ننام ليلاً على الأخبار المفجعة، ونستيقظ من صدمتها في النهار، فالمواطن الإيراني ينتظر دائماً الكارثة، وكما قال الشاعر الألماني برتولت بريشت: "إن الذي يضحك، لم يسمع بعد بالأخبار الحزينة". يوم أمس الأحد عندما استيقظنا من نومنا وكوابيسنا المخيفة، سمعنا بالحادثة المروعة.
"أحلم بأني أُذبح في سرداب في القرون الوسطى"؛ هذه الكلمات جاءت على لسان "هامون"، وهو بطل فيلم بالعنوان نفسه، لداريوش مهرجوئي، المخرج المخضرم الإيراني، الذي عثروا عليه قتيلاً هو وزوجته، وحيدة محمدي فر، في فيلاهما الشخصية، في مدينة كَرَج المجاورة للعاصمة الإيرانية طهران، مساء يوم 14 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
ردود فعل المشاهير الإيرانيين/ات
حول مقتل هذا المخرج المخضرم، عبّر الكثير من المشاهير الإيرانيين/ات عن مدى الحزن الذي أصابهم بعد سماع الخبر، وصدمتهم منه، حيث كتبت الممثلة الإيرانية المقيمة في فرنسا كُلشيفته فراهاني، التي عملت مع هذا المخرج في فيلمَي "عازف السنطور"، و"شجرة الكمثرى"، على صفحتها الشخصية في إنستغرام: "ماذا يحدث لإيران؟ حيث يُقطّع داريوش مهرجوئي ذو الـ83 عاماً وزوجته بسكين في بيته؟".
عن حبه للعمل في بلده، قال: "كنت في هوليوود وأتيحت لي الفرصة لصنع أفلام هناك، كما أنني خلال فترة مكوثي في باريس قمت بإخراج الأفلام، لكن هذه الأعمال لم ترضني فنياً، ولذلك عدت إلى إيران، لأن الأفكار التي ألهمتني لصناعة الأفلام كانت موجودةً هنا"
الممثل رضا كيانيان، في منشور عبر صفحته على إنستغرام، وصف داريوش مهرجوئي بأنه أحد المخرجين الخمسة البارزين في تاريخ السينما الإيرانية، قائلاً: "ألم يتبعه ألم، وموت يتلوه موت آخر، ولكن لماذا القتل؟... وكم عانى هذا الرجل الهرِم من الألم قبل أن يُقتل؟ وماذا عن زوجته؟ هل رأيا موت بعضهما بعضاً؟".
وكتب المخرج والممثل وكاتب السيناريو هومن سيدي، بدهشة عن مقتل مهرجوئي وزوجته: "أتمنى أن يخبروني بأن ما حدث كان كابوساً، وأن هذا الظلام سينتهي يوماً ما".
وتساءلت المخرجة تهمينه ميلاني، عبر صفحتها على إنستغرام: "حتى لو توفي السيد مهرجوئي بشكل طبيعي، لكان خبر وفاته صدمةً كبيرةً للمجتمع، وخاصةً الوسط الفني... ولكن أين الأمن من هذا؟".
وتعقيباً على خبر وفاته، كتب الممثل بهرام رادان، وهو بطل فيلم مهرجوئي "عازف السنطور": "كم هو غريب، كم هو مفجع، كم هو قاسٍ نبأ وفاته؟".
داريوش مهرجوئي... تاريخ طويل
وُلد داريوش مهرجوئي، في طهران في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 1939، وهو مخرج وكاتب إيراني، درس الفلسفة والسينما في جامعة كاليفورنيا الأمريكية. بدأ مسيرته الفنية من خلال فيلم "الماس 33" عام 1967، ولمع نجمه بإخراج وكتابة فيلم "البقرة" الذي أُنتج عام 1969، وشكّل هذا الفيلم موجةً جديدةً في السينما الإيرانية، ويُعدّ فيلم "البقرة"، من أهم الأعمال في تاريخ السينما الإيرانية.
يُعدّ هذا المخرج من الأشخاص الذين كان لهم تأثير كبير في تحول السينما الإيرانية، كما كانت له أنشطة أخرى مثل كتابة الروايات أو ترجمتها. من خلال إنتاج فيلم "البقرة"، تمكن من لفت انتباه العالم إلى السينما الإيرانية، وفي ما بعد حقق شعبيةً واسعةً بصنع أفلام كـ"هامون" و"ضيف أمي" و"المستأجرون" و"عازف السنطور" و"سارا" و"شجرة الكمثرى" و"ليلی".
ووفقاً لنتائج استبيان عام 2004، فإن مهرجوئي نجح في خلق سبع شخصيات مؤثرة من خلال أفلامه، ويُعَّد هذا العدد الأكبر من الشخصيات السينمائية الخالدة في السينما الإيرانية. وفي عام 2019، اختير كأفضل مخرج في تاريخ السينما الإيرانية من قبل "مجلة فيلم" الإيرانية.
ومن الجوائز العالمية التي نالها، يمكن أن نذكر جائزة "الصَدفة الذهبية" لأفضل فيلم لمهرجان سان سيباستيان السينمائي، وجائزتَي النظرة الجديدة والاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين من مهرجان برلين السينمائي، وجائزة مهرجان البندقية السينمائي الدولي، وجائزة هوغو الفضية من مهرجان شيكاغو السينمائي الدولي، فضلاً عن أنه في عام 2014، نال وسام "جوقة الشرف الفرنسية في مجال الفنون والآداب" من سفير فرنسا في إيران.
مهرجوئي، الذي فاز بالعديد من الجوائز خلال مسيرته السينمائية، هاجر إلى فرنسا من عام 1981 حتى 1985، ثم عاد إلى بلاده ليستمر في الإخراج وكتابة السيناريوهات والروايات والمذكرات، كما أنه قام بتحرير وترجمة أعمال أدبية وفلسفية. معظم أفلامه مستوحاة من المسرح والأدب، وغالباً ما يستلهم من الروايات أو المسرحيات الفارسية أو الأجنبية.
وفي ما يلي سنلقي نظرةً على أهم أفلام مهرجوئي، التي تأثر المجتمع والسينما في إيران بها بشكل كبير.
فيلم "البقرة"
في عام 1970، قام بإخراج وكتابة فيلم "البقرة"، بالتعاون مع الكاتب غلام حسين ساعدي، مستنداً إلى أحد مؤلفات هذا الكاتب، وهو كتاب القصص القصيرة "معزين بَيَل"، وحصل هذا الفيلم على العديد من الجوائز في المهرجانات الدولية، كما كان فيلم "البقرة" فيلماً ناجحاً تجارياً وفنياً، إذ فتح فصلاً جديداً في السينما الإيرانية.
قصة فيلم "البقرة"، تروي حكاية رجل لديه بقرة واحدة وهي عزيزة جداً على قلبه، تتغير نفسيته بموتها المفاجئ، إلى درجة يتخيل نفسه معها بقرةً. قدّم مهرجوئي من خلال هذا الفيلم، فكرة الفناء من أجل الحب، وهو أمر عبّر عنه مراراً الشعراء الإيرانيون الكبار مثل الخيام وحافظ ومولوي.
وفي حوار آخر يشرح: "رؤيتي وأفكاري عن الحياة تنعكس في أفلامي باللا وعي، فكل أفلامي تتأثر بهمومي الوجودية، وبالوجود الفردي والأزمات التي يواجهها الأبطال، حيث يجبَرون على تغيير أسلوب حياتهم، من أجل الوصول إلى مستويات جديدة من المعرفة".
وعن حبه للعمل في بلده، قال: "كنت في هوليوود وأتيحت لي الفرصة لصنع أفلام هناك، كما خلال فترة مكوثي في باريس، قمت أيضاً بإخراج الأفلام، لكن هذه الأعمال لم ترضني فنياً، ولذلك عدت إلى إيران، لأن الأفكار التي ألهمتني لصناعة الأفلام كانت موجودةً هنا، وأفلامي تكون منطقيةً هنا".
فيلم "هامون"
"هامون" فيلم اجتماعي تم إنتاجه عام 1989، من إخراج داريوشمهرجوئي. قصة هذا الفيلم مستوحاة من رواية "البومة العمياء" للروائي الإيراني الشهير صادق هدايت، وتحكي قصة هذا الفيلم الحياة المأساوية لبطله حميد هامون، الذي يعيش في صراع دائم مع زوجته مَهشيد، حيث يكون منشغلاً بكتابة رسالته عن الحب والإيمان، ويغادر منزله بحثاً عن صديقه القديم علي عابديني، لكن جميع محاولاته لإيجاد صديقه باءت بالفشل، وفي نهاية الأمر يسلم نفسه لأمواج البحر، لكن عابديني ينقذه في اللحظة الأخيرة.
كما يتناول هذا الفيلم هموم المثقفين الشباب بين الدُنيوية والمِثالية. الشخصية الرئيسية في فيلم "هامون"، هي واحدة من أهم الشخصيات الخالدة في السينما الإيرانية، حيث أصبحت مثالاً للمثقفين الذين يبحثون باستمرار عن الأسباب، ولطالما يتحدون أنفسهم والآخرين.
لقد أثّر التصوف الشرقي في كثير من الفلاسفة والفنانين في ذلك الوقت، ولم يستثنِ مهرجوئي من هذا التأثير، إذ يمكن رؤية وَمَضات من هذا التصوف في أفلامه، وعلى وجه الخصوص في "هامون" و"سارا" و"الحورية".
مهرجوئي، الناشط الاجتماعي
كان مهرجوئي فناناً مهتماً بالقضايا الاجتماعية، لم يستطع تجاهل المصاعب التي تواجهها الطبقات المهمشة في المجتمع، ولهذا السبب أخرج عام 1996 فيلم "دائرة مينا"، عن الفقر، وقد ذاع صيت هذا الفيلم آنذاك، حيث كان هناك عدد قليل من صانعي الأفلام الإيرانيين، يصنعون أفلاماً تتعلق بموضوع الفقر والفساد.
كانت السينما الإيرانية حينذاك مشغولةً في الغالب بما يُسمى بأفلام الفتوّة المُسلية، التي كان أبطالها فتوات وعشاق يتمتعون بالحماسة والقدرة، وكانت النساء عبارةً عن سلع يتم تبادلها بين الرجال، ولم تكن لديهن شخصية خاصة بهن. في مثل هذه الأجواء، أصبحت شجاعة المخرجين الشباب كمهرجوئي، تعمل على تعريف القضايا وتعميق نظرة المجتمع إليها، وذلك من خلال إثارة الاهتمامات الاجتماعية والفلسفية في أفلامهم.
فيلم "دائرة مينا"، يروي قصة شاب صغير اسمه علي، يأخذ والده المريض إلى المستشفى للعلاج، ولكن بسبب الفقر لا يقبل المستشفى بمعالجة والده، فيقضون بضعة أيام على الرصيف بجوار أسوار المستشفى، حتى يلتقوا بشخص يُدعى سامري ويطلبون منه المساعدة، ويعدهم ذلك الرجل بمساعدتهم، لكن في ما بعد يتبين أنه تاجر دم، ويشتري دماء الفقراء ومدمني المخدرات بسعر رخيص، ويبيعها للمستشفيات.
بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، نقل هذا المخرج همومه الاجتماعية، إلى شاشة السينما مرةً أخرى. فيلم "المستأجرون"، الذي تم إنتاجه عام 1987، وبرغم أنه كان عملاً كوميدياً، إلا أنه أشار بوضوح إلى الوضع الراهن للمجتمع في ذلك الوقت، لا بل حذّر من انهياره.
أظهر فيلم "المستأجرون"، الحياة المشتركة للعديد من الجيران في عمارة واحدة، وهي ملك لشخص متوفى، ولم يتفق السكان على تقبل تكلفة ترميم العمارة وتجديدها. قدّم هذا المخرج صورةً عامةً عن الوضع الفوضوي الذي عاشته البلاد، من خلال التركيز على قضية السكن التي كانت من القضايا المهمة في إيران في أثناء ذلك الوقت.
وعلى الرغم من مرور أكثر من ثلاثة عقود على إنتاج هذا الفيلم، إلا أن قصته لا تزال قضيةً راهنةً يعاني منها المجتمع الإيراني، بل إنها توسعت أكثر مما كانت عليه في الماضي.
وفقاً لنتائج استبيان عام 2004، فإن مهرجوئي نجح في خلق سبع شخصيات مؤثرة من خلال أفلامه. وفي عام 2019، اختير كأفضل مخرج في تاريخ السينما الإيرانية من قبل "مجلة فيلم" الإيرانية
"عازف السنطور" وبالفارسية (سَنْتوري)، هو فيلم آخر لداريوش مهرجوئي، تم منعه من البث وتسبب في إحباطه وعزلته. مُنع الفيلم الذي أُنتج عام 2007، لأنه يروي قصة عازف هرب من تشدد أسرة متدينة، ووقع في فخ المخدرات بعدما انهار عاطفياً. هذا الفيلم لم يُعرض مطلقاً في صالات العرض في إيران، وبقي حتى الآن محظوراً.
بعد ذلك، لم يصنع هذا المخرج فيلماً جيداً، حيث توجه إلى صناعة أفلام بدائية، ما أحبط آمال معجبيه، وظلت مسيرته الرائعة مجرد ذكرى. مهرجوئي هو المخرج الوحيد الذي تم حظر أفلامه قبل الثورة الإسلامية وبعدها، فطوال حياته الفنية، واجه الرقابة والحظر.
الأدب في أعماله
الشيء الآخر المثير للاهتمام حول درايوش مهرجوئي، هو الارتباط الوثيق بينه وبين الأعمال الأدبية، حيث أنه ليس مجرد مخرج، بل هو كاتب ومترجم، ترجم مسرحيات مهمةً مثل "الدرس" و"المغنية الصلعاء" للكاتب المسرحي الروماني أوجين يونيسكو، إلى اللغة الفارسية.
معظم أفلامه مقتبسة من أعمال أدبية بارزة، ومن أشهر اقتباساته يمكن أن نذكر فيلم "الحورية"، المقتبس من رواية "فراني وزوي" للمؤلف الأمريكي جيروم ديفيد سالينجر، وفيلم "سارا" وهو مقتبس من مسرحية "بيت الدمية" للكاتب المسرحي النرويجي هنريك إبسن، وفيلم "البقرة" الذي كان مقتبساً من كتاب "أصحاب مأتم بَيَل" للكاتب الإيراني غلام حسين ساعدي، وفيلم "شجرة الكمثرى" المقتبس من كتاب يحمل الاسم نفسه من تأليف الروائية الإيرانية گُلي ترقّي، وفيلم "ضيف أمي" المقتبس من قصة قصيرة للكاتب الإيراني هوشنك مرادي كرماني.
حمل داريوش مهرجوئي عبئاً كبيراً من السينما الإيرانية وأثر بشكل كبير في تطويرها وسمعتها، كما قال عنه الممثل المخضرم الشهير الإيراني علي نصيريان: "مهرجوئي علّمنا السينما".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت