شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
بعد سنوات من الحرب والإهمال... أي تربة نملك في غوطة دمشق؟

بعد سنوات من الحرب والإهمال... أي تربة نملك في غوطة دمشق؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بيئة ومناخ نحن والبيئة

الأربعاء 8 يونيو 202212:10 م

عندما تصل إلى غوطة دمشق اليوم، قد تتفاجأ من مساحات الأراضي الزراعية المزروعة بمختلف الأصناف، وقد تشك للحظة في أن الحرب لم تمر هنا لولا ضجيج مولدات الكهرباء اللاهثة بشكل محموم لإخراج قطرات الماء وسقاية أراضٍ عطشى قلّت مياهها ويحلم أصحابها ببعض الكهرباء لتقليل استهلاك الوقود.

رئة دمشق بدأت تتعافى اليوم نوعاً ما، وعادت غالبية فلاحيها إلى العمل في حقولهم، أو في حقول أخرى استأجروها، ولكن في الوقت نفسه ما زالت آثار الدمار حاضرةً في المكان، وبقيت أراضٍ كثيرة متروكةً تنتظر عودة أصحابها، وتنظيف ما تحمله من ألغام ومواد قابلة للانفجار لم تُنظَّف بعد.

أي تربة يمكن أن تمتلك الغوطة بعد سنواتها العجاف؟

في جولة لرصيف22، على البساتين هناك، كان اللون الأخضر حاضراً في كثير من الأرجاء، وتحدث الفلاحون عن أنهم اليوم يزرعون كل شيء، لكن ما يقف في وجههم أزمة الكهرباء واضطرارهم إلى شراء المازوت بالسعر "الحر"، أي غير المدعوم حكومياً، كي يستخرجوا المياه من الآبار، وهذا ما دفع كثيرين للاستعانة بأسلوب الري بالتنقيط أو ري أراضيهم بمياه الصرف الصحي.

وهنا كان لا بد من طرح سؤال: أي نوع من الطعام يمكن أن تنتج هذه الأراضي التي تعرضت لسنوات من القصف ومختلف أنواع الأسلحة، والتي تركت مهملةً في بعض المناطق، وأي تربة يمكن أن تمتلك الغوطة بعد سنواتها العجاف؟

الفلاحون أجابوا بأن الأرض لا يلحقها ضرر، وهي قابلة للتجدد دائماً، ولهذا حينما يحرثون التربة تتغير وتنقلب وهذا ما يساعد في تجددها، كما أنهم في بعض الأحيان يستعينون بأتربة من مناطق أخرى يخلطونها مع تربة أراضيهم، ويعتمدون على الأسمدة والإكثار منها لعلاج عيوب التربة، وهذه الحلول لم تمنع من وجود بعض البقع في الأراضي حيث سقط صاروخ أو ما شابه من الأسلحة، فلا تعود النباتات للنمو إلى ارتفاع كبير، فأي نبات يُزرع في هذه البقعة يصل إلى حجم معيّن لا يزيد عنه.

وتحدّث أحد الفلاحين بالقول: "هذا الموسم يُعدّ جيداً، وتمكّنت من زراعة كافة الأصناف التي كنت أزرعها قبل الأزمة"، وأشار إلى سنابل القمح التي ما زالت خضراء، موضحاً أنه زرعها إلى جانب البازلاء والخس وأصناف عديدة أخرى، واشتكى فلاح ثانٍ من الأمراض التي تتعرض لها محاصيله وعدم جدوى الأدوية التي يستخدمونها، والاختلاف بين اليوم والأمس بخصوص الأمراض هو ضعف فعالية الأدوية.

من أراضي الغوطة المزروعة اليوم - تصوير مودة بحاح

لا دراسات ولا أبحاث

مع عدم كفاية هذه الإجابات، توجه رصيف22، بالسؤال إلى وزارتَي الزراعة والبيئة، وأيضاً إلى كلية الزراعة. لكن أي دراسة عن تلوث التربة جراء مخلفات الحرب في الغوطة لم تنفَّذ حتى اليوم، والجميع يعلم أن التربة قد تكون ملوثةً بمواد مؤذية لكن لم تتوفر الدراسات بعد، بسبب ارتفاع التكلفة من جهة والمشكلات العديدة التي تعاني منها الوزارات من غياب لمخابرها وسرقة معداتها خلال الحرب، كما أن غالبية الدراسات قديمة تعود لما قبل الحرب، والتركيز فيها على التلوث الذي تسببه السقاية بمياه الصرف الصحي.

ويشرح الدكتور عزيز أسعد، من كلية الزراعة-اختصاص علوم تربة في جامعة تشرين في اللاذقية، أن الرصاص الذي هو أحد مخلفات الحرب، يُعدّ عنصراً ثقيلاً ذا تأثير تراكمي، من أبرز أضراره فرط النشاط عند الأطفال وضعف التركيز وقد يسبب سرطانات، ويضيف أن الجسم لا يتخلص منه من دون علاج، كما أن التربة لا تتخلص منه مع سقوط الأمطار، ويختم بأنه لا يمكن بالضبط معرفة نوع التلوث الذي حصل ولا كميته، خاصةً أنه تم الحديث عن أسلحة كثيرة ومتنوعة.

المادة العضوية قبل الحرب في الغوطة كانت نسبتها تتراوح بين مقبولة وجيدة، وهي تأتي من بقايا مخلفات النباتات التي زُرعت في الأرض في أثناء الموسم، ومن مخلفات محاصيل الأشجار، ولكن الحرب وتقطيع الأشجار وإهمال الكثير من الأراضي، سببت تراجع المادة العضوية

وبرأي المهندسة الزراعية أمل محمد إبراهيم، فإن الأسلحة تُسبب تعريةً واسعةً للتربة، وتالياً ستعطي هذه التربة غلةً أقل من الأرض غير الملوثة، وتضيف لرصيف22، أن الأشجار والمحاصيل تمسك التربة عادةً، لهذا عندما نقطعها تحدث تعرية كاملة. وعن الأضرار الثانية للتلوث، أوضحت أن المواد الملوثة يمكن أن تتسرب إلى النبات، خاصةً الخضروات الورقية مثل الفجل والجرجير والسبانخ.

ويؤيد الفكرة حسين سليمان، وهو دكتور في كلية الزراعية في جامعة الفرات، موضحاً أن المحاصيل الخضروات تُعدّ مخزوناً كبيراً للعناصر الثقيلة لأن جذورها تمتد بعمق في التربة، ويشرح أنه في أماكن القذائف يحدث تلوث شديد، وعندما تسقط القذائف يكون التلوث على سطح التربة بدايةً، ولكن بسبب الري وسقوط الأمطار تتجه العناصر الثقيلة نحو الأسفل، لهذا عندما تصل جذور النباتات إلى عمق معيّن تكون قد وصلت إلى مستوى هذه العناصر الثقيلة، وهنا يتأثر النبات فيتوقف نموه ويمتص العناصر الثقيلة، وتالياً تنتقل إلى الثمار وبدورها تنتقل إلى الإنسان ولا تظهر الأمراض بشكل لحظي ولكن تأثيرها على المدى الطويل.

وبرأي المتحدث، يجب تحليل التربة بشكل دوري وتحديد نسبة الخطر الذي يسببه التلوث بالعناصر الثقيلة، وعلى الفلاح العودة إلى أرضه والعمل فيها، وأن يصنع سماده العضوي بنفسه، ويجرّ قنوات ريّ وينفذ حراثات جيدةً للتربة، وأن يختار المحصول الناجح والمناسب لأرضه كي لا يقع في الخسارة.

مكان سقوط قذيفة في إحدى الأراضي الزراعية ويتبين تغير شكل الزرع فيها - تصوير مودة بحاح

نقص بعض العناصر

يتوافد فلاحو الغوطة اليوم إلى مخابر وزارة الزراعة، لإجراء تحاليل للتربة للتعرف على مكوناتها، وبحسب مصدر في الوزارة فإن غالبية التحاليل تكشف عن تراجع في المادة العضوية والتي كانت نسبتها في الماضي تتراوح بين 2 و2.55%، لكنها اليوم انخفضت إلى أقل من 1%، كما تراجعت نسبة الآزوت الكلي والفوسفور.

وتعود هذه الأرقام لعوامل عديدة، منها إهمال الأراضي لسنوات خلال فترة الحرب، وتراجع عدد الأشجار وأيضاً الحيوانات التي كان يستفيد الفلاح من فضلاتها (الأسمدة)، بحسب ما أوضح المصدر الذي فضل عدم ذكر اسمه.

ويوضح هنا الدكتور سليمان، أن المادة العضوية قبل الحرب في الغوطة كانت نسبتها تتراوح بين مقبولة وجيدة، وهي تأتي من بقايا مخلفات النباتات التي زُرعت في الأرض في أثناء الموسم، ومن مخلفات محاصيل الأشجار، ولكن الحرب وتقطيع الأشجار وإهمال الكثير من الأراضي، سببت تراجع المادة العضوية.

الجميع يعلم أن التربة قد تكون ملوثةً بمواد مؤذية لكن لم تتوفر الدراسات بعد.

وعن خصائص الغوطة، يشرح المتحدث أنها من أهم المناطق زراعياً، وتمتاز بوجود جبال ووديان وسهول، أي تضاريس مختلفة، وتالياً تملك تنوعاً كبيراً في الشق النباتي، فتُزرع فيها المحاصيل الحقلية كالقمح والشعير، والخضروات، خاصةً البازلاء، والأشجار المثمرة، ويوضح أن أكبر نسبة أشجار مثمرة فيها هي الكرز، فهو يحتل 52% من مساحة الأشجار المثمرة التي تتراوح بين 16-18 ألف هكتار، كما تُقدَّر المساحة المزروعة بالمحاصيل كافة بـ32 ألف هكتار.

وبالنسبة إلى التربة، يوضح أنها تتميز بكونها جيدةً وخصوبتها تتراوح بين متوسطة وجيدة، وهي تربة متطورة، صالحة لزراعة جميع أنواع النباتات.

احذروا الأراضي المتروكة

الحرب والنزوح تسببا في ترك الكثير من الأراضي مُهملةً، ولم تُسقَ أو تُلفح لسنوات طويلة، وهو أمر لا يمر بسلام بيئياً، وبحسب الدكتور رشيد دهنة، المدرّس في كلية الزراعة في جامعة دمشق، فإن الأراضي المتروكة من دون زراعة تحتاج إلى معاملة خاصة قبل الزراعة، لأنه لا يمكن نجاح أي محصول من دون المحلول الأرضي الذي يحوي الباكتيريا، ويتم فيه التبادل الشاردي الذي هو أساس تغذية النباتات ونموها. ويشرح لرصيف22، أن المحلول يتشكل من إضافة "الزبل"، وهو السماد الحيواني البلدي، كما تجب زراعة المحاصيل البقولية كالفول لأنها مثبّتة للآزوت، ويتابع بأنه لا بد من حراثة التربة وقلبها وتنفيذ أعمال السقاية التي تجعل المحلول الأرضي يبدأ بالعمل.

الرصاص الذي هو أحد مخلفات الحرب، يُعدّ عنصراً ثقيلاً ذا تأثير تراكمي، من أبرز أضراره فرط النشاط عند الأطفال وضعف التركيز وقد يسبب سرطانات، والجسم لا يتخلص منه من دون علاج، كما أن التربة لا تتخلص منه مع سقوط الأمطار

وبرأي المهندس الزراعي مهند أصفر، فإن إعادة تأهيل الأراضي تحتاج إلى حذر كبير وهي قد تكون أكبر ضرر على البيئة والصحة من مخلفات الأسلحة نفسها، ويشرح أن أي أرض زراعية تبقى فترةً طويلةً من دون استثمار ومن دون استخدام مياه وأسمدة تصبح "بوراً" ويصبح مردودها ضعيفاً وقدرتها الإنتاجية متدنيةً، والمشكلة تكمن في إعادة استخدام هذه الأراضي والعمليات الزراعية لرفع قدرتها الإنتاجية من فلاحة وإزالة للأعشاب وإعادة هيكلية عمليات الري أو إعادة تأهيل الآبار.

جانب من الدمار وقطع الأشجار في الغوطة الشرقية - تصوير مودة بحاح

ويضيف لرصيف22: "تحتاج إعادة التأهيل إلى كميات أكبر من الأسمدة العضوية وترحيل مخلّفات كبيرة من سطحها، وهذا أمر مكلف ويحتاج إلى وعي كبير وتدخل من الجهات الحكومية كي تُستثمر بشكل آمن وصحيح لعودة الأراضي والحد من تدهورها، ولعلاج التربة التي تملحت بسبب عدم استخدامها واستخدام المياه بشكل غير منظم".

ويختم الدكتور دهنة، بأن قطع الأشجار ساهم في تغيير المناخ في المنطقة، وسبّب خللاً بيئياً بشكل أثّر على نشاط الكائنات الحية، ومنع تماسك التربة وحمايتها من الانجراف، وتالياً عدم قدرة الأرض على العطاء من حيث الثمار. ويؤيد الفكرة المهندس أصفر، فيقول: "لاحظنا إزالةً كاملةً للأشجار، فغابت أشجار المشمش والجوز بشكل شبه كامل، وهذه الأشجار كانت تحافظ على الرطوبة الجوية والتوازن البيئي، وإزالتها سببت خللاً بيئياً واضحاً".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image