لم يكن معاذ خلدون، الشاب الثلاثيني القادم من محافظة ريمة غرب اليمن، يتخيل أنه سيضطر إلى التنفس عبر أسطوانة أوكسجين، إذ إن حالته الصحية لم تكن تستدعي سوى الحماية من دخان السجائر والشيشة، وكان يشكو من تحسس بسيط في الرئة بحسب طبيبه المعالج، لكنه أصبح يعاني من نوبات ضيق تنفس، إذ ينام في معمل الأقمشة والخياطة الذي يعمل فيه منذ عامين، ويستنشق كل الوقت، كما معظم اليمنيين، الدخان المنبعث من السيارات في شوارع صنعاء الرئيسية.
يضطر معاذ إلى تعبئة أسطوانتَي أوكسجين كل أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع من أحد المستشفيات القريبة، بقيمة ثمانية آلاف ريال يمني، أي ما يعادل 18 دولاراً، في حين أن متوسط الأجور الشهري في البلاد لا يتجاوز 35 ألف ريال، ويبلغ الحد الأدنى للرواتب قرابة 8،500 ريال.
يحكي معاذ لرصيف22، عن معاناته قائلاً: "كانت تأتيني نوبات سعال وصفير وضيق تنفس لا تتوقف إلا بعد ثلثي ساعة من الاختناق ومحاولات التعافي، وحالياً أعتمد على الأوكسجين بعد أن أصبحت لدي التهابات في الرئة، لكن بالطبع لا يمكنني أخذ أسطوانة الغاز معي أينما أذهب".
يضطر معاذ إلى تعبئة أسطوانتَي أوكسجين كل أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع من أحد المستشفيات القريبة.
الخمسيني أحمد المساوي، هو أيضاً أحد ضحايا التلوث، ويعمل في المقاولات ويسكن بالقرب من مصنع إسمنت في محافظة عمران شمال البلاد، ويحكي مأساته مع جفاف العين: "تطورت معاناتي مع التحسس في العين، إلى أن أصبح لونها أحمر من شدة الالتهاب، وكنت أعجز أحياناً عن مجرد فتحها. ترددت على طبيب عيون، لكن الأعراض لا تكاد تتحسن حتى تعود، فأضطر إلى تكرار الأدوية من الصيدلية من دون وصفة، وهذا ما سبب لي لاحقاً الإصابة بالمياه البيضاء بالإضافة إلى جرح القرنية نتيجةً للالتهابات المتكررة وفركي لعيني، ولا حل لمشكلة التحسس سوى الابتعاد عن المهيجات كما أخبرني الطبيب، لكن لا يمكنني ترك مصدر دخلي، والحياة التي اعتدتها".
ويضيف أحمد لرصيف22: "البيئة في اليمن باتت ملوثةً بشكل كبير. ابن أخي مصاب بسرطان الدم ويرى الموت كل يوم، ونعجز عن إبعاده عن مصادر التلوث، خاصةً أن معظم اليمنيين اليوم يعتمدون على حرق الأخشاب والورق المقوّى كبديل من غاز الطبخ، في ظل أزمة المشتقات النفطية التي نعاني منها منذ سنوات".
جفاف وتلوث وتناقص للغطاء النباتي
ينذر تناقُص الغطاء النباتي الذي يوصف بالندرة في اليمن، البلد الذي يقع ضمن المناطق الجافة وشبه الجافة مناخياً ويمتلك أقل معدل من المياه للفرد في العالم، بأزمة تنفس وتسمم بالملوثات، فالأشجار من تحدد نسبة الأوكسجين في الهواء، وتقلص منسوب تلوث المدن بالغازات السامة، وتحد من مشكلة تصاعد درجات حرارة المناخ في ما بات يُعرف بظاهرة الاحتباس الحراري.
وتشير تقارير دورية إلى تناقص المساحات الخضراء في اليمن، ولا توجد أرقام واضحة ومحددة تبين مساحة الغطاء النباتي ونسبة تناقصه في البلد الذي تحول من دولة منتجة للسلع الزراعية إلى بلد مهدد بالتصحر وانعدام الأمن الغذائي تدريجياً، نتيجة الزحف العمراني مع الزيادة السكانية، والهجرة من الريف إلى المدن، والنزوح هرباً من الحرب، وموجات الجراد الصحراوي، والاحتطاب الجائر، وتناقص منسوب المياه الجوفية، وتوقف الدعم الحكومي لقطاع الزراعة، والتلوث والتغير المناخي.
كما يشير تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إلى أن "درجات الحرارة في اليمن ترتفع بسرعة أكبر من المتوسط العالمي، وتشير التوقعات إلى أن البلاد ستتحمل فترات جفاف أطول، وموجات حراريةً في السنوات القادمة، ومن المرجح أن تشهد المزيد من الكوارث المناخية المتكررة الشديدة، وانعدام الأمن المائي، وهشاشة الأغذية وتدهور الأراضي".
تطورت معاناتي مع التحسس في العين، إلى أن أصبح لونها أحمر من شدة الالتهاب، وكنت أعجز أحياناً عن مجرد فتحها. ترددت على طبيب عيون، لكن الأعراض لا تكاد تتحسن حتى تعود، فأضطر إلى تكرار الأدوية، وهذا ما سبب لي لاحقاً الإصابة بالمياه البيضاء
اليمنيون ونقص الأوكسجين
ونتيجة التلوث يعاني سكان اليمن عموماً من نقص الأوكسجين، ويؤدي ذلك إلى نتائج تتراوح بين ضيق في التنفس وفقدان الوعي والعديد من الأعراض الأخرى، فتلوث الهواء لا يؤثر على الرئة فقط، لكن على بقية أعضاء الجسم أيضاً، وفي حين أن مستوى الأوكسجين في الدم قد يكون منخفضاً لأسباب مرضية، إلا أنه قد يكون ناتجاً أيضاً عن نقص نسبة الأوكسجين في الهواء.
وتأتي المشكلة يمنياً في أن نسبة الأوكسجين في الدم هي في الحدود الدنيا لنسبة الأوكسجين الطبيعية، وفقاً لعيّنة عشوائية من مرافقي المرضى في أحد المراكز الطبية الذين تفاعلوا مع طلب معدّة التحقيق بوضع جهاز قياس نسبة الأوكسجين في الدم "مشعر الإصبع". ولا يمكن الجزم بأن أعراض نقص الأوكسجين في الدم ناتجة عن نقص الأوكسجين في الهواء فقط من دون إجراء دراسات بحثية طبية وبيئية متعمقة، لكن ينسب كثير من اليمنيين عدم القدرة على التنفس إلى الحالة النفسية والصحية والظروف المعيشية، ويشعرون بوطأة هذه المعاناة بشكل واضح حين يذهبون إلى الأرياف أو المدن الساحلية أو يغادرون الوطن.
علمياً، فإن النسبة الطبيعية لغاز الأوكسجين في الغلاف الجوي هي 21 في المئة تقريباً، وهذه النسبة تمكّن جسم الإنسان الطبيعي من الحصول على أوكسجين كافٍ ما بين 95 و100%، أما إذا كان معدل الأوكسجين في الدم أقل من 80%، فقد يؤدي ذلك إلى تدهور وظائف أعضاء الجسم، واستمرار انخفاض الأوكسجين في الدم قد يؤدي إلى توقف التنفس أو إلى سكتة قلبية.
وعن مخاطر هذا النقص في الأوكسجين، الناتج عن التلوث، يقول عبد الله مبخوت، وهو أخصائي بأمراض الصدر، في لقاء مع رصيف22: "يتضرر مرضى الجهاز التنفسي بكل الملوثات، ويهدد نقص الأوكسجين حياتهم كما يحدث مع مرضى الربو الذين يعانون من زيادة نوبات صعوبة التنفس والسعال التي تحتاج إلى تدخل طبي طارئ، وهذا مكلف نفسياً ومادياً، ويحدّ من قدرة المريض على ممارسة حياة طبيعية".
