"كانت شقيقتي الراحلة آمال، تعيش معي وزوجتي في منزلنا الذي يبعد مسافة ثلاثة كيلومترات عن المصبّ، وكانت مصابةً بمرض السكّري، ولكنها بصحةٍ جيدة، ولا تشكو من شيء"، يحكي علاء بن إبراهيم، وهو من سكان مدينة عقارب، في ولاية صفاقس التي شهدت احتجاجاتٍ عنيفةً، ومواجهاتٍ مع قوى الأمن، بعد قرار السلطات إعادة فتح مصبّ النفايات من جديد، في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، بعد أن أُغلق عام 2019 بقرارٍ قضائي.
موت بطيء
في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، أعلنت وزارة البيئة التونسية إعادة فتح مكبّ النفايات "القنّة".
وأوضح بيان للوزارة، أنه "تقرّر الانطلاق في استخراج الغازات، ومعالجتها، مع مضاعفة عمليات إزالة الروائح، والمعالجة ضد الحشرات، والشروع فوراً في تنظيف النفايات المتراكمة ورفعها من الأحياء والنقاط العشوائية". لكن من اكتووا بنار المكبّ من قبل، يعرفون عواقبه الوخيمة على صحتهم.
يضيف علاء، الرافض لإعادة فتحه، حكايته لرصيف22، ساخراً: "كنا نشتمّ يوميّاً روائح كريهةً وقاتلةً تنبعث من المكبّ وكأنها عطر قوي نستشعر شدة حرارته في حناجرنا".
في إحدى الليالي، استفاقت آمال، وطلبت من زوجة شقيقها قليلاً من الزيت، حتى تضعه على خدّها، لأن بعوضةً قرصتها. لم يعطوا أهميةً للأمر، لتستفيق في صباح اليوم التالي وقد احمرّ خدّها، وانتفخ كثيراً.
حملها علاء إلى الطبيب، فوصف لهم مضاداً حيوياً، وعادوا إلى المنزل. ثم ساءت حالتها في اليوم التالي، إذ ازرقّ خدّها، وانتفخ أكثر، فنقلها إلى قسم الطوارئ في مشفى في عقارب، فنقلوها بدورهم إلى المستشفى الجامعي، الحبيب بورقيبة، في صفاقس.
فحص الطبيب آمال، ونُقلت إلى قسم الأمراض الجرثومية في مستشفى الهادي شاكر في صفاقس، "وهنا تأزّمت حالتها، وبدا خدّها كأنه قطعة خبزٍ متعفنة. احمرّ واصفرّ واخضرّ وازرقّ ثم اسودّ"، يقول علاء.
وأضاف: أخذ الإطار الطبي في القسم، عيّنةً من خدّها لتحليلها، ومعرفة حقيقة المرض، ونوعية البعوضة التي قرصتها، وأبقوها في القسم، "عوض نقلها إلى العناية المركّزة، ولم يهتمّوا بها. وصفوا لنا دواء المورفين، وعلى حد علمي فهو مخدّر شربته آمال (20 سنة)، وكانت تقول ‘لقد حرقني الدواء’، ثم دخلت في غيبوبة".
مع دخولها في غيبوبةٍ كاملة، شارك 12 طبيباً في الكشف عن حالتها في مستشفى الهادي شاكر، وبقيت على ذلك الحال، ثم توفيت بعد يومين، في 26 كانون الأول/ ديسمبر 2019.
"سنبقى نحارب، لأن المصبّ سرطان متنقّل، وموت بطيء، وإذا كانت أرباح الأطراف المستغلّة له أهم من حياة المواطن، فعلى الدنيا السلام".
بعد وفاتها، خرجت نتائج تحليل عيّنة خدّها، وأثبتت أن آمال أصيبت بمرض الفطر الأسود الذي يظهر في محيطٍ ملوّث ومتعفّن، وأن البعوضة التي قرصتها كانت ناقلةً للفيروس من مكبّ النفايات المتعفّن بالفضلات المتنوعة، وفق علاء.
"بمجرد ظهور النتيجة، بدأت المشكلات، إذ رفض الطبيب الشرعي في المستشفى الجامعي الحبيب بورقيبة، تشريح جثة أختي، بتعلّة أنه مريض بالسكّري، ويخاف على نفسه. نحن لم نكن نرغب في تشريح جثتها، ولكن مع تأكدنا من خوفهم من نتائج التشريح، أصررنا على ذلك"، يوضح.
