في كل مرّة تشتمّ فيها الحكومة اللبنانية رائحة عودة تكدّس النفايات في شوارع العاصمة بيروت والمدن الكبرى، تلجأ من دون تفكير مسبق إلى الخطة الفاشلة في إدارة ملف النفايات، وهي المطامر التي توصف "بالصحيّة"، بالرغم من أنها ليست كذلك. ويُعدّ هذا الملف من أكثر القضايا التي تعتريها الفضائح من حيث سوء إدارتها، إذ تشوبه الكثير من علامات الفساد، وعجز الحكومات المتعاقبة عن حل هذا الملف.
من دون سابق إنذار لأحد، لا للجمعيات ولا للناشطين ولا للبلديات المعنية، أعلنت أمانة مجلس الوزراء قبل قرابة ثلاثة أشهر، بناءً على طلب وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال ناصر ياسين، استحداث أربعة مطامر لم تأتِ على ذكر مواقعها تحسباً لردة فعل شعبية، لكن بحسب معلومات خاصّة لرصيف22، فإن المواقع هي غسطا في قضاء كسروان، وأبو ميزان في قضاء المتن، وبعاصير في إقليم الخرّوب-الشوف، أما الرابع فهو إعادة فتح مطمر الناعمة الشهير في قضاء عاليه.
لا تُراعى في معظم المطامر والمكبات في لبنان الشروط الصحية حتى يُقال عنها إنها "صحّية".
في حديث إلى رصيف22، تأسف رئيس حركة "الأرض" الناشط البيئي والقانوني بول أبي راشد، على هذا القرار، خصوصاً أن المواقع الأربعة المقترحة سيّئة، ويستغرب إقامة مطمرين قريبين من نبع جعيتا، وهنا نتكلم عن منطقتي أبو ميزان وغسطا اللتين تقعان فوق النبع مباشرةً، ما يعني كارثةً بيئيةً في حال تسرّب ولو جزء صغير جداً من عصارة المطمرين إلى مياه النبع الذي يشرب منه أهالي بيروت، إذ إن عصارة النفايات المطمورة أخطر بكثير من مياه الصرف الصحي، لأنها تحتوي على مواد متفاعلة ومكثّفة ومؤذية للغاية.
يُذكر أن هناك قراراً في وزارة البيئة صدر عام 2016، ينص على منع إنشاء المطامر التي يزيد ارتفاع موقعها عن 400 متر عن سطح البحر، والهدف منه عدم تعريض المياه الجوفية للتلوث، وفي هذا السياق يسأل أبي راشد: كيف اختاروا غسطا (900 متر) وأبو ميزان (700 متر)؟ الخيارات مناقضة تماماً لقرارات وزارة البيئة.
المطامر شرارة الحراك الشعبي
لم ينجح لبنان لسنوات طوال في إيجاد حل جذري لمشكلة النفايات، ولجأ إلى الحلول الترقيعيّة عبر المطامر التي كلّفت الدولة مبالغ طائلةً، فتحولت المطامر إلى مصدر للأوبئة والأمراض السرطانية، وهنا انطلق الحراك المدني عام 2013 في وجه ذلك، بهدف إقفال مطمر الناعمة بشكل أساسي.
وفي هذا السياق، يصف رئيس حملة إقفال المطمر أجود العياش، في حديثه إلى رصيف22، "الناعمة" بالمكب العشوائي، لأن كل شيء كان يُرمى في داخله عشوائيّاً، من بقايا مسالخ ومستشفيات ومنازل ومصانع وردم، وحتى أجنّة قادمة من مخلفات المستشفيات.
من الحراك أمام مطمر الناعمة لإقفاله عام 2013
ويلفت العياش، وهو دكتور في الهندسة الميكانيكية، إلى أن المكب كان خطةً مؤقتةً لثلاث سنوات فقط، لكن "في لبنان كل شيء مؤقّت يصبح أبدياً"، وعلى مدار 17 سنةً و8 أشهر، كان مكب الناعمة مفعَّلاً من دون حسيب ولا رقيب، حتى بدأت حملة إقفاله عام 2013، بدعم ومشاركة من الحركة البيئية، وأُغلق بشكل نهائي عام 2015، ويقول العياش: "استطعنا إغلاق طريق المكب مع أهالي البلدات المجاورة، ومنعنا شاحنات النفايات من عبور الطريق، وعلى إثر ذلك غرقت شوارع بيروت بالنفايات، الأمر الذي أدى إلى اندلاع شرارة حراك 2015 وتشكيل مجموعات مثل ‘طلعت ريحتكم’، و’بدنا نحاسب’، ونزلت إلى الشارع للمطالبة بإسقاط الحكومة".
مطامر صحيّة بالاسم فقط
لا تُراعى في معظم المطامر والمكبات، من الكارنتينا وبرج حمود والجديدة والكوستا برافا وصولاً إلى الناعمة وغيرها الكثير، الشروط الصحية حتى يُقال عنها إنها "صحّية"، وهنا سنأخذ مطمر الناعمة نموذجاً كونه الأكبر مساحةً وصاحب الأمد الأطول في استيعاب النفايات.
على مدى 17 عاماً، عاش الناس إلى جانب المطمر، وكانوا يضطرون في الصيف إلى ترك منازلهم بسبب الروائح الكريهة التي كانت تصدر منه، فكان يبعث في الهواء قرابة 10،000 متر مكعب من غاز الميثان في الساعة، إذ كانت تدخله يومياً، وفق حديث العياش، 3،500 طن نفايات، وهي الكمية التي ينتجها جبل لبنان وبيروت.
ويقول العيّاش: "التلوث الموجود في الهواء ليست له رائحة ولا لون لكنه سام، خصوصاً إذا ترافق مع غازات أخرى، ولهذا كنا نرى أعداداً كبيرةً من المصابين بالسرطان ولم نزل حتى يومنا هذا، لأن أجساد الناس أُشبعت بالميثان، كذلك طال التلوث المزروعات من أشجار مثمرة وخضروات".
رفض عارم
فاجأ قرار مجلس الوزراء الناشطين الذين عبّروا عن استيائهم من انتهاج الحكومة للحلول الفاشلة عينها، وفي هذا السيّاق يؤكّد العيّاش أن أحداً لم يستشر اللجنة التي يرأسها، وفي حال نُفّذ هذا القرار فردة الفعل ستكون قاسيةً، ويقول: "وعي الناس وغضبهم أصبحا كبيرين جدّاً، ولن نسمح لأحد بأن يُقدم على هذه الخطوة، وهي ستكون بمثابة القشة التي ستقسم ظهر البعير".
يقول وزير البيئة إن هذه المطامر لن تحوي إلا العوادم، وهو الكلام نفسه الذي قيل عن كل المطامر الموجودة حالياً، والتي طُمرت فيها كل أنواع النفايات. نرفض أن نتحمل أعباءً جديدةً، وسنتحرك على الأرض في حال القيام بأي خطوة تجاه فتح المطامر في منطقتنا
بدورها، عضوة بلدية الدبية وأمينة سر حزب الخضر اللبناني، ريتا بستاني، أكدت لرصيف22، رفضها بشكل قاطع للمطامر، وقالت: "لن نقبل بأن يُنشأ أي مطمر في منطقتنا، لأن منطقة إقليم الخروب لديها ما يكفيها من تلوث في الهواء بسبب معمل الجيّة لتوليد الطاقة ومعمل سبلين للإسمنت، فلن