"بنيت منزلي قبل نحو 40 عاماً. حينها، كانت المنطقة هادئةً وخاليةً من الملوثات التي نعاني منها حالياً، لكن بعد سنوات قليلة تفاجأنا بانتشار معامل الطوب والمحاجر في المنطقة"، يقول الستيني أحمد بني هاني، أحد سكان محافظة إربد شمال الأردن.
ويضيف: "أصبحنا مجبرين على التعايش مع الأمراض الصدرية الناتجة عن الغبار والأدخنة والروائح الكريهة والناموس والقوارض، ناهيك عن الضوضاء المهلكة".
بأسلوب مشابه، يروي الثلاثيني عبد الله كنعان، لرصيف22، أنه سكن في المنطقة قبل 7 سنوات، إلا أنه لم يستطع وعائلته التكيف مع الروائح الكريهة المنبعثة من محطة التنقية والمسلخ والمزارع، والإزعاج الذي لا يتوقف حتى ساعات متأخرة من الليل، فتوجه إلى تقديم الشكاوى للبلدية ومجلس محافظة إربد من دون حلول تُذكر.
أصبحنا مجبرين على التعايش مع الأمراض الناتجة عن الغبار والأدخنة والروائح الكريهة والناموس.
السيدة الخمسينية أم خالد الشناق، تقول بدورها: "الأوضاع المادية لا يمكنها أن تسعفنا لترك منزلنا الذي بنيناه على أرض اشتريناها قبل سنوات، والبحث عن منطقة تصلح للعيش"، مضيفةً: "لكن لم أكن أعلم أنني وزوجي سندفع ضعف المبلغ الذي وفرناه جرّاء رخص ثمن الأرض لعلاج أبنائنا من التلوث البيئي".
أمراض اعتادها السكان
بدأت معاناة سكان إربد، وتحديداً في الناحية الشمالية الغربية من المدينة، في ثمانينيات القرن الماضي، جرّاء التلوث البيئي المتشعب الأسباب، إذ تجتمع في مناطق البارحة والنصر وشارع فوعرا، معامل الطوب ومناشر الحجر ومزارع أبقار وأغنام في مساحات كبيرة، ومحطة لتنقية مياه الصرف الصحي، ومحطة لتحويل النفايات التي تُنقل في ما بعد إلى مكب "الأكيدر" المعتمد لجمع النفايات من محافظات الشمال الأربع، وهي إربد وعجلون وجرش والمفرق، بالإضافة إلى المسلخ البلدي، وما يُطلق عليه اسم "وادي الحمام" الذي يُصرّف فيه المواطنون المياه العادمة من منازلهم، بسبب عدم توفر خدمة الصرف الصحي لجميع المنازل والأحياء.
وقد رخّصت بلدية إربد الكبرى، التي تتبع لها المناطق المذكورة، عمل المنطقة الحرفية وغيرها من الأنشطة الصناعية وأدخلتها ضمن تنظيم المدينة. حينها، كانت المنطقة محاطةً بمساحات زراعية شاسعة، وذات إنتاجية مهمة لسلة الغذاء الأردني، إلا أن رخص ثمن الأراضي فيها، وتردّي الأوضاع الاقتصادية لسكان المحافظة، دفعاهم لشرائها وبناء المنازل فيها، حتى وصل حال المنطقة إلى أن تصبح بؤرة تلوث خطرةً ومكتظةً بالسكان، إذ يزيد عدد سكان منطقة البارحة وحدها عن 150 ألف نسمة، وفق بيانات حصل عليها رصيف22، من مجلس المحافظة.
المحاجر والكسارات في إربد - خاص رصيف22
ويؤكد الخبير البيئي الدكتور أحمد الشريدة، أحد سكان محافظة إربد، أن هذه الملوثات تتسبب في مشكلات صحية وبيئية عدة، فالغبار الكثيف يُضعف الجهاز التنفسي ويتسبب بأمراض تحسسية، وهناك أضرار ناتجة عن احتراق المواد البلاستيكية وتفاعلها وما ينتج عنها من غازات ثاني أكسيد الكربون وغازات دفيئة أخرى، أما التلوث البيولوجي فهو يحدث لجسم الإنسان في جهازه الهضمي الذي يصعب عليه إفراز الفضلات بشكل صحي وطبيعي، جرّاء تنوع مصادر التلوث من حوله، ناهيك عن التلوث السمعي والبصري.
حقوقٌ معاكسة
من ناحية أخرى، يقول أبو سامي الصوان، مالك معمل حجر في شارع فوعرا، إنه وجميع مالكي المعامل، لا ذنب لهم، إذ قامت معالمهم وفقاً للقانون وبتصاريح رسمية، إلا أن الزحف العمراني لم يكن مناسباً لطبيعة المنطقة الحرفية.
الأوضاع المادية لا يمكنها أن تسعفنا لترك منزلنا الذي بنيناه على أرض اشتريناها قبل سنوات، والبحث عن منطقة تصلح للعيش. لكن لم أكن أعلم أنني وزوجي سندفع ضعف المبلغ الذي وفرناه جرّاء رخص ثمن الأرض لعلاج أبنائنا من التلوث البيئي
ويؤكد على ذلك نصر عياش، أحد مالكي معامل الرخام، بقوله لرصيف22: "نحن على استعداد لنقل المعامل إلا أننا لن نتحمل التكاليف"، ويشير إلى صدور قرارات شفهية في اجتماعات تمت مع أصحاب المعامل، نصّت على ضرورة نقلها إلى أماكن بعيدة عن السكان، ويضيف: "لا مشكلة لدينا لكننا لن نوافق على أن يكون الأمر على حسابنا الشخصي، إذ تصل تكلفة النقل والتجهيز، إلى 65 ألف دينار كحد أدنى (قرابة 91 ألف دولار)".
ويوضح طارق العبد الله، وهو مالك مزرعة أبقار في شارع فوعرا، أن المنطقة تصلح في عمومها للزراعة والصناعة وليس للسكن، مشيراً إلى أن البلدية عليها تحمّل مسؤولية التنظيم والتنسيق لضمان بيئة صحية مناسبة للسكان غير التي تنتشر فيها المزارع والمعامل.
إجراءات حكومية
صرّح رئيس مجلس محافظة إربد، خلدون بني هاني، لرصيف22، بقوله إن القضية متوارثة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وتزداد خطورتها مع الزحف العمراني وازدياد عدد السكان، بالإضافة إلى وجود مئات المعامل الصناعية والمزارع الخاصة واستمرار عمل المسلخ البلدي، بالإضافة إلى محطة تفريغ الصرف الصحي وتنقيته، ومحطة تحويل النفايات التي تنقل في ما بعد إلى محطة الأكيدر.
البلدية عليها تحمّل مسؤولية التنظيم والتنسيق لضمان بيئة صحية مناسبة للسكان.
ويشير بني هاني، إلى أن المجلس تصله شهرياً نحو 250 إلى 300 شكوى من سكان المنطقة، ومجملها شكاوى بيئية وصحية حول إصابتهم بأمراض تنفسية بشكل خاص، مطالبين بنقل الصناعات إلى منطقة أخرى بعيدة عن مساكنهم، إلا أن عملية النقل صعبة جداً بسبب التكلفة الباهظة المترتبة على ذلك، والتي تصل إلى مئة مليون دينار أردني، على حد قوله.
وعن المكرهة الصحية الأخرى في المنطقة، يوضح بني هاني أنها بدأت عندما اتجه السكان لاستغلال المنطقة لإنشاء العشرات من مزارع الأبقار والأغنام والدواجن، إلا أن معظمها غير مرخصة، ولم تستطيع أي جهة حكومية إخراجها من المنطقة حتى الآن، بالرغم من صدور قرار قضائي يلزم بإخلائها المكان عام 2018.
ويتابع: "أما المكرهة الصحية الثالثة، فهي محطة التفريغ والتنقية ومحطة تحويل النفايات، إذ تسببت أيضاً في ارتفاع نسب التلوث الهوائي وانتشار الحشرات الضارة والمؤذية. وبسبب المسلخ البلدي حيث يتم ذبح المواشي وبيعها منذ السبعينيات، يعاني سكان المنطقة جرّاء النفايات العضوية التي تُلقى في جوانبه، ناهيك عن كونه قديم البنية ويحتاج إلى تطوير بما يتناسب مع الخدمات العامة".
من منطقة المعامل والمحاجر في إربد - خاص رصيف22
وعن وادي الحمام، ينبّه المتحدث إلى أنه بات من أبرز ملوثات المنطقة، ويقع في الجهة الجنوبية الغربية من البارحة، وتُقدَّر مساحته بكيلومترين ابتداءً من مستشفى الأميرة بسمة، مروراً بالأحياء السكنية، وهو وادٍ منخفض قديم دُشّن عليه جسر صندوقي لتفريغ المياه العادمة منذ الثمانينيات، بسبب عدم توفر خدمة الصرف الصحي حتى اليوم في معظم الأحياء المحيطة.
وعن الإجراءات الرقابية والإدارية، يقول بني هاني، إن جميع الشكاوى الواردة إلى المجلس تُحوَّل إلى لجنة فنية لدراستها والتأكد منها، ثم تُحوَّل إلى محافظ مدينة إربد الذي بدوره يوجه بحلها ومتابعتها من قبل الجهات المعنية، وينفذ المجلس دوره من خلال الرقابة وتوفير الموازنات عبر لجان فنية تنسّق مع الدوائر الحكومية المعنية لحل المشكلة.
حلول مرتقبة
في حديثه إلى رصيف22، يقول رئيس بلدية إربد الكبرى، الدكتور المهندس نبيل الكوفحي، إن ما تعانيه المحافظة عبارة عن تجاوزات بيئية عدة، ويقسّمها إلى خمس فئات أساسية.
يبدأ الكوفحي بالحديث عن النفايات التي تجمعها كوادر البلدية يومياً من المنازل والمؤسسات التجارية، بكمية تصل إلى ألف طن يومياً، وتحولها إلى مكب الأكيدر، ويحدث في بعض الأحيان خلل في منطقة دون أخرى، جراء عطل في إحدى ناقلات البلدية، مؤكداً عدم وجود حالات تراكم للنفايات بالرغم من ارتفاع النشاط السكاني في فصل الصيف مقارنةً مع الشتاء.
ويضيف أن النفايات الصلبة، مثل مخلّفات البناء وأُثث المنازل أو حتى مخلّفات الأشجار، ناتجة عن عدم كفاية أجهزة الرقابة البيئية، وضعف في التزام المواطنين بالتعليمات التي تفرضها البلدية. أما عن القوارض والحشرات، فيقول إن البلدية تخصص فرق عمل لمتابعة هذه القضية، ويضيف: "الوضع لا يرضينا لكن يُعدّ مقبولاً نوعاً ما".
في انتظار إتمام كل تلك الحلول، ووجود تعاون أكبر بين الدوائر الحكومية في إربد مع أصحاب المهن والمزارع الخاصة والمواطنين، يبقى السكان على ترقّب وأمل لانتهاء مشكلاتهم البيئية، قبل أن تتطور حتى تصل إلى مرحلة من التلوث والأمراض الناجمة عنه، يصعب علاجها
وعن التلوث السمعي والبصري في مناطق شارع فوعرا، يشير الكوفحي إلى أن البلدية بدأت منذ مدة بمعالجة هذه القضية، إلا أنها تحتاج إلى مناطق بديلة لنقل معامل الطوب ومناشير الحجر وإلى وقت كافٍ للترحيل، وفي الوقت عينه تشدد أجهزة البلدية الرقابة على عمل هذه الحرف خاصةً في الأوقات المتأخرة من اليوم.
وفي الحديث عن المنازل التي تخلو من شبكات الصرف الصحي، يقول إن هناك مخالفات من عدد من المنازل بتسريب المياه العادمة إلى مسارب مياه الأمطار أو إلى الأودية القريبة المفتوحة، وبالرغم من متابعة البلدية لهذه المخالفات، إلا أنها تتطلب تعاوناً أكثر من المواطنين. كما يشير إلى أن محطة التنقية تحولت إلى "محطة تحويلية"، مع افتتاح محطة تنقية في منطقة أخرى بعيدة عن السكان، وتالياً خفّت الأضرار البيئية الناجمة عنها.
وينوّه المتحدث أيضاً بتنظيم اجتماع بين البلدية ومالكي مزارع المواشي، والاتفاق معهم لنقل مزارعهم إلى المنطقة البديلة التي خصصتها لهم على حدود مدينة إربد-لواء الرمثا، وفي بداية الشهر المقبل ستباشر البلدية عملية نقل كافة هذه المزارع وفقاً للاتفاق. وبشكل مشابه ينوّه بخطة البلدية بإنشاء مسلخ جديد بطاقة إنتاجية أكبر، وبالتعاون مع القطاع الخاص ضمن قطعة أرض خُصصت لهذا المشروع، وفيها أقسام محددة للخراف والأبقار وأخرى للدواجن.
وفي انتظار إتمام كل تلك الحلول، ووجود تعاون أكبر بين الدوائر الحكومية في إربد مع أصحاب المهن والمزارع الخاصة والمواطنين عموماً، يبقى السكان على ترقّب وأمل لانتهاء مشكلاتهم البيئية، قبل أن تتطور حتى تصل إلى مرحلة من التلوث والأمراض الناجمة عنه، يصعب علاجها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...