من جهته، يقول استشاري القلب حسين الويس: "يؤثر نقص الأوكسجين سلباً على مختلف المرضى، لكن مرضى القلب وخاصةً الأطفال واليافعين الذين يعانون من عيوب خلقية في القلب هم الأشد تضرراً، والمصابين بفقر الدم وأمراض الجهاز التنفسي الحادة والمزمنة، كذلك".
تشير تقارير دورية إلى تناقص المساحات الخضراء في اليمن.
يؤكد طبيب العيون يوسف الشبوطي، أن مناخ مدينة صنعاء جاف إلى حد لا يتناسب وحالة كثير من المرضى، وأن نسبة التلوث تزيد الطين بلّةً عند المصابين بالتحسس، وتتطلب الالتهابات المتكررة للعين علاجاً في كل مرة، وقد تسبب التلف أو الضرر البالغ، فضلاً عن أعراض احمرار العين والحكة والخشونة في الجفن التي لا تكاد تختفي بفعل المهيّجات.
وتعني زيادة التلوث كمية السموم التي قد تُخزَّن في أجهزة الجسم، وتقلل من حصول الجسم على الأوكسجين الكافي، فيضطر إلى أن يعوّض ذلك بزيادة إنتاج الدم أو زيادة ضخ القلب للدم، ما قد يسبب إما الجلطات أو الضرر لعضلة القلب، وفقاً لطبيب القلب حمود المقحفي.
لا أشجار كافية في اليمن
تمنع زيادة منسوب التلوث وندرة الغطاء النباتي وصول الأوكسجين إلى الدم، ويحدان من التخلص من الغازات السامّة، ففي أثناء عملية التنفس يحصل الإنسان على الأوكسجين ويطرح ثاني أكسيد الكربون الذي تمتصه أوراق النباتات، لكن لا أشجار تكفي في اليمن نتيجة ندرة المياه والتحطيب الجائر والتلوث بالنفايات وضعف الاهتمام بزراعة أشجار الزينة.
ينسب كثير من اليمنيين عدم القدرة على التنفس إلى الحالة النفسية والصحية والظروف المعيشية، ويشعرون بوطأة هذه المعاناة بشكل واضح حين يذهبون إلى الأرياف أو المدن الساحلية أو يغادرون الوطن
وبحسب مدير التنوع البيولوجي والمحميات الطبيعية في هيئة حماية البيئة، عبد الله أبو الفتوح، يقطع المواطنون نحو 886 ألف شجرة سنوياً لاستخدامها في 722 فرناً في العاصمة صنعاء فقط، أي يحرقون نحو 17 ألفاً وخمسمئة طنٍّ من الحطب سنوياً، وهذا يعني استنزاف مساحة خضراء قدرها 780 هكتاراً، وتقدّر الهيئة مساحة الغابات في اليمن بنحو 1،500 هكتار.
ويتسبب تلوث الهواء بوفاة تسعة ملايين شخص سنوياً، وتشير منظمة الصحة العالمية إلى أن "تسعةً من أصل عشرة أشخاص في العالم يتنفسون هواءً ملوثاً". ومع أن التشجير مكلف خاصةً في ظل ندرة المياه، إلا أنه أقل كلفةً من مكافحة التلوث، ومنح كل مواطن أسطوانة أوكسجين فارغةً.
وبالرغم من أن اليمن لم يدقّ بعد ناقوس الخطر في ما يخص نسبة التلوث في الهواء، لكن لا تصعب ملاحظة عدم توفر أوكسجين يغطي حاجة ثلاثين مليون نسمة لهواء نقي، فالبلد بلا أشجار كافية، ولا تشجير إلا باستغلال تصريف مياه الأمطار لإيجاد غطاء نباتي للبلد، والتوقف عن التحطيب وحرق الأخشاب والنفايات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...