بعد ضغوطٍ، تم تشريح جثة آمال، وأخذت الأسرة عيّنةً من دمها، وسلمتها إلى وزارة الصحة في العاصمة تونس، وهي تنتظر إلى اليوم النتيجة، "إذ لم يعثر محامينا لا على العيّنة، ولا على التقرير. نريد نتيجة تحليل الطب الشرعي، لإظهار الحق، وحتى يأخذ القانون مجراه"، يختم.
قصص مختلفة والمتّهم واحد
وُلد أمان الله، ابن شقيقتي، في حالةٍ صحيةٍ جيدة، وكان نموه طبيعياً، وكان يلعب ويمرح مع الأطفال، ثم بدأت تظهر عليه منذ عامه الرابع، علامات قلّة الحركة، فعرضته والدته على الطبيب الذي ساوره الشك في إصابته بسرطان الدم، يروي علي البوحاري، خال الطفل الراحل، لرصيف22.
أتمّ الطبيب الإجراءات الطبية الضرورية كافة، وكان شكّه في محلّه، وانتقلوا مباشرةً إلى العلاج الكيميائي: "تألم أمان الله كثيراً، ولم يتحمّل العلاج، لأنه طفل، ومناعته ضعيفة"، يوضح علي.
بعد فترةٍ، تعكّرت حالته الصحية، فخرج من المستشفى، وظلّ في المنزل حتى توفي يوم 20 شباط/ فبراير 2020، وكان عمره خمس سنوات، "بقي لشقيقتي ابن واحد فقط، الله يلهمها الصبر والسلوان... ما يحس بالجمرة كان الي يعفس عليها"، يضيف.
انتفضت مدينة عقارب ضد إعادة افتتاح مصبّ النفايات في المدينة. رصيف22 استقى قصص من فقدوا أبناءهم وإخوانهم، وأُصيبوا بأمراضٍ عدة بسبب المكبّ "القاتل".
تسكن أسرة أمان الله، في منطقةٍ مرتفعةٍ في حيٍّ قريبٍ من وسط المدينة، ما يجعلهم معرّضين كثيراً لاستنشاق الغازات السامّة، والهواء الملوّث، المنبعثَين من المصبّ، وكان أمان الله يشكو كثيراً من هذه الروائح، ومن صعوبة التنفّس، ومن الإغماء، حسب علي.
يؤكد الخال وجود علاقةٍ مباشرةٍ بين مرض ابن شقيقته، وتلوّث الهواء، ويقول: "مشكلتنا في منطقة عقارب، أن الوكالة الوطنية للتصرّف بالنفايات لديها نفوذ كبير في المنطقة، ما يصعِّب علينا الحصول على نتائج التحاليل، للتعرف على حقيقة أسباب هذا المرض، لتأكيد علاقته بمكبّ النفايات".
ويختم: "ما الذي يجعل طفلاً صغيراً بصحةٍ جيدةٍ يمرض، ويتوفى بهذه السرعة؟ تقريبا كل عائلة في عقارب لديها اليوم مصاب بالسرطان، جرّاء التلوّث".
"مانيش مصبّ"
سنة 2008، رفضت بلدية مدينة عقارب إنجاز مكبّ النفايات "القنة" في المدينة، لكن المجلس الجهوي لمحافظة صفاقس فرض الأمر على السكان، وأحدث المكبّ، يقول عضو حراك "مانيش مصب" (لست مكبّاً للنفايات)، ثامر بن أحمد، لرصيف22.
وتكوّن الحراك سنة 2017، ويعمل على القضاء على مشكلة التلوّث في عقارب، من خلال المطالبة بإغلاق المصبّ نهائياً.
ووفق كرّاس شروط المشروع، تمتد مدة استغلاله خمس سنوات فقط، يتم بعدها إحداث مصبّ آخر في مدينة أخرى، وتتم عملية تفريغ النفايات التي تأتي مضغوطةً من مراكز التجميع، في خانة المصب (الحفرة)، على ألا تتجاوز مستوى سطح الأرض، وأن تُدفن طبقة نفايات تليها طبقة من التراب، للمساعدة في تحللها، يضيف ثامر.
ويؤكد بن أحمد، أن وكالة التصرف بالنفايات، والشركة المستغلّة لمشروع المصب، "استغلّتا ضعف الدولة بعد الثورة، وتمادتا في العمل من دون احترام كُرَّاس الشروط، وغالطتا الرأي العام، فتحوّل المصب إلى جبالٍ وهضابٍ من النفايات".
بعد امتلاء الخانة (الحفرة)، انطلق انبعاث الغازات السامة، والروائح الكريهة، من النفايات، منذ سنة 2013، فبدأ مواطنو عقارب بالتحرّك، خاصةً بعد قيام الوكالة والشركة بحرق جزءٍ فحسب من النفايات، وترك الجزء الآخر "يتنفّس" في الهواء، عوض حرقهما معاً.
تسببت الغازات السامّة، والروائح الكريهة المنبعثة من المصبّ، بارتفاع عدد مرضى السرطان، ونسبة مرض العقم لدى الرجال والنساء، وانتشار مرض الحساسية الجلدية".
وطالب الحراك المجلس البلدي في عقارب، ووكالة حماية المحيط، بتركيز محطة تحليل قارة، فأرسلت الوكالة مخبراً متنقلاً قام بقياس جودة الهواء في مدينة عقارب، وفي منطقة المرعنية المجاورة.
أثبتت نتائج تقرير عقارب، أن نسبة انبعاث غاز كبريتيد الهيدروجين الخطير والسام، فاتت العتبة المعقولة، بمعدل ثلاثة أيامٍ على أسبوع، ما يعني أنه مؤشر شديد الخطورة على تلوّث الهواء، فيما "تم التعتيم على تقرير المرعنية، بحجة أن المخبر المتنقل تعرّض إلى عطبٍ، فتم نقله إلى العاصمة تونس"، حسب ثامر.
حصل الحراك على جزءٍ من التقرير، وأكد لهم بعض الخبراء خطورة هذه الغازات على صحة المواطنين، كالإصابة بأمراض ضيق التنفس، والتهاب الممرات التنفسية، والصداع، وغيرها، وجمعوا ألفاً ومئتي إمضاءٍ من سكان عقارب، ورفعوا قضيةً سنة 2019، تطالب بغلق المصب.
أصدرت محكمة الناحية في عقارب يوم 11 تموز/ يوليو 2019، قراراً يقضي بالوقف الفوري لاستعمال مصب "القنة"، "نظراً للأخطار التي يمثّلها على صحة المواطنين، وحقهم في التمتع ببيئة سليمة، حسب ما ينص عليه الفصل 45 من الدستور"، وفق ما ورد في نص القرار.
وينص هذا الفصل على أن "تضمن الدولة الحق في بيئةٍ سليمةٍ ومتوازنةٍ، والمساهمة في سلامة المناخ، كما على الدولة توفير الوسائل الكفيلة بالقضاء على التلوث البيئي".
كما قضى القرار، "بإزالة النفايات التي وقع تجميعها في المكب في أجل ستة أشهرٍ من تاريخ إصدار هذا الحكم القضائي"، وتوجهت المحكمة بالقرار إلى كلٍّ من وزارة البيئة، وشركة المناولة "سيغور"، والوكالة الوطنية للتصرف بالنفايات، والديوان الوطني للتطهير.
ويقول ثامر إن وكالة التصرف بالنفايات، تعهدت بإغلاق المصبّ في 2021، والقيام بأشغالٍ للانتقال إلى مكانٍ آخر، ولكنها خالفت وعدها، "وزادت الطين بلّةً بتفريغ نفايات طبية مع النفايات المنزلية في المصب، ما دفع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لرفع قضيةٍ ضدها في هذا الخصوص، لا تزال جارية".
وتأسس المنتدى سنة 2011، وهو منظمة غير حكومية مستقلّة تُعنى بالدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على المستوى القومي والدولي.
والتقى يوم 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، ممثلون عن الحراك بمسؤولين عن وزارات البيئة، وشؤون أملاك الدولة، والشؤون الاجتماعية التي تبنّت ملف عقارب، "وأكدنا لهم عدم استعدادنا لاستمرار معاناتنا من التلوّث منذ 14 سنة، وتشبثنا بقرار الغلق النهائي للمصب"، يقول ثامر بن أحمد.
ويضيف أنهم اقترحوا على السلطة فتح خانةٍ (حفرة) جديدة، بعد تأكيد وزارة شؤون أملاك الدولة استعدادها الفوري لتقديم قطعة أرضٍ على ملك الدولة، مساحتها أكثر من 150 هكتاراً، وتبعد عن صفاقس 62 كيلومتراً، و25 كيلومتراً عن أقرب المناطق السكنية، لاستغلالها وفق مقاييس كرّاس الشروط ، ولكنهم لم يتلقّوا أي إجابة بالرفض أو بالقبول.
ويقول: "لم يتجاوبوا معنا، لأن ارتباطهم مع الشركة المستغلّة للمصب، يُلزمهم بدفع تعويضات لها تتراوح بين ستة وثمانية مليارات، وهم يرون هذه الأموال أغلى من حياة المواطن لديهم، حسب تعبيره.
تشويه مطلب مشروع
وبالنسبة إلى بن أحمد، فإن غياب الإرادة السياسية الحقيقية، هو السبب الرئيسي في عدم حلّ معضلة التلوّث في عقارب، خاصةً أن "الحراك تعرّض لمحاولات تشويه سمعته، بعد 25 تموز/ يوليو، باتهامه بالانتماء إلى أحزابٍ سياسيةٍ معيّنة من خصوم رئيس الجمهورية قيس سعيّد، على الرغم من أن قضيتنا بيئية إنسانية، ولا نمت إلى السياسة بصلة"، كما يؤكّد.
ويختم: "سنبقى نحارب، لأن المصبّ سرطان متنقّل وموت بطيء، وإذا كانت أرباح الأطراف المستغلّة له أهم من حياة المواطن، فعلى الدنيا السلام".
بدوره، يوضح رئيس جمعية ماغنوليا، سليم بن عبد الله، أنه "وفق دراسات ووثائق موجودة في الوحدة الصحية في عقارب، اطّلعنا عليها، تسببت الغازات السامة، والروائح الكريهة المنبعثة من المصب، بارتفاع عدد مرضى السرطان، ونسبة مرض العقم لدى الرجال والنساء، وانتشار مرض الحساسية الجلدية".
وتأسست الجمعية يوم 8 نيسان/ أبريل 2018، وهي تهتمّ بالمواطنة البيئية والثقافية، وتهدف إلى المساهمة في الحفاظ على نظافة البيئة والمحيط، والتشجيع على الإبداع الثقافي، والرفع من درجة الوعي بالحقوق والحريات، وترسيخ قيم المواطنة.
الأرض أيضاً لم تسلم
يمتد المصبّ على مساحة 30 هكتاراً، مع طاقةٍ استيعابيةٍ يوميةٍ تصل إلى 600 طنٍ من النفايات المنزلية والصناعية والطبية، ويقع في المحميّة الطبيعية القنة ،في عقارب. لكنه لا يبعد إلاّ قرابة 300 مترٍ عن أقرب المناطق السكنية، وثلاثة كيلومتراتٍ عن وسط المدينة.
كما تُصرف مياه الديوان الوطني للتطهير، من دون معالجة داخل المحمية، فيما تُصرف المياه الصناعية في الأراضي الزراعية في عقارب، بالإضافة إلى ضمّها أكبر مكبٍّ لزيت المرجين (رواسب عصر الزيتون)، ونفايات معاصر الزيتون.
يؤكد بن عبد الله، لرصيف22، أن قطاع الزراعة تضرر كذلك، إذ أدّى تلوث تربة الأراضي الزراعية المحيطة بالمصب، إلى تراجع محصول الزيتون.
لإيجاد حلٍّ عاجلٍ "لكارثة التلوث" في عقارب، يرى سليم أنه من الضروري جلوس كل الأطراف المعنية، من ممثلي السلطة والمجتمع المدني، على طاولة الحوار، للخروج بحلولٍ تنهي معاناة السكان.
أما على المستوى القريب، فيدعو السلطة إلى اتّباع سياسة تثمين النفايات، وتوعية المواطنين بأهمية هذه السياسة.
يشار إلى أن وفداً عن حراك "مانيش مصب"، التقى مساء الأحد 5 كانون الأول/ ديسمبر 2021، وزير الشؤون الاجتماعية الذي أعلمهم بإيجاد أرضٍ تبعد 60 كيلومتراً عن صفاقس، على أن تنطلق يوم الاثنين 6 كانون الأول/ ديسمبر 2021، أشغال إحداث مصبٍّ جديد فيها، فيما أعلن الحراك تشبثه ببقاء مصب "القنة" مغلقاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...