شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"بدونك، ما الذي يمكن أن يكون؟"... الشاعرة الإيرانية فُروغ فَرُّخ زاد إلى حبيبها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 28 نوفمبر 202202:42 م

تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسائل (أمّا بعد)، في قسم ثقافة، رصيف22.


تُعتبر فروغ فرّخ زاد (1934-1966) أهمَّ شاعرة إيرانية، ليست بين الشاعرات، بل إلى جانب نيما يوشيج، عميد الشعر الفارسي الحديث، وأحمد شامْلو، وسهراب سبِهري، كوّنت شاكلة الشعر الحديث في إيران. أهمّ ما يميّز فروغ هو أنها استطاعت أن تطلقَ في شعرها صوتَ المرأة وصوتَ الإنسانِ معاً، وفي ذات واحدة، دون أن تسقط في هاوية الاستغاثات والشكوى والتعبير عن الشعور بالاضطهاد، كما كثير من نساء جيلها والأجيال التالية. إنها تجسيد للمرأة/الإنسان التي تحاول أن تنطلق لتقترب من ذاتِها الأصيلة التي رأت أن قيوداً شتى تحاصرها، تحبّ بأصالةٍ، وتنفر وترفض بأصالة.

إلى جانب شعرِها المفعم بروح الشعر والسابق لزمنه، لا اختلاف على أن كلّ ما فعلته هذه الشاعرة وكلّ ما تركت من سينما وكلمات وحوارات قريب من الشّعر إلى درجة قرب الشعر من حروفه الثلاثة. هنا نصان لرسالتين لفُروغ فرُّخ زاد كتبتهما أثناء تواجدها بإيطاليا لحضور مهرجان سينمائي إلى رفيقها في الحياة والشعر والإبداع، الكاتب الإيراني القدير إبراهيم كُلِسْتان، لنطلّ بعض الشيء على وجهها في حياتها الخاصة، أي على الشعر ثانيةً.

الثلاثاء 24 أيار/مايو

شاهي(1) العزيز، فديتك. وإن كانت كتابة رسالة، مع الحالة التي أنا فيها، عملاً غبياً، ولكن كأنّ الكتابة وحدها هي التي تريحني. اعلمْ أنني عشتُ الأيامَ الثلاثة هذه في حالة كابوسية مرعبة، بعظامٍ خاوية وأعصابٍ محطّمة واضطرابٍ مضيّع وحزنٍ مدوّخ، وضغط مشلّ في القلب، والنظرة الدائمة، والسؤال المُرّ الذي أواجهه باستمرار: بدونكَ، بدونكَ، بدونك، ما الذي يمكن أن يكون؟ ما الذي يعنيه كلّ شيء؟ وما الذي تمنحني الحياة؟ دونك، حين أراك تأتيني، تشاهد معي، ترى، تشمّ، تعطيني الحبّ... آه يا عزيزي... الأعزّ... يا أساس كلِّ سعاداتي وأفراحي... دعني لا أكتب.

كلّ ما كان انتهى. أنا الآن في روما، تحت الشمس وبين التماثيل. أخذتُ فندقاً بالقرب من rmini Stazione. مزدحم بشدة إلى درجة أفضّل قضاءَ كلِّ يومي في الشوارع. في كلّ غرفة منه فريق كرة قدم كامل. بكلّ عادات ومحددات حياة المعسكرات. صباحاً، يمارسون الرياضة في الشرفات. مساءً، يغنون في الشرفات، ولا ينقطع للحظة واحدة صوت السيفون. والشوارع ملئية بفتيات الليل والسيّاح والسيارات التي تصدر سماعاتُها إعلاناتِ مرشحي الأحزاب. إنه الفصل الأخير للانتخابات. وصاحب الفندق، بدلاً من أن يناديني ب "ميس فرُّخْ زاد" يقول لي "ميس عراغي"، ولا فائدة من جنوني أو غضبي...

اعلمْ أنني عشتُ الأيام الثلاثة في حالة كابوسية مرعبة، بعظامٍ خاوية وأعصاب محطّمة واضطرابٍ مضيّع وحزن مدوّخ، وضغط مشلّ في القلب، والنظرة الدائمة، والسؤال المُرّ الذي أواجهه باستمرار: دونكَ، دونكَ، دونك، ما الذي يمكن أن يكون؟

اليوم الذي وصلتُ فيه كان يوم الأحد وهو يوم عطلة. نمتُ النهار بأكمله، وفي المساء ذهبتُ لمشاهدة فيلم "Darling". لا أعلم هل أنا مخطئة أم هي حقيقة واضحة أنه فيلم عادي جداً. مملّ بشدة. على أية حال لو أعطيت جولي كريستي جائزةَ أسوأ ممثلة هذا العام، لما حدث فرقٌ. تصوير قصةٍ ما، وإن كانت لافتةً وحيّة، ليس سينما. وضع الأفلام سيئ جداً. بالتحديد مثل طهراننا العزيزة... الخلاصة عموماً هي أنني بتُّ خائبة. هناك فيلم واحد جيد، يبدأ منذ 26 أيار/مايو. فيلم "حياة بابا الجسر السادس" لـ"إرمانو ألمي". حين أشاهده سأكتب لك عنه. وسيعرضون فيلماً من مونجلي،  ولا أستطيع ترجمةَ اسمه. سأشاهده الليلة. أمس الاثنين اتصلتُ ثلاث مرات على Micciche ولم يجبني.

في النهاية تحدثتُ مع السكرتيرة، وقالت إنّ المهرجان يبدأ من 28 أيار/مايو، ولاحقاً ستخبرني بعنوان الفندق. ليتني جئتُ متأخرة. عدم تحديد الهدف هو من سحبني. لم يعد عمري مناسباً للمشاهدة. أكره شراء الثياب. أكره تجربةَ الأحذية والقمصان وأدوات التجميل. أفكر فيها، ولكن ساعة القيام بذلك أصل حدّ الموت. صباح أمس ذهبتُ للفاتيكان. ذهبتُ لقسم الآثار الفنية المصرية. في الواقع لم أتجوّل لأنني تجمدتُ عند المومياء محدقةً بها، حتى حانت ساعة الإغلاق. حين خرجتُ كانت الساعة الواحدة ظهراً. بعد الساعة 11 ليلاً قضيت الوقت ماشيةً في الشوارع. أردتُ الشراء، ولكني لم أشترِ. مرض التردّد يكاد يخنقني.

ليتكَ كنتَ معي لتشتري لي وتريحني. يا عزيزَ الروح والقلب، أنا آسفة لأنّ عليّ إنهاء الرسالة هنا، لأنهم طرقوا الباب، وقالوا يجب أن أغيّر غرفتي، ومجبرة على ضبّ حقيبتي لأذهب لغرفة ثانية. أخاف لو أكملتُ كتابة الرسالة ألا أصل لمكتب البريد، وتبقى دون خبر عني. سأكتب لك مساءً بالتفصيل. فديتُك. فديتُ عينيك ونظرتك التي لا تغادرني. لو تعرف كم أحبك، لجئتَ. أحبّك، أعشقك، مجنونة بكَ.

أقبّلك آلاف القبل/إلى اللقاء حتى الليل/ فُروغ

1- اسم كانت تطلقه الشاعرة على إبراهيم كُلِسْتان. 


الخميس 2 حزيران/يونيو

عزيزي الجميل... الآن وأنا أنزل السلالم أفكّر بأملِ وصول رسالة منك. خاصة أنني رأيتك الليلة البارحة في الحلم وحين استيقظتُ كان قلبي مضطرباً ويرجف في صدري؛ ارتديتُ ثيابي بسرعة ونزلتُ، ولكن لا شيء. حالتي ليست جيدةً، وتسوء يوماً بعد يوم. كأنني مسجونة في غرفة ثلجية. كأنّ كلَّ أعضائي مقطوعة ولستُ سوى قطعة جرح نازف. تعرّفتُ البارحة على فتاة هي سكرتيرة ديريك هيل، ولا تتخيّل أنني سمعتُ اسمك تردده الأفواهُ، فجأةً، وبين كلِّ ذلك الزحام والغربة. كيف دختُ واضطربت. لم يعد باستطاعتي الكلام. خرست وضاعت الكلمات من ذهني. كدتُ أختنق من الاضطراب. أحبّك. وحده الله يعرف كم أحبك.

أحبك. وحده الله يعرف كم أحبك. تعلقتُ بك. أنا منك، وكأنني وُلدت من جسدك، وعشتُ في أوردتك، وانحدرتُ من يديكَ وتشكلتُ، وأدور منذ الصبح حتى الليل في دائرة مركزها ذكرياتك. أدور ولا يريحني شيء؛ لا البحر ولا الشمس ولا الأشجار ولا الناس

تعلقتُ بك. أنا منك، وكأنني وُلدت من جسدك، وعشتُ في أوردتك، وانحدرتُ من يديكَ وتشكلتُ، وأدور منذ الصبح حتى الليل في دائرة مركزها ذكرياتك. أدور ولا يريحني شيء؛ لا البحر ولا الشمس ولا الأشجار ولا الناس ولا الأفلام ولا الثياب التي اشتريتها حديثاً. لا أعلم ماذا أفعل. أرطم رأسي بالأشجار. أصرخ. أبكي. لا أعرف. أريدك فقط. مثل هذا البحر الذي هو في حالة انحدار مرعب، أريدك. وكلّ هذا لا يُحتمَل. مثل فيضان ينحدر ويكسّر جسدي. أريد الاستيقاظ لأجدك جنبي. كم يمكنني التحمل أن استيقظ ولا أجدك جنبي، وأن أجد حياتي متجمدة؟ كم؟ إلى متى؟ حتى أين؟ وكم المسافة بين الولادة والتعفن وأن نكون طعاماً للديدان؟

أودّ الاستيقاظ والبقاء مستيقظة وناظرة. حين يدور الهواء في صدري، أنظر لك. حين تتوزع النبضة تحت جلد حنجرتك، أنظر لك. حين يتموج اللون البنفجسي بين رموشك، أنظر لك. أنظر لك فقط. أعدّ خطوطَ جبتهك. أعدّ الشعراتِ البيض على صدغيك. أن أضع رأسي في الحفرة بين رقبتك وكتفك، وأموتُ هناك. أموتُ لكي لا أبتعد عنك، ولا أنفصل. لا أعلم لماذا عليّ المراعاة. ما الذي عليّ مراعاته؟ ولماذا عليّ أن أجعل من حياتي ومَن أحبه ألا تحمل ويحمل سوى الحسرة؟

ليتني وُلدت في الغابة والتصقتُ بها وكنتُ حرة! الاعتياد على هذه العادات المضحكة للحياة، والاستسلام لهذه الحدود والجدران مخالف للطبيعة. حبيبي. فديتُك. فديتُ وجودك. يكاد قلبي ينفجر. لم يحدث لي هذا من قبلُ. كلّ هذه المرارة وعدم الجدوى، أخذَ مني شيئاً. لا أعلم ما هو وأين ولماذا؟ من الممكن أنه أُخِذ مني قبل ولادتي. قد أكون جئتُ إلى الدنيا دون فائدة. وقد يكون كلّ حبي لك ليس إلا بحثاً عن استقرار على التراب. لا أعلم. لا أعلم. الوضع هنا مدمِّر جداً. تبدّلَ المهرجان إلى مواجهة مستمرة بين المخرجين والنقّاد السينمائين الفرنسيين وقائدهم غودار، والمخرجين والنقاد السينمائيين الإيطاليين.

يكفي أن يَغادر غودارُ وسط العرض ويترك مشاهدةَ الفيلم ليخلو نصف القاعة. لا أحبّ هذا النوع من التعامل مع القضايا الفنية. لا أحبّ القادة وأتباعهم. الفنّ ليس لحماً كي يعبّأ ويسلَّم للناس في علبٍ. أشاهد باستمرار التضحية بالقيم الفنية والفكرية والحسية والإنسانية أمام طاقة وجاذبة التقنية. يكفي أن تهزّ كامرتك أكثر، وكلما كان فيلمك دون قصة ستثير أمواجَ تشجيع المشاهدين والنقاد. عرضوا البارحة فيلماً سويسرياً، والحقيقة كان مرعباً. لو كان الأمر بيدي لقطعتُه بالمقصّ قطعةً قطعةً ورميته في المرحاض.

كان هرائياً لدرجة أنّ كلّ هراء يصدُق عليه. عرض لفلاتر ملوّنة واهتزاز الكاميرا المفتعل. كادت عيني تصاب بالعمى. يبدو أنّ الإنسان وقضاياه قد هجرت الستارة. المجموعة التي اجتمعوا هنا كلّهم مرضى وفاسدون. لا يعرفون الحياة. لم يسمعوا صوتَ العصافير. لم يروا نموَّ النباتات. لم يشمّوا رائحةَ المطر. تذكرتُ كلامَ بريخت، وودَدْتُ لو أنهض وأصرخ على الجميع: "أي عالم هذا الذي يصبح الحديث عن الأشجار فيه خطيئةً؟". صعب عليّ تقبل أيّ عمل أحمق على أنه من السينما الجديدة ويُمتدح. كانت الأفلام الوحيد اللافتة من دول أوروبا الشرقية. تشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا وبولندا. هذه فقط، ليس إلا.

ليتني وُلدت في الغابة والتصقتُ بها وكنتُ حرة! الاعتياد على هذه العادات المضحكة للحياة، والاستسلام لهذه الحدود والجدران مخالف للطبيعة

كانت السينما الفرنسية فضيحة. تتقيأ نفسها. ولكنهم عرضوا فيلماً إيطالياً (انتهى الحبر وعليّ الكتابة بهذا القلم اللعين وهو يجعل خطي أكثر قباحةً) وأعتقد أنه فيلم ناجح. من ناحية الإطار والتقنية يشبه الصخب والعنف لدى فاكنر، أو جويس (لم أقرأ جويس ولكن عبر حديثك أعرفه قليلاً)، فيه مشهد ممتاز جداً عن الحبِّ مدّتُه ما يقارب نصف ساعة. وجهان على الشاشة لمدة نصف ساعة يتبادلان القبلَ ويندمجان. ممتاز جداَ. أحببته. والله أشعر أنني أفهم أكثر منهم كلّهم. لا أقوله انطلاقاً من غرور، ولكن حين أجلس صامتةً وأسمع ما حولي، أجد كلَّ الأحكام الصحيحة تابعة لأفكاري. من المؤسف أنني لا أستطيع الحديثَ، وإلا لَكنتُ قائدةً ولوجدتُ أتباعاً. يا عزيزي. فديتُك. سيعرضون فيلمي يوم السبت. رويداً رويداً بدأتُ ألفت الانتباه، وإن كان لا معنى له بالنسبة لي، ولكنه يحدث. ستشارك فقط الأفلامُ الطويلة في المسابقة، وكلُّ الأفلام القصيرة عُرضت خارج المسابقة.

لستُ صائدةَ جوائز، وإن لم أكمل عملي في السينما فلا سببَ لوجودي هنا. سألتُ نفسي هذا السؤال مراراً، ولذلك أنا غير مكترثة. شاهي العزيز. في كلّ مرة أكتب اسمك يضطرب جسدي ويرتجف. اسمك شبيه لخبر مبارك يصل إلى أذنِ روحي فتنهض كلُّ الآمال والأمنيات. أحبّك. كم عليّ أن أقول أحبك؟ هناك شخص واحد على وجه الأرض أحبه، شخص واحد أنا معه وهو معي، وهو أنت. لا أكتب. عليّ الذهاب إلى الغداء، ومن ثمّ عرض فيلم ومؤتمر وأعمال أخرى. ادعُ لي قليلاً. الدعاء جيد. لا ضرورة في طلبِ شيء من الله. حين يصفو قلب الإنسان ويلتفت إلى السماء ويتمنى شيئاً بكلِّ وجوده، فكأنه يعطي مقداراً من وجوده، وهذا يكفي. يومك سعيد. اكتبْ لي. عزيز القلب والروح يا عمري. فديتُك، فروغ.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image