تندرج هذه المادة ضمن ملف الطريق إلى إيران، في رصيف22.
اتسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء في سبعينيات القرن الماضي في إيران، وتدهور الوضع الاقتصادي الإيراني، وطالت الاتهامات الشاه محمد رضا بَهْلَوي وأسرته بالديكتاتورية والقمع والفساد ومشروع "التغريب" (التشبه بالغرب) الذي حاول أن يغير الهوية الإيرانية.
انتصرت الثورة الإسلامية في إيران بعد إطاحة النظام الملكي في نهاية ذالك العقد وبحلول عام 1979، لتنتقل البلاد ولأول مرة في تاريخها من نظام ملكي دام لقرون إلى نظام جمهوري أُسس على نظرية "ولاية الفقيه" من قبل الزعيم الديني روح الله الخميني.
وخلال 16 شهراً استمرت الأحداث الحاسمة من مظاهرات وإضرابات في أرجاء البلاد حتى شكلت مشهداً سياسياً قل نظيره، شارك فيه معظم التيارات وشرائح المجتمع والأحزاب السياسية المعارضة من داخل وخارج البلاد.
الأسباب
بنى الشاه سياساته الاقتصادية على أساس الرأسمالية، واندمجت السلطة والثروة فأثرت سلباً على معيشة شرائح مختلفة من المجتمع الإيراني عبر التضخم الاقتصادي خاصة بعد مشاهدة المواطنين إسراف أسرة الشاه وبذخها. كما قمع الشاه القوميات الكُردية والعربية والبلوشية والأذرية والتركمانية، وطبّق سياساته في فقدان الحريات العامة، حتى زادت درجة الفوضى الاجتماعية والاقتصادية، وخلقت عاملاً جوهرياً في اندلاع موجات احتجاج متعاقبة كانت قد مهدت لانتصار الثورة.
أضاع الشاه كل فرص النقل السلمي للسلطة إلى الشعب، عندما ارتكب الجيش وجهاز "السافاك" مجازر مروعة ضد المتظاهرين، خاصة مجزرة "الجمعة السوداء"
أما السبب الثاني فهو العامل الديني؛ فقد عمل الشاه على "تغريب" هوية إيران، وأقيم مهرجانات ثقافية على طريقة الأوروبيين، وحفلات غنائية، وإنتاج أفلام على النمط الغربي، وإعطاء مزيد من الحريات للنساء، وتهميش الدين وإبعاد رجاله من السلطة وتحديد موقعهم في المدارس الدينية.
وجاء تأثير رجال الدين وأبرزهم آية الله الخميني في الثورة ومساهمتهم الكبيرة في انتصارها على أساس العامل الديني، حيث كان لهم شعبية واسعة لدى شرائح المجتمع وكانوا يستغلون المناسبات الدينية لحث الناس على المعارضة والنزول إلى الشوارع، وبرزت مكانة الخميني المرموقة كمدافع عن حقوق الفقراء، حتى باتت كلمته تدفع نحو احتجاجات شعبية واسعة.
وكان السبب الآخر يعود إلى المشهد السياسي، إذ منع الشاه نشاط الأحزاب السياسية وكرّس سياسة الحزب الواحد المتمثلة بحزب "رَسْتَاخِيز" (البعث في الفارسية)، وهو الحزب الحاكم. كما لاحق الشاه معارضيه عبر أساليب عنيفه في تصفيتهم جسدياً أو معنوياً على أيدي جهاز الأمن "السافاك".
التيارات
توّحدت صفوف المعارضة من اليساريين والليبراليين والقوميات مع الإسلاميين للقضاء على النظام الدكتاتوري، رغم خلافاتها الفكرية والعقائدية وأهدافها الاستراتيجية وخططها التكتيكية. ومنها الطبقة الليبرالية، وهم نخب درسوا في الغرب، وكانوا يطمحون لتحقق الديمقراطية. ومن رموز هذا التيار: شابور بختيار الذي كان آخر رئيس وزراء عيّنه الشاه قبل إسقاطه في محاولة للاستحواذ على الأزمة، والمهندس مهدي بازَرْكان الذي أصبح أول رئيس وزراء مؤقت بعد السقوط.
أما دوافع التيار اليساري الذي يضم فصائل الماركسيين، والاشتراكيين، واليسار الإسلامي، كانت تتمثل في الثورة الاجتماعية لصالح الطبقات الفقيرة. ومن رموزه: نور الدين كِيانوري، رئيس حزب توده (الجماهیر) الشيوعي، ومسعود رجوي، رئيس منظمة "مجاهدي خلق".
أعلن الخميني قبل انتصار الثورة أنه ليس على رجال الدين أن يتقلدوا المناصب السياسية والتنفيذية، كما أكد عودته إلى مدينة قم الدينية، ولكن تغيّر ذلك بعد إعلان حكومة إسلامية
كما كان للحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني والجبهة الديمقراطية الثورية لعرب الأهواز حراك مناهض للشاه في المناطق الكردية والعربية، في جنوب، وجنوب غرب إيران.
أما أبرز رموز الجماعات الإسلامية التي كانت تحرك الجماهير عبر المساجد والحسينيات لإقامة دولة الإسلام: آية الله الخميني وآية الله حسين علي منتظري صاحب نظرية "ولاية الفقيه"، وآية الله محمود طالقاني، والشيخ محمد حسين بِهِشْتي، والشيخ مرتضى مطهري.
توّحدت التيارات وما كان لها إلا أن تقبل بزعامة آية الله الخميني نظراً لمكانته الدينية والشعبية الجارفة في البلاد. ومما ساهم في ذلك، نفيه من البلاد لفترة 15 عاماً (1964-1979) ووفاة نجله "مصطفى" في النجف العراقية في حالة من الغموض، لتتحول مراسيم عزائه في مدن إيرانية إلى اجتماعات تندد بالنظام.
اعتمدت أنشطة المعارضة تنظيم مظاهرات مليونية، وهجمات مسلحة، وتنفيذ عصيان مدني واسع، وإضرابات مدنية عامة في مؤسسات رسمية كبرى في قطاع الطاقة والنقل، مما أضر باقتصاد الدولة.
الموقف الغربي
ضغط الشاه الإيراني على حزب البعث العراقي، فغادر الخميني العراق إلى فرنسا ليقطن بالقرب من باريس بمنطقة "نوفل لوشاتو" في 6 تشرين الأول/أكتوبر 1978، وليكسب في ذلك توجهاً إعلامياً كبيراً من الغرب، حيث أجريت عشرات اللقاءات الإعلامية معه، والتقى بالكثير من نخب الجالية الإيرانية في أوروبا، واعتبرت إقامته في فرنسا ضوءاً أخضر أمريكياً وأوروبياً لزعامة الخميني على الثورة الإيرانية، التي سمّاها الأخير "الثورة الإسلامية".
انتقد الغرب وضع حقوق الإنسان في إيران ومواجهة المتظاهرين بالقوة المفرطة، ووافق على تنحّي الشاه من منصبه، كما لم يعارض طموحات التيار الإسلامي، خوفاً من وقوع البلاد بيد الشيوعيين والاتحاد السوفياتي.
اللحظات الأخيرة
أضاع الشاه كل فرص النقل السلمي للسلطة إلى الشعب، عندما ارتكب الجيش وجهاز "السافاك" مجازر مروعة ضد المتظاهرين، خاصة ارتكابها مجزرة "الجمعة السوداء" بعد فتح النار من الطائرات المروحية على مظاهرة تضم نصف مليون مواطن إيراني احتجاجاً على حالة الطوارئ التي أعلنها الملك، راح ضحيتها نحو 4500 قتيل في 8 من أيلول/ سبتمبر من نفس العام.
غادر الشاه البلاد بذريعة العلاج في 16 كانون الثاني/ يناير 1979 نحو القاهرة، واستقبله الرئيس المصري أنور السادات الذي كانت تربطه علاقات صداقة ومصالح استراتيجية بالشاه. وعيّن الشاه المعارضَ شابور بختيار، أحد قادة الجبهة الوطنية، رئيساً جديداً للوزراء، ليفسح بختيار المجال أمام المعارضة في المزيد من التظاهرات، وقبل بعودة الخميني.
عاد الخميني في الأول من شباط/ فبراير من منفاه في فرنسا إلى العاصمة طهران وسط استقبال جماهيري اعتبر أكبر حشد في تاريخ البلاد، وقدّرته مصادر داخلية ودولية بالاستقبال المليوني.
رفض الخميني محاولات رئيس الوزراء المحسوب على المعارضة، للوصول إلى حل سلمي دون انهيار الدولة، وفي الرابع من شباط/فبراير شكل حكومة مؤقتة برئاسة مهدي بازَركان، من الجبهة الوطنية المعارضة التي ينتمي إليها شابور بختيار كذلك.
لم يقبل بختيار بالاستقالة إلا في 11 من الشهر نفسه، ليحل محله زميله في المعارضة مهدي بازركان، وفي نفس اليوم أعلن رئيس أركان القوات المسلحة "حياد الجيش"، ليشكل ذلك اليوم إعلاناً رسمياً لسقوط النظام الملكي ونجاح الثورة.
عشرية الفجر
ومنذ وصول الخميني في الأول من الشهر حتى 11 من شباط/فبراير سنة 1979، وإعلان أول حكومة ثورية مؤقتة، تحتفل إيران بـ"عشرية الفجر" وهي أيام حاسمة شهدت تحولات سياسية بارزة.
في بداية نيسان/أبريل تم إجراء استفتاء شعبي على تأسيس نظام "الجمهورية الإسلامية" مع وجود منصب الولي الفقيه على رأس الدولة، وأعلن الخميني تأييد الإيرانيين لذلك بنسبة 98%، وسط معارضة بعض التيارات على التسمية ومنصب الولي الفقيه.
كما طالبت القوميات الإيرانية كالأكراد والبلوش والعرب بحكم ذاتي، بيد أن الخميني وباقي قوات المعارضة حالت دون ذلك خلافاً لوعود ما قبل انتصار الثورة، وقمعت هذه المطالب بقوة.
تأسيس الحزب الحاكم
في الخامس من أيار/مايو 1979، تم تشكيل "حرس الثورة الإسلامية"، بمرسوم من آية الله الخميني، وانضم الحرس للقوات المسلحة الرسمية. وسمح الخميني بتأسيس حزب الجمهورية الإسلامية، وتم تهميش التيارات الليبرالية في ما بعد، خاصة بعد معارضتهم مع أزمة رهائن السفارة الأمريكية بطهران في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر التي تمت على يد أنصار الخميني.
وفي ذلك برز دور رجل الدين الشاب علي أكبر هاشمي رفسنجاني، في قرارات الخميني، وبدأ يتحكم في معظم السياسات، كما سطع نجم الشاب علي خامنئي، عندما أصبح خطيب صلاة الجمعة في العاصمة طهران، ليتقلد الاثنان في ما بعد مناصب قيادية كبرى بعد مشروع تصفية باقي التيارات.
أعلن الخميني قبل انتصار الثورة أنه ليس على رجال الدين أن يتقلدوا المناصب السياسية والتنفيذية، كما أكد عودته إلى مدينة قم الدينية، ولكن تغيّر كل ذلك بعد إعلان حكومة إسلامية ليقطن في العاصمة طهران، ويسمح لرجال الدين بدخول أروقة السياسة.
وبعد الليبراليين جاء دور تصفية اليسار الإسلامي كمنظمة مجاهدي خلق بزعامة مسعود رجوي، وهي منظمة كافحت من أجل إزالة النظام الملكي. ومن ثم عمل الإسلاميون على تصفية الشيوعيين في سنة 1982. كما تم إبعاد المعتدلين من رجال الدين أمثال المرجع الديني حسين علي منتظري من المشهد السياسي، ليتفرد الخميني وأنصاره في الحكم.
وفي عام 1988 وبعد قبول الخميني باتفاقية السلام مع العراق بعد الحرب الطاحنة التي دامت لثماني سنوات، شنت محاكم الثورة الإسلامية حملة إعدامات نفذتها في حق سجناء الرأي والسياسيين وتم دفنهم في مقابر جماعية. وتراوحت أعداد الضحايا بين 1800 إلى 4 آلاف شخص.
"موت الثورة"
بعد أن كان "رستاخيز" الحزب الحاكم في العهد الملكي، أصبح حزب الجمهورية الإسلامية هو الحزب السياسي الوحيد في إيران، لينقسم في ما بعد إلى تيار يساري ويميني، يتصارعان على المناصب الحكومية دون المساس بمنصب الولي الفقيه، وهي ولاية مطلقة لها الحق في اتخاذ القرارت في جميع شؤون حياة المواطنين. وتقلد القيادة علي خامنئي برعاية هاشمي رفسنجاني بعد وفاة الخميني في عام 1989.
وصف عالم الاجتماع الإيراني الشهير تقي آزاد أرمكي أن نظام الجمهورية الإسلامية بات "عجوزاً"، إذ إنه لا يتكيف مع مطالب الجيل الجديد، وأكد أن مشاريع النظام اليوم تصب في خانة بقائه فحسب
بعد 44 عاماً على انتصار الثورة الإيرانية، والتي أنجبت الجمهورية الإسلامية، زاد استياء المواطنين منها، خاصة الأجيال التي لم تعش ظروفها، وذلك جراء تفاقم أزمة العيش، والحرمان من الحريات الفردية، وتطبيق أحكام الشريعة.
وبعد احتجاجات المرأة، الحياة، الحرية التي انطلقت منذ أيلول/سبتمبر 2022، قال الفيلسوف الإيراني بِيْجَن عبد الكريمي: "أنا أعلن نهاية ثورة 1979 وموتها"، وأكمل حديثه: " لا يزال قادة البلاد يحاولون فرض النظام باستخدام القوة".
ووصف عالم الاجتماع الإيراني الشهير تقي آزاد أرمكي أن نظام الجمهورية الإسلامية بات "عجوزاً"، إذ لا يتكيف مع مطالب الجيل الجديد وأكد أن مشاريع النظام اليوم تصب في خانة بقائه فحسب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...