. ومع بداية العقد التالي، خلقت أفلام المخرجين داريوش مهرجوئي، وسُهراب شهيد ثالث، وأربي أوفانيسيان وناصر تقوائي، أسلوباً جديداً في السينما الإيرانية، وجاءت هذه الأفلام الجديدة كلياً، ردّاً على النماذج الشعبية والتجارية للسينما، وبهدف تمثيل الحقائق الاجتماعية آنذاك.

وقتها، كانت البلاد على وشك ثورة، وكان وضعها السياسي متوتراً، ولم يهتمّ صنّاع الأفلام في الإستوديوهات الإيرانية، الذين كانوا يميلون إلى النماذج الهندية والتركية والمصرية الحالمة، إلى إظهار الظروف الاجتماعية، في حين كانت أفلام الموجة الجديدة تُعدّ في الغالب أعمالاً واقعيةً، حيث تتميز بخاصّيتين مشتركتين، هما: استخدام أسلوب حديث في سرد القصة ولغة قريبة إلى لغة السينما الأوروبية في الخمسينيات، والتركيز على الواقع الاجتماعي الذي تلقّى أسسه الفكرية من الواقعية الاشتراكية للحزب الشيوعي والخطاب اليساري.

دام وضع السينما الإيرانية على هذا المنوال حتى انتصار الثورة الإسلامية. حينها، تغيّر كل شيء، حيث واجه صنّاع الأفلام الجدد الذين كانوا في الغالب معارضين للنظام الملكي، مشكلات الرقابة في الجمهورية الإسلامية، وذلك بالإضافة إلى سائر المشكلات التي بقيت على حالها منذ عهد النظام السابق. واعتراضاً على الوضع السائد، بقي بعضهم في منازلهم ورفضوا العمل، في حين واصل آخرون أنشطتهم بصعوبة، والمشكلة الأولى التي واجهتها موجة السينما الإيرانية الجديدة بعد الثورة، هي عدم توافق سرديات أفلامها مع الواقع المحيط بها، إذ بدأت الرقابة بوضع قيود كثيرة وصارمة لصنّاع الأفلام، وكان الأخيرون مجبرين على الخضوع لهذه القيود التي غيّرت، في الكثير من الأحيان، محتوى العمل وسرديته.

بداية ظهور سينما الـUnderground في إيران

في ثمانينيات القرن العشرين، وبسبب الأجواء الثورية والقوانين الصارمة والمراقبة الأيديولوجية للإنتاجات الثقافية، لم يكن من الممكن تمثيل بعض المواضيع والأفكار، أو كان الأمر محدوداً بشدّة، وقد فُرضت هذه القيود لأسباب دينية وسياسية وأيديولوجية. على سبيل المثال، واجه تصوير العلاقات بين الرجال والنساء، وتصوير أنماط الحياة الحديثة، وتمثيل العنف، والعديد من الحقائق الاجتماعية، قيوداً شديدةً، بحيث أصبحت المرأة في السينما ما بعد الثورة مجرد شيء غير واقعي، ولم يكن يُنظر إليها كشخصية مستقلّة وحكيمة، بل عُدّت سلعةً جنسيةً يجب إخفاؤها عن أنظار الرجال.

إذا كانت الموجة الحديثة من السينما الإيرانية قد اجتاحت سينما الإستوديوهات والسينما التخيّلية بهوائها النقي، فإنّ الموجة الثانية من السينما الإيرانية وقفت رسمياً ضد اختناق الحجاب القسري والرقابة! حيث اقتربت كثيراً من حدود الواقع

على هذا الأساس، حُصر دورهن في الأدوار الأسرية والأمومية، ولم تعد المرأة كائناً فعالاً، بل أصبحت شخصيةً رمزيةً تُستخدم لنقل الرسائل الأخلاقية والأيديولوجية، وعلى هذا الأساس أزيلت صورة الحب والرغبة والأنثوية، وعُدّ أيّ تمثيل لهذه المشاعر "غير مناسب أو منافياً للأخلاق"، ولم يكن مسموحاً للنساء بالظهور في السينما إلا بالحجاب الكامل، إلى درجة أنه حتى في المشاهد المنزلية كان عليهنّ الظهور بالحجاب، فكنّ ينمن بالحجاب، ويأكلن بالحجاب، ويقاتلن بالحجاب، وحتى يستحممن بالحجاب! كان التعبير عن جسد الأنثى، وحتى أدنى الإشارات الجنسية، أمراً محظوراً، ما تسبب في تحويل النساء في الأفلام إلى شخصيات بلا أجساد وغير عضوية.

في العقد الأول من الحكم الإسلامي في إيران، أدرك المثقفون والفنانون أنّ سنوات القمع في البلاد لم تنتهِ، بل اشتدّت، وقد تكثّفت الأحداث السياسية وحركات الاحتجاج عقداً بعد عقد، طوال ما يقرب من خمسين عاماً من الحكم الإسلامي، وأصبحت السياسات الثقافية أكثر قمعاً ورقابةً، وكانت ولا تزال الأفلام التي اتّبعت سياسات الحكومة تحظى بتقييمات عالية، في حين تم حظر الأفلام الناقدة.

على هذا الأساس، أعلن مهرجان "فجر" السينمائي (المهرجان الرسمي السينمائي في الجمهورية الإسلامية)، رسمياً، أنه سيتّبع سياساته الخاصة وأنه لا يخشى التحول إلى حزب حكومي، حتى إذا أصبح أقلّ ازدهاراً عاماً بعد عام. لكن بدخول السينما الإيرانية إلى المهرجانات السينمائية الأوروبية، اشتعلت شرارة سينما ما تحت الأرض في إيران (Underground film). ويرى المؤرخون أنّ فيلمَي "دائرة" لجعفر بناهي، و"طهران للمزاد" لِكراناز موسوي، من أوائل الأفلام الإيرانية غير المصرحة، حيث حظي كل منهما باستقبال جيد في المهرجانات الدولية المرموقة.

تدور أحداث فيلم "الدائرة"، حول مجموعة من النساء، كل واحدة منهنّ لها مصير معيّن في مجتمع أبوي، حيث يكافحن ضد القمع والعنف المنزلي والاجتماعي. وفيلم "طهران للمزاد"، يصوّر الأجواء المغلقة والمحافظة للمجتمع الإيراني من وجهة نظر امرأة شابة، ويُعدّ أوّل فيلم روائي طويل للمخرجة والشاعرة جراناز موسوي.

سينما الـUnderground... الموجة الثانية

إذا كانت الموجة الحديثة من السينما الإيرانية قد اجتاحت سينما الإستوديوهات والسينما التخيّلية بهوائها النقي، فإنّ الموجة الثانية من السينما الإيرانية وقفت رسمياً ضد اختناق الحجاب القسري والرقابة! حيث اقتربت كثيراً من حدود الواقع، والحقيقة التي لم تعد تحتاج إلى أي تصاريح أو تراخيص، ولا تقدّم صورةً بعيدةً كل البعد عن المجتمع الإيراني الحقيقي.

أضافت السينما غير المصرحة هذه، إلى هيبة السينما الإيرانية، عاماً بعد عام لغاية عام 2021، إذ بعد ذلك تطورت بشكل كبير، من خلال أعمال مخرجين أمثال جعفر بناهي، وبهمن قُبادي، وسميرا مخملباف، ونادر ساعي وَر. ولكن ربما جذب هذا الشكل من السينما انتباه العالم بعد عام 2022، وتحديداً بعد الحركة النسوية المعروفة بحركة مَهسا، وفي واقع الأمر، فإنّ ترسيخ هذه السينما في إيران، حدث في منتصف عام 2022، مع انتفاضة الشعب واحتجاجاته تحت شعار "المرأة، الحياة، الحرية"، حيث اجتاحت العالم وساندها العديد من الفنانين والسياسيين والمثقفين في جميع أنحاء العالم.

ومن المثير للاهتمام أنّ هذه الحركة، ذكّرت العديد من صنّاع الأفلام بمدى تقديم السينما الإيرانية صورةً مفبركةً عن "المرأة الإيرانية"! إذ تمثل النساء في أفلام السينما الإيرانية الرسمية، صورة المرأة المحجبة في المجتمع الإسلامي الثوري، في حين أنّ السينما الحديثة أو الموجة الثانية من السينما الإيرانية، قدّمت صورةً أقرب عن هذه المرأة.

ربما يُعدّ أول فيلم إيراني غير مصرح بعد حركة 2022 النسوية، فيلم "منطقة حرجة"، وهو فيلم نقدي لاذع ومرير من إخراج علي أحمد زاده، فاز بجائزة الفهد الذهبي في مهرجان "لوكارنو" السينمائي السادس والسبعين. بعد نجاح هذا الفيلم، لفت فيلم "آيات الأرض"، للمخرجَين علي عسكري وعلي رضا خاتمي، انتباه المهرجانات، إذ يتناول استعباد المجتمع الإيراني وقمع المرأة ومشكلات الحجاب القسري، وهذان الفيلمان يأتيان إلى جانب الفيلم الأكثر شعبيةً الذي تألق في مهرجان "برلين" السينمائي العام الماضي، فيلم "كعكتي المفضلة" للمخرجة مريم مقدم والمخرج بِهتاش صناعي، ولا سيّما أن المواطن الإيراني العادي استطاع أن يتفاعل معه ويتعاطف مع شخصيات القصة.

في سينما الـUnderground الإيرانية، أصبح استخدام الصور الأرشيفية للاحتجاجات في الشوارع، واستخدام المواقف الحقيقية، مثل: مقاطع فيديو من سيارة دورية الإرشاد، وضباط الحجاب، وأصوات حقيقية من الاحتجاجات، جزءاً من جماليات هذه الأعمال. ولذلك، يمكن تسمية الحركة الثقافية المستقلّة والحرّة الثانية في إيران، أي سينما الـUnderground، بـ"سينما- راب"

تحت تأثير حركة "المرأة، الحياة، الحرية"، قدّمت الموجة الثانية من السينما الإيرانية موضوعات مشتركة، منها: النقد الاجتماعي والسياسي، والتركيز على القضايا الجنسية وكسر المحرّمات، والتغلب على القيود الدينية والأيديولوجية. ومع ذلك، يمكن ربط السينما الإيرانية غير المصرحة بالحركة الثقافية الحرّة والمستقلة الوحيدة بعد الثورة، أي "حركة موسيقى الراب".

فنّ "السينما-راب"

كانت موسيقى الراب في إيران دائماً تحت القيود الرسمية منذ طليعتها في هذا البلد في أوائل الألفية الثانية، ولكنها في الوقت نفسه نجحت في أن تصبح ربما الحركة الوحيدة والأولى "المناهضة للسطة الحاكمة" التي تؤثر على الأجيال الشابة. وتُحظر موسيقى الراب في إيران بسبب محتواها النقدي، وتوزيعها غير القابل للسيطرة، وتعارضها مع القيم الرسمية للحكومة، مثل رفض الموضوعات الدينية، ومن ناحية أخرى، ترتبط قيمة الراب كبنية احتجاجية باستقلاليته.

وخلال سنوات حكم الجمهورية الإسلامية، تم القضاء على كل تيار ثقافي أو تعديله تدريجياً، لكن فنّ الراب لم يواجه مثل هذا المصير، باعتباره فنّاً لا يتبع أي قواعد سياسية وهو دائماً مناهض للسلطة، حيث كان مغنّو الراب الإيرانيون روّاد الفنّ السرّي في هذه الأرض. ومع ذلك، تتبع السينما الإيرانية ما تحت الأرض، هياكل مماثلةً لجماليات الراب الفارسي. في واقع الأمر، نشأت السينما الإيرانية السرّية وموسيقى الراب الفارسية في سياقات مماثلة، وكلتاهما ظهرتا كرد فعل على الرقابة والقمع والقيود الأيديولوجية التي فرضتها الجمهورية الإسلامية.

نقطة مهمة في التشابه بين هذين النوعين، هي توجههما نحو حقوق المرأة، إذ يركز الراب الفارسي على قضية المرأة بعد حركة "المرأة، الحياة، الحرية"، وأصدر مغنّو الراب داخل إيران وخارجها، موجةً كبيرةً من الأغاني تتمحور حول هذه الاحتجاجات، وكانت جميع أنواع الراب الفارسي، من راب الشوارع والراب العصابي إلى الهيب هوب الفلسفي والاجتماعي، تخدم هذه الحركة النسوية، ولا سيّما أن بعض الفنانين استخدموا عيّنات صوتية من الاحتجاجات في الشوارع، في موسيقاهم لإعادة خلق أجواء الحركة.

في سينما الـUnderground الإيرانية، أصبح استخدام الصور الأرشيفية للاحتجاجات في الشوارع، واستخدام المواقف الحقيقية، مثل: مقاطع فيديو من سيارة دورية الإرشاد، وضباط الحجاب، وأصوات حقيقية من الاحتجاجات، جزءاً من جماليات هذه الأعمال. ولذلك، يمكن تسمية الحركة الثقافية المستقلّة والحرّة الثانية في إيران، أي سينما ما تحت الأرض، بـ"سينما- راب"، فهذا أسلوب من السينما يكون أقرب إلى الراب بموضوعيته وتقديمه، وكما هو الحال مع موسيقى الراب، فإنها تستفيد من حرية التعبير والتوثيق والحقوق الاجتماعية، ومثلها مثل موسيقى الراب، يتم توزيعها عبر الإنترنت، والحكومة غير قادرة على التعامل معها أو منع انتشارها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نرفض أن نكون نسخاً مكررةً ومتشابهة. مجتمعاتنا فسيفسائية وتحتضن جماعات كثيرةً متنوّعةً إثنياً ولغوياً ودينياً، ناهيك عن التنوّعات الكثيرة داخل كل واحدة من هذه الجماعات، ولذلك لا سبيل إلى الاستقرار من دون الانطلاق من احترام كل الثقافات والخصوصيات وتقبّل الآخر كما هو! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فكل تجربة جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image