شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
كيف تؤثر السياسة على الجسد والحياة الجنسية؟… تساؤلات حول فيلم

كيف تؤثر السياسة على الجسد والحياة الجنسية؟… تساؤلات حول فيلم "كعكتي المفضلة"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سعى فيلم "كعكتي المفضلة"، إلى إعادة بناء المفاهيم الحديثة عن الوحدة والشيخوخة، مستوحياً الكثيرَ من أعمال هوبر وفرويد في سياق واقعي، حيث بتركيزه على الوحدة والمساحة الفارغة في المشاهد، يشبه إلى حد كبير أعمال الرسام الأمريكي إدوارد هوبر، التي يهيمن فيها الشعور بالعزلة الحديثة والصمت البصري، ومن ناحية أخرى عرض الوجوه والأجساد المرهقة والشائخة التي يتكلم عنها لوسيان فرويد.

ركزت المشاهد في الفصل الأول، على السمات الشخصية لِمَهين، وهي امرأة مسنّة منهكة تحاول تعريض جسدها للانهيار من خلال إظهار عزلتها ووحدتها، إذ تقف أمام المرآة، وتحاول إخفاء انهيار وجهها خلف المكياج، فتضع طلاء أظافر وتحدد عينيها، وتقيم حفلةً مع صديقاتها وتذهب للتسوق، لكنها لا تزال تشعر بالوحدة وبالتقدّم في السنّ.

ملصق فيلم "كعكتي المفضلة"

مشكلة مَهين ليست في إقامة العلاقات مع الناس، بل تكمن في جسدها المتقدم في العمر والخامل، حيث لم يعد رشيقاً يجذب الرجال، وهذا الأمر يظهر بوضوح، في المشهد التي تقترب فيه من رجل عجوز، لتختبر إغراء جسدها. من هذا المنطلق، يمكن القول إن قضية فيلم "كعكتي المفضلة" هي الجسم، لذلك يمكن تفسير بعض ردود أفعال مَهِين من منظور جنسي؛ فعلى سبيل المثال، في المشهد الذي تتشاجر فيه مع شرطة الحجاب، لم يكن بالضرورة فعلها هذا فعلاً اجتماعياً، ولكن يمكن اعتباره فعلاً جسدياً وجنسياً، حيث الشخص الوحيد الذي يستطيع لمسها، هو شرطي الحجاب!

سعى فيلم "كعكتي المفضلة"، إلى إعادة بناء المفاهيم الحديثة عن الوحدة والشيخوخة. وبتركيزه على الوحدة والمساحة الفارغة في المشاهد، يشبه إلى حد كبير أعمال إدوارد هوبر 

الجسم والجسد، هما أهم نقطة في الفيلم، إذ تدور أحداثه حول الأجساد، من جسم مهين إلى جثة الرجل العجوز فَرامَرْز الذي دفنته في حديقة منزلها. ومن خلال هذا يمكن طرح سؤال هو: هل يمكن اعتبار رد الفعل غير المعتاد لمهين، في الاستيلاء على جثة فَرامَرز والاحتفاظ بها أمراً منطقياً وعقلانياً، أم أن هذا العمل غير الطبيعي والمحفوف بالمخاطر مجرد استمرار طبيعي، من عملية تطوير شخصيتها في الفيلم؟ وفي هذه الحالة كيف يمكن تبرير هذا الفعل؟

أبسط وأسرع صورة غير تقليدية وعنيفة يمكن مقارنتها بهذا المشهد، هي مشاهد الجزء الأخير من فيلم "الحبيب" (آمور) للمخرج النمساوي مايكل هاينيكي، وتبعاً لهذا الفيلم، إذا صنفنا البشر في ثلاث فئات نفسية، هي: الصحي وغير الصحي والعادي من حيث السلوك، ففيلم "الحبيب" يفسّر العنف والقتل على أنه حب، وفي "كعكتي المحبوبة" تكون رغبة مَهين في احتفاظها بجثة فَرامَرز، هي هذه الفكرة نفسها.

لقطة من فيلم "كعكتي المفضلة"

كلّ من الموسيقار العجوز في فيلم "الحبيب"، والمرأة العجوز في "كعكتي المفضلة"، لا يتصرفان بسلوكيات طبيعية، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن سلوكهما غير صحي، حيث أن مقتل امرأة عجوز على يد زوجها في فيلم هاينيكي، ليس أمراً طبيعياً وفقاً للثقافة والمعتقدات الحديثة، لكنه لا يبدو غير عقلاني أيضاً، لا سيما أن المرأة العجوز على وشك الموت وتتألم بشدة من مرضها المميت، وزوجها ساعدها في أن ترتاح من الألم بقتلها.

لكن في فيلم "كعكتي المفضلة"، يُظهر رد فعل مهين اضطرابها السلوكي؛ حيث أنها تخاف من الوحدة ولا تتحمل الابتعاد عن منزلها، حتى أنها جرّبت الحب في ليلة واحدة في نفس هذا المكان الآمن بالنسبة لها، وهو المنزل الذي دفنت جسد فرامرز، في حديقته مثل زهرة أو شجرة، وذلك ربما لينبت فيها مجدداً، لكن العقل والمنطق لا يقبلان مثل هذا الأمر.

في اعتقاد الشرقيين، فإن أحداث فيلم هاينيكي، تدور حول العقل، في حين أن فيلم "كعكتي المفضلة" تَرَك الأمور العقلانية جانباً ومهّد الطريق لمهين لتكون طفلةً تجازف وتكون عرضةً للخطر، لكن الصحة النفسية هي بلا شك ملك للرجل الغربي العجوز.

الرجل المسنّ، وُلد في مجتمع خلقت معاييره القوانينُ التحررية للحضارة، إذ تقوم حياته على نظام رمزي وإنساني التوجه، وهو ترتيب يحكمه المنطق، ففي مثل هذه الظروف، يُظهر الرجل العجوز في النهاية، أن اتّباع الأعراف دائماً ليس بالضرورة علامةً إنسانيةً، وفي الواقع فإن فعلة الرجل العجوز الذي لا يتصرف بشكل طبيعي، والذي قتل زوجته المريضة، تدلّ على صحته السلوكية.

لكن في فيلم "كعكتي المفضلة"، فالدين والتقاليد السائدة في المجتمع جعلت الوضعَ صعباً بالنسبة لمهين، كما أن وحدتها ساعدت على اضطرابها العقلي، وفي هذا المجتمع غير الصحي، تُظهر البطلة سلوكاً غير مناسب.

مهين وفَرامرْز في فيلم "كعكتي المفضلة"

عصاب مهين أو الصحة العقلية للموسيقي العجوز والمقارنة بين هذين المشهدين، من عملين مختلفين تماماً في الثقافة والتاريخ، تحكي عن الحياة الطبيعية. وبمقارنة هذين الفيلمين يسهل أن نفهم أن المكان الذي جرت فيه أحداث "كعكتي المفضلة"، ليس مكاناً عادياً وصالحاً للسكن، حيث أجّج صنّاع الفيلم الملل الحالي في الشوارع والأماكن العامة من خلال عدم استخدام الصور السياحية للمدينة.

وفي الواقع، فإن جماليات المشاهد الخارجية تقوم على انعدام الجمال، على عكس ما يمكن أن نجده في الأعمال السينمائية الإيرانية الأخرى، حيث إيقاع المشاهد الخارجية ممل، وهناك رجل في كلّ من هذه المشاهد، يجسد دور بائع الفاكهة أو السائق أو البواب أو حتى المواطن العادي الجالس في المطعم، فكل واحد منهم اعتلى المسرح وجعل المكان خاصاً به.

ومهين لا تعمل شيئاً في هذه المشاهد، سوى أنها تراقب الأماكن والرجال المتواجدين في كل مكان، فتتعرض لنظرة الرجل في كل موقف خارج المنزل، وفي هذه الأثناء هناك مشهد خارجي، وإن كان يدلّ بشكل مباشر على سياسة الحكم والنظام، إلا أن وجوده يدمّر وظيفة سائر المشاهد الخارجية، ومشهد الشجار أمام سيارة شرطة الأخلاق، يُظهر هذا الأمر.

أهمية فيلم "كعكتي المفضلة"، تكمن في تركيزه على العالم غير الآمن والحزين خارج بيت مهين، التي تفضّل البقاء في بيتها مبتعدةً عن العالم المخيف في الخارج، فهي تخبز فيه الكعك، وتقيم فيه الحفلات، وترقص مع حبيبها في البيت، وهذا المكان يكون بمثابة عالمها المحدود والمعزول، الذي لا علاقة له بالعالم الرجولي والمملّ في الخارج.

في فيلم "كعكتي المفضلة"، الدين والتقاليد السائدة في المجتمع جعلت الوضعَ صعباً بالنسبة لِمَهين، كما أن وحدتها ساعدت على اضطرابها العقلي، وفي هذا المجتمع غير الصحي، تُظهر البطلة سلوكاً غير مناسب

يمكن مقارنة هذا الفيلم، بفيلم آخر هو فيلم "الجنة/الحب"، للمخرج النمساوي أورليخ زايدل، الذي يحكي تجربة امرأة عجوز على وشك التدهور الجسدي والعقلي، تسعى إلى إقامة علاقة جنسية وإيجاد شريك جنسي قبل مماتها. أحداث وقصة هذا الفيلم، تكون مقبولةً بالنسبة للمشاهد الذي يعيش الحضارة بأشكالها الحديثة، فتجربة المرأة العجوز في فيلم "الجنّة/ الحب"، ليست شيئاً جذرياً فحسب، بل يمكن اعتبارها رحلةً ممتعةً ومحررةً، ومن هنا يمكن اعتبار أن كل شيء يعتمد على معتقدات المُشاهد.

وفي فيلم "كعكتي المفضلة"، على الرغم من عدم حدوث أي شيء جنسي، خلال ليلة الحب التي اقتصرت على رشفات من النبيذ ورقصة عفوية، يُعدّ تصرف مهين في العثور على شريك، أمراً غير مقبولاً نوعاً ما. هذا بغض النظر عن عدم محاولتها إيجاد شريك جنسي، وهذا الأمر هو السبب الرئيس في عدم ممارسة مهين الجنسَ لمدة ثلاثين عاماً. وهذا الاستنتاج النهائي وإعادة خيبة الأمل الجنسية، نتيجة للعيش في مكان مليء بالأزمات حيث تتحول القيم إلى قيم مضادة (والعكس صحيح). ولذلك يمكن اعتبار عنصر "الكعكة" رمزاً للجنس، حيث أنها كانت تنتظر رجلاً ما في كل مرة كانت تخبز فيها كعكةً.

مهين وفرامرز في فيلم "كعكتي المفضلة"

تشعر مهين بالإحباط الجنسي، وتحوّل وضع قضمة من الكعكة في فم العجوز الميت، إلى نوع من المجامعة معه، إذ في هذا المشهد، أصبحت الكعكة المفضلة هي أداة مهين الجنسية، تماماً كما تعتبر جثة فرامرز الهامدة، عنصراً جنسياً بالنسبة لها، بما أنه لم يكن في نيتها الهروب من الجثة، ولربما لو كان من الممكن أن يتعامل صانعو الفيلم حقاً مع أزمة الموقع، لكان من الممكن عرض مشاهد مريضة لامرأة عجوز تمارس الجنس مع جثة باردة.

ولذلك يمكننا أن ننأى بأنفسنا عن مجرد القراءات السياسية، ونعتبر فيلم "كعكتي المفضلة"، فيلماً سياسياً عن الحياة الجنسية، حيث السياسة لها تأثير مدمّر على الجنس البشري، كأكثر شيء طبيعي ممكن، فالحياة الجنسية في هذا الفيلم، يمكن تفسيرها على أنها حياة لا تشعر فيها مهين بالأمان، لا سيما خارج منزلها وبين الرجال، وتالياً لم تتمكن من ممارسة الجنس مع أي شخص منذ ثلاثين عاماً. كما يمكن القول إن النظام الحاكم، هو الذي دفع مهين إلى جنونها في النهاية، وإن نتاج هذا النظام، لم يكن سوى خلق عقد جنسية وأفكار قمعية.

فيلم "كعكتي المفضلة"، تمكّن من عرض تفسيرات فوكو للحياة الجنسية في مجتمع مرعب قدر الإمكان، ومثلما تعاني مهين من أزمة الموقع، فإن عدم عرض بعض المشاهد هو أيضاً نتيجة أزمة الموقع التي يتعامل معها بِهْتاش صناعي ها ومريم مقدّم، كاتبا الفيلم ومخرجاه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

خُلقنا لنعيش أحراراً

هل تحوّلت حياتنا من مساحةٍ نعيش فيها براحتنا، بعيداً عن أعين المتطفلين والمُنَصّبين أوصياء علينا، إلى قالبٍ اجتماعي يزجّ بنا في مسرحية العيش المُفبرك؟

يبدو أنّنا بحاجةٍ ماسّة إلى انقلاب عاطفي وفكري في مجتمعنا! حان الوقت ليعيش الناس بحريّةٍ أكبر، فكيف يمكننا مساعدتهم في رصيف22، في استكشاف طرائق جديدة للحياة تعكس حقيقتهم من دون قيود المجتمع؟

Website by WhiteBeard
Popup Image