"عمي العزيز... لقد أجابني الوطن!"
"ليس اعتباطاً حين قالوا قديماً إن هذا ذيل الأسد، فلا تلعب بذيله!... الحقيقة أنني لم أعد أعتمد على أحد. أنا في الغربة في وحدة تامة وأحياناً أحزن من أجل نفسي في حال أنني أعرف أنني لم أؤذِ أحداً قط. لا ريب أنه قانون الغابة، جيداً كان أم سيئاً".
"السينما كذبة جميلة. يمكن للإنسان الحياة دون كذب ويجب أن يحيا. ولكن، الحياة دون كذب، صعبة جداً". (جزء من رسالة سهراب شهيد ثالث إلى عمه).
هذه العبارات هي من المخرج الإيراني سهراب شهيد ثالث الذي قال إنّ "بيتي هو المكان الذي يسمح لي بصناعة فيلمي".
صناعة الأفلام بالنسبة لشهيد ثالث هي الحياة ذاتها. ولد سُهراب عام 1944 في طهران. ذهب عام 1964 إلى فيينا لدراسة السينما ودرس في مدرسة المخرج البروفيسور كراوس. بعد فترة أُصيب بالسلّ وأكمل دراسته السينمائية في باريس.
"السينما كذبة جميلة. يمكن للإنسان الحياة دون كذب ويجب أن يحيا. ولكن، الحياة دون كذب، صعبة جداً"
في عام 1969 عاد إلى إيران، وعمل في وزارة الثقافة في المجال السينمائي. حتى عام 1975 حين ذهب إلى ألمانيا أخرج أفلاماً قصيرة ووثائقية وفيلمين روائيين. أكمل عمله السينمائي في ألمانيا ثمّ ذهب إلى تشيكوسلوفاكيا ومات في شيكاغو إثر نزيف في المعدة. جاءت ثمار عمره في 22 فيلماً قصيراً ووثائقي و12 فيلم روائي في إيران وألمانيا. بعيداً عن تفاصيل حياته وهجرته إلى ألمانيا وأمريكا، كان لشهيد ثالث تأثير ملموس على السينما الفنية والمستقلة في إيران. نجحت مرات أفلامه نجاحاً باهراً عالمياً وحصل فيلمه "الطبيعة الميتة" على جائزة الدب الفضي في مهرجان برلين.
سهراب شهيد ثالث اسم معروف في إيران وألمانيا، بيد أنّ حياته وعقائده وأفكاره ليست معروفة جداً بالنسبة للمتلقين السينمائيين. وإن كان شهيد ثالث من أهمّ المخرجين في زمنه، ولكنه لم ير نفسه إيرانياً ولا ألمانياً، كان العالم وطنه ولم يشأ الانتماء لأي عَلَمٍ أو مجموعة. ولكي نعرف لماذا كان متشدداً في هذه الناحية وفريداً في أفكاره، علينا النظر في سيرته وأعماله السينمائية.
كان حدثاً عادياً ظهور أول أفلامه الطويلة في العام 1973 في إيران، والذي كان يحكي قصة تلميذ باسم محمد يعيش حياة طبيعية مع أمه المريضة في مرفأ تركمن. يعمل أبوه في صيد السمك بصورة غير قانونية وتموت أمه مع مرور الوقت. يظهر أنّ القصة ليس فيها عقد دراماتيكية. عبر تأكيد شهيد ثالث أكثر من اللازم على تفاصيل حياة طفل، وكأنه كان هو بنفسه يصوّر وكلّ الأطفال الذين وصلوا إلى عمر عتيد وهم في الفقر والحرمان.
يقول شهيد ثالث عن هذا الفيلم: "هو طفل (كاراكتر الفليم) يسير بجانب سكة الحديد وقد صوّرته عن قرب. يظهر في المشهد أنه يسير بقرب الطريق وفي نفس الوقت وكأنه يسير في مكانه وفي الواقع لقد صوّرت كل حياته. كان هكذا وما سيلي سيكون على نفس المستوى. وهو واقف يسير إلى جهة هو نفسه لا يعلمها وأعتقد أنه حين كبر في العمر كان في نفس الحالة.
بعد سنة أخرج فيلم الطبية الميتة، وهو قصة مكررة عن رجل كبير في السن يعمل عامل إشارة قطار وزوجته، ويعيشان على هامش سكة الحديد. حين تصل إليه رسالة تقاعده لا يعرف ما يعنيه التقاعد ولا يتصوّر أن يعيش حياة بعيداً عن العمل والعمل، كأنه كان محتجزاً لسنوات في الفقر والوحدة.
كان كلا الفيلمين الطويلين في بداية مسيرته السينمائية مثل قمتين وكلاهما لهما نفس النظرة في طرح الواقعية، وحياة رتيبة، وأناس عاديين، وجهود لا طائل منها وتكرر الأحداث.
سهراب شهيد ثالث من أهمّ المخرجين في زمنه ولكنه لم يرَ نفسه إيرانياً ولا ألمانياً، كان العالم وطنه ولا يريد الانتماء لأي عَلَمٍ ومجموعة.
كتبت مهرناز سعيد وفا في مقال تحت عنوان سهراب شهيد ثالث مؤسس السينما الإيرانية المعاصرة: "عادة ما تكون أفلام شهيد ثالث لا بداية لها ولا نهاية وكأنّ الفيلم يبدأ من منتصف القصة وبعد نهاية الفيلم تستمر قصته. في أكثر أفلامه يبتعد عن تعاطف المشاهد مع الممثل. الجودة الأساسية الأخرى في عمل شهيد ثالث الإهتمام بالصمت وحذف الأصوات والابتعاد عن الموسيقى خاصة الموسيقى الصاخبة التي تدخل في الأفلام من أجل اشعال عواطف المتلقين. في أفلامه دخول أقلّ صوت له تأثيره الكبير... طريقة عمله في مراقبة التفاصيل ولحظات الحياة دون عواطف أو حوار وموسيقى ومونتاج عاطفي وتمثيلي... يمكن القول إنّ موضوعات أفلام شهيد ثالث الأساسية هي زوايا متعددة الاستثمار والغربة والانزواء. إن كانت الغربة في أفلامه الإيرانية بصورة غربة الطبقات الاجتماعية، ففي أفلامه الألمانية هي غربة ثقافية ووطنية، وإن كانت ثمة قضية في الطبقة التحتية، فهي غربة عاطفية، مثل العامل التركي في فيلم الغربة، الفتى هانس جواني نصف اليهودي من ألمانيا أو البغي في فيلم أوتوبيا".
يقول الرسام الشهير وصديق شهيد ثالث آيدين آغداشلو: "كان دائماً لديه مشكلة مع القدر. يظهر بصورة ما أنّ الناس يعيشون بناءً على القدر أي ليس بإرادتهم. دائماً ما كان يطرح هذا السؤال: هل يرضى الناس بالاستسلام للقدر؟ هل هم سعداء وقانعون؟ والأهم: هل على الإنسان الاستسلام أمام القدر ومصيره؟
ولأنه كان يتقن اللغة الفرنسية والألمانية، قرأ الأدب العالمي جيداً وتأثر بكافكا وتشيخوف، ومثلما هو الحال في نصوص كافكا، أبطال أفلامه يُهدَّدون من المجهول، سواءً كان المجهول القدرَ أو المصير أو شيئاً آخر. هذه النظرة الناتوراليسمية للعالم نراها في أكثر أعماله. كل أعماله تقريباً سوداوية وليدة البيئة والعائلة والجنسية وفي النهاية ناجمة عن جبر طبيعي.
لا ننسى أنّ أفلام شهيد ثالث الأولى صُنعت في فترة غلب فيها داخل إيران الطابع الشعبي السينمائي، بعيدا عن الأفكار والإبداع. في مثل هذه الأجواء كانت أفلامه تعتبر نوع من آليات المواجهة. اعتاد مواجهة الأنظمة والأهم مواجهة الرأسمالية. ولكن ليس بصورة استعارية أو رمزية.
يقول الشهيد ثالث في حوار معه: "القضية التي كانت تشغلني دائماً هي اتخاذ موقف أمام مجتمع الرأسمالية، سواءً إن أخرجت الفيلم في ألمانيا أو إيران. المكوّن الرئيس لأعمالي كانت هذه القضية. أعتقد أنّ هذا أهمّ من حشر فكرة عن طريق الفيلم في رؤوس الناس... أقصد أنه كان على من يعرض فيلماً ألا يحاول البحث عن نهاية سعيدة مبتسمة عبر شعارات ولافتات أن يخبر المتلقين أنه يمكن أن نثور بهذه الطريقة! لا أعتقد أنه عن طريق لغة السينما يمكن أخذ الناس جهة الثورة. يمكن لفت انتباه الناس إلى أنّ هذه الحياة لا تليق بهم. أي أن تخبر الناس أنّ هذه الحياة التي تعيشونها لا تليق بكم -على حدّ تعبير تشيخوف-. هذا هو دليل فقط. أرجّح أن أظهر علّة المرض بدلاً من إظهار العلاج".
إذاً كان شهيد ثالث مواطناً عالمياً، يؤمن أن مكانه يمكن أن يكون أيّ مكان في العالم، خاصة بوضع العالم الراهن يمكن أن يواجه وأن يكمل نضاله في أي بقعة. قد لا نجانب الحقيقة إن قلنا إنهم قلّة من هم مثله يستلمون المال من السلطة والرأسمالية ويخرجون أفلاماً في نقدهما. كان شهيد ثالث يستلم ميزانية أفلامه من الحكومة ولكنّ أفلامه بعبارة صريحة كانت تنتقد نفس هذه الحكومات، سواءً كان في إيران أم في ألمانيا.
هاجر سهراب شهيد ثالث في العام 1975 وقبل انتصار الثورة الإسلامية من إيران إلى ألمانيا، في الفترة التي كان له مكانة في إيران وكان يمكنه صناعة أفلامه بكل سهولة، بيد أنّ النظرة الآمرة الحكومية لم تلائم رؤيته الواقعية النقدية. كان يرى نفسه أنه منتمٍ إلى إيران ولكن ليس بقيمة البقاء فيها مهما تتطلب الأمر. واعتقد أنّ لديه ما يخبر العالم به.
أخرج عدّة أفام في ألمانيا. حصل فيلمه "في الغربة" على جائزة فيبرشي في مهرجان لندن ونجحت بقية أفلامه في المهرجانات. تراه الصحف الأمانية أنه برليني من إيران ويراه منتقدون أنه "شخصية بارزة من بين مخرجين الحركة السينمائية الجديدة الألمانية". بيد أنّ ألمانيا الغربية ليست أفضل من إيران.
كان يرى نفسه أنه منتمٍ إلى إيران ولكن ليس بقيمة البقاء فيها مهما تتطلب الأمر، واعتقد أنّ لديه ما يخبر العالمَ به
كان المجتمع الألماني حينها لا يتقبل المهاجرين. حذّرت إدارة الهجرة الألمانية شهيد ثالث مرات وكُتب في جواز سفره: "السماح بالإقامة لا يعادل السماح بالعمل" ولكنه كان يرى نفسه جزءاً من صناعة السينما الألمانية، وكتب في رسالة: "لا يمكنكم التخلص مني، لأني لن أذهب إلى موسكو! ليس لأنهم لا يريدونني، بل لأنني كمخرج، أخرجتُ حتى الآن خمسة أفلام في ألمانيا وكان لي دور في بناء ثقافة هذا البلد وجزء من ثقافة صناعة السينما تصبّ في صالحي،. أنتم يا سادة، ترون أنني إن أغلقت فمي أفضل، وعلي أن أبعد نفسي عن القضايا الداخلية، وإن لم يكن كذلك فأنا لست مواطناً!".
كُتب في جواز سفره: "السماح بالإقامة لا يعادل السماح بالعمل". مَن عمل مع أهمّ منتجي السينما الألمانية الحديثة الحكوميين حتى مكافاءاته لم تأخذ بعين الاعتبار وأجبرته الحكومة المحافظة لنظام ألمانيا الغربية أن يهاجر إلى أمريكا؛ المكان الذي حاول العمل فيه أيضاً لكنه لم يستطع.
تقول نفيسي عن أسباب عدم تمكن ثالث من إخراج فيلم في أمريكا: "قال لي. سلّمت ثلاثة سيناريوهات إلى الرأسماليين لأحصل منهم على دعم مالي. رُفضت السيناريوهات. حين وجدت أنني لا أستطيع صناعة أفلام- أفلامي ليست ذات نهايات سعيدة وفي النهاية لا أحد مستعد للاستثمار فيها- من هنا بدأت الكتابة بشدة. يقول إنني أبدأ العمل من الساعة الخامسة صباحاً وأعدّ الطعام لنفسي وأقوم باتصالات كثيرة. الجميع يخبرونني أن أخفف من تقدمي!".
وجد نفسه في حالة ضياع. استمرّ على نفس النمط لثلاث سنوات في هذه الحياة المتأزمة. يقول: "حين لا أستطيع صناعة فيلم لا تعنيني الحياة". مات شهيد ثالث بمرض سرطان المعدة عام 1088 في شيكاغو.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 9 ساعاتمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
Ahmed Adel -
منذ 3 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.