"جهاز يوضع على الحائط ويتحرك فيه الناس"؛ هكذا وصف ملك إيران مظفر الدين شاه القاجاري في مذكراته اليومية، جهاز "سينماتوغراف" حين رآه في فرنسا وأمر بشرائه عام 1900م.
بات ذاك العام نقطة انطلاق تاريخ السينما الإيرانية، ومنذ اللحظات الأولى لدخول الجهاز إلى طهران، استغلّه البلاط الملكي له، ومن ثم لمن حوله من قصور الأعيان والأمراء والقادة، فكان بضاعةً فخمةً وأرستقراطيةً، ليس إلا.
كانت تلك الطبقة في السنوات الأولى، تجلب الأفلام الروسية وتعرضها في حفلاتها، عكس ما كان يجري في أوروبا، حيث كانت السينما أحد أساليب التسلية العامة، فتُعرض الأفلام في المقاهي والصالات.
بعد أربع سنوات من حصر جهاز سينما توغراف بيد الطبقة الحاكمة ومن لفّ لفّها، دُشّنت أول دار عرض للسينما في طهران عام 1904، على يد رجل الأعمال الحديث إبراهيم خان صحاف باشي.
بعد الانفتاح الكبير في عهد النظام الملكي، تغيرت القيم والأعراف في عهد الحكم الإسلامي، وزاد ذلك من التباس السلوكيات الاجتماعية، وتشرد الكثير من نجوم السينما خوفاً على أرواحهم. وأصدرت الحكومة منهجاً جديداً للفنانين كان بمثابة نقطة انفصال عن الماضي
"تم اختراع جهاز كهربائي، يجعل كل شيء يتحرك في نفس حالته الأصلية. على سبيل المثال يُظهر الجهاز شلال أمريكا كما هو"؛ ما سبق مقتطف من وصف التاجر الإيراني صحاف باشي، في مذكراته عام 1897، أي في السنة التي تعرّف فيها على ظاهرة السينما حين زيارته بريطانيا. وحين عودته جلب معه جهاز عرض (فيديو) " Video projector"، كي يسهم في تعميم السينما في وطنه.
حيوية دور السينما
كل شيء كان خيالياً بالنسبة للإيرانيين. إنها مفاجئة من عيار ثقيل، حيث كان بإمكانهم مشاهدة أفلام كوميدية وخبرية لا تتجاوز مدتها 10 دقائق، في نوبات مسائية، إلى جانب تناول المشروبات والحلويات في صالة سينما "إبراهيم خان". بيد أن الحالة هذه لم تدُم سوى شهرٍ واحدٍ، إذ إن رجل الأعمال قد أفلس، فاضطر إلى بيع كل مستلزمات صالة السينما.
بعد سنوات جاء دور تاجر آخر اسمه روسي خان، من أصول روسية بريطانية، وفتح داراً للسينما، معتمداً على خبرته في بلاط الشاه حيث كان يعرض الأفلام لزوجات الملك.
كان روسي خان، معارضاً للثورة الدستورية (المطالبة بإسهام المواطنين في الحكم)، والتي بدأت عام 1906، وبعد الاحتجاجات والفوضى تم تدمير صالته السينمائية، حتى اضطر إلى أن يهرب من إيران.
أما الأرميني أردشير خان، فله الحصة الأكبر في نشر ثقافة السينما بين أوساط المجتمع، حيث فتح صالته عام 1912، ثم افتُتحت بعده دور السينما واحدةً تلو الأخرى في العاصمة والمدن الكبرى الإيرانية، مثل الأهواز وتبريز ومشهد وأصفهان.
كانت معظم هذه القاعات تُستخدم لعرض الأفلام والمسرحيات، وجاء في كتاب "طهران القديمة" لمؤلفه جعفر شهري، حول إحدى هذه الصالات: "من الأماكن التي كانت تُستخدم أحياناً كدار عرض للأفلام، قاعة غراند هوتيل. فعند ركود المسرح تُعرض الأفلام هناك، حالها حال بقية القاعات (في المدينة)، ولإعمال هذا التغيير ما عليهم سوى أن يغيّروا ستار المسرح، ثم يعلّقوا شاشة السينما...".
إقبال الناس على الأفلام الصامتة، جعل أصحاب دور السينما يبتكرون حلاً صوتياً، فقرروا أن يجلبوا فرق أوركسترا، ليعزفوا مقطوعات قبل العرض وفي أثناء الأفلام الصامتة الإيرانية، أما الأفلام الأجنبية فكان هناك جهاز غرامافون خلف الشاشة يبث أغنيات غربيةً.
كل هذا التطور السينمائي في العقد الثاني من القرن العشرين كان حكراً على الرجال فحسب، فالمجتمع المحافظ الإيراني لم يتقبل فكرة خروج السيدات لمشاهدة الأفلام. ومن هذا المنطلق ابتكر أصحاب القاعات فكرةً جديدةً وهي تدشين قاعات نسائية، فنجحت الفكرة. كما خصصت دار "غراند هوتيل" جزءاً من قاعتها للنساء، وقامت بعزل المداخل وجاء في إعلان أفلامها: "مدخل السيدات المحترمات من غراند سينما، ومدخل السادة المحترمين من غراند هوتيل، إن الطاقم الإداري والشرطة سوف يمنعون دخول الشباب الفاسدين والنساء غير العفيفات إلى القاعة ويمنعون بيع التذاكر لهم".
صناعة الأفلام المحلية
بدأ الناشطون في صناعة السينما العمل على دبلجة الأفلام الأوروبية الناطقة أولاً، مما خلق نهضةً كبيرةً في استقطاب عامة الناس لمشاهدة الأفلام في عموم البلاد، ثم قرر بعض السينمائيين صناعة أفلام قصصية محلية، وكانت البداية مع الأرميني أوفانيس أوهانيان (Ovanes Ohanian)، فأخرج أول فيلم سينمائي إيراني صامت عام 1929، تحت عنوان "آبي ورابي". كان الفيلم كوميدياً مستوحى من السينما الدنماركية، وقد شاهده الإيرانيون مراراً في دور السينما.
كتبت عنه صحيفة "إطلاعات" وقتذاك: "الساعة 5 بعد الظهر، تم عرض أول فيلم إيراني مع ممثلين إيرانيين... الفيلم فيه نواقص عدة، حيث أنه مظلم وكانت الوجوه سوداء، كما أن الجزء الفني من الفيلم لم يكن مرضياً".
لم يكن أوهانيان، الأرميني الوحيد في السينما الإيرانية، بل اشتغل المئات من الجالية الأرمينية في البلاد، رجالاً ونساءً، في الكثير من الشؤون السينمائية كالتصوير والصوت والمونتاج والإنتاج والموسيقى والتمثيل والكتابة والإخراج وإدارة دور السينما، منذ اللحظات الأولى من انطلاق السينما في إيران وحتى يومنا هذا، إذ ما زالوا يتفننون في حقل الفن السابع.
وُلد أول فيلم إيراني ناطق عام 1932، باسم "دُخْتَر لُر" (بنت اللُّر)، وتم إنتاجه في إستديو إمبريال في دولة الهند، بممثلين إيرانيين. حفاوة الاستقبال كانت بالغةً إلى درجة أنه كسب بعض السجلات الخاصة به مثل عدد المشاهدين وكمية المبيعات، لم ينلها فيلم آخر إلا بعد مرور سنوات.
كل ذلك لم يمنع ألا تتعرض نجمة الفيلم الممثلة صِّديقة سامي نجاد، لضغوط وانتقادات من أسرتها بعد عودتها من الهند إلى إيران، فتركت السينما وعاشت في عزلة لفترة معينة: "من أجل المشكلات التي عانيت منها من قبل أسرتي ومن قبل الناس، رفضت التمثيل في أي فيلم آخر"، حسب قولها.
تعطلت السينما الإيرانية في أثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، حيث كانت إيران محتلةً من قبل الروس والبريطانيين الذين قاموا بعزل الشاه ونفيه، وقد عمت الفوضى عموم البلاد. بعدها أيضاً لم تنتج السينما أي فيلم حتى مرور عقد وعامين.
ومع مطلع خمسينيات القرن المنصرم، مرةً أخرى نهضت السينما الإيرانية لتواكب أفلام العالم، ومنذ ذلك الوقت بدأت الحكومة ترعى قطاع السينما وتساهم في تربية أجيال سينمائية من مخرجين وممثلين ومصوّرين وغيرهم.
أفلام إيرانية على نمط هوليوود
لم تركز السينما الإيرانية على محتوى الأفلام كثيراً، فكانت تذهب إلى إنتاج النموذج الهوليوودي الغالب آنذاك، شأنها شأن الكثير من شركات السينما في العالم، حيث كان يُعرف هذا النمط من الأفلام بـ"فيلْم فارسي" في البلاد.
رويداً رويداً أثبتت السينما الإيرانية حضورها الفاعل والنشط في إيران، ثم انطلقت إلى العالمية لتشارك في أحدث مهرجانات السينما، وحتى بعد الإطاحة بالنظام الملكي وتأسيس نظام الجمهورية الإسلامية عام 1979، ثم فترة الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات، لم تتوقف عن الإبداع.
بعد الانفتاح الكبير في عهد النظام الملكي، تغيرت القيم والأعراف في العهد الإسلامي، وزاد ذلك من التباس السلوكيات الاجتماعية، وتشرد الكثير من نجوم السينما خوفاً على أرواحهم. وأصدرت الحكومة منهجاً جديداً للفنانين كان بمثابة نقطة انفصال عن الماضي.
تم منع تصوير أي علاقات جسدية بين النساء والرجال منعاً باتاً، بما فيها القبلات والعناق، والتطرق إلى المواضيع الحميمة بين الزوجين كذلك، بالإضافة إلى فرض الحجاب حتى في أثناء تمثيل مشاهد داخل المنزل أو النوم، كما منعت أي لمس جسدي بين الممثلين حتى في الأدوار العائلية.
على الرغم من براعتها في النوع الاجتماعي، إلا أن السينما الإيرانية تتنوع في إعداد الأفلام البوليسية والكوميدية والرعب والرسوم المتحركة والشاعرية، كما يتعاون بعض نجومها مع هاليوود
أصبحت السينما الإيرانية غارقة في الواقعية، وتمكّن مخرجوها من تقديم أسلوب سينمائي عميق ومتكامل بعيداً عن الإبهارات والخدع البصرية، مع الحرص على صناعة أفلام غير مملّة تنجح في جلب الأنظار الدولية، حتى خلقت تحفاً سينمائيةً وقف لها الآلاف مصفقين حول العالم.
نالت السينما الإيرانية جوائز عدة خلال السنوات الماضية، ويمكن لنا أن نذكر أشهر مخرجيها على صعيد العالم ومنهم: أمیر نادري، عباس كِيَارُسْتَمي، محسن مخمَلباف، أصغر فرهادي، إبراهيم كُلستان، جعفر بَناهي، مجيد مجيدي، والمخرجة رَخشان بني اعتِماد.
4 آلاف فيلم إيراني
تقيم إيران مهرجان "فجر" السينمائي الدولي منذ 40 عاماً، إلى جانب عشرات المهرجانات السينمائية التي تقام على مدار السنة، وهذا ما شجع على تفعيل صناعة السينما في البلاد، إذ إن التداول المالي في السينما الإيرانية يصل إلى نحو 300 مليار تومان، أي ما يعادل 10 ملايين دولار سنوياً، وهذه البساطة في السينما الإيرانية والميزانيات القليلة تدلّنا على أسلوب سينمائي يميّز المخرجين الإيرانيين عن الآخرين في رسم حبكة درامية جذابة تجعل المشاهدين يعيشون أجواء الأفلام متفاعلين مع شخصياتها.
منذ عام 1930 إلى 2022، تم إنتاج 4 آلاف فيلم سينمائي إيراني، كما تمتلك البلاد نحو 650 صالة سينما، إلى جانب نشاط عشرات المعاهد التعليمية في مجال التمثيل وبقية الوظائف السينمائية، فضلاً عن كلّيات العلوم السينمائية والثانويات المخصصة للفتيات والفتيان.
وعلى الرغم من براعتها في النوع الاجتماعي، إلا أن السينما الإيرانية تتنوع في إعداد الأفلام البوليسية والكوميدية والرعب والرسوم المتحركة والشاعرية، كما يتعاون بعض نجومها مع هاليوود.
ولكن ما زال نجوم الفن يشتكون من الرقابة الصارمة التي تطال أعمالهم، فبينما أهدى مهرجان البندقية السينمائي جائزته إلى المخرج جعفر پَناهي لأحدث أفلامه "لا أعباء"، يقبع الرجل في الحبس منذ تموز/يوليو الماضي، ليقضي عقوبةً بالسجن مدتها ستّ سنوات بعد إدانته بتهمة "الدعاية ضد الجمهورية الإسلامية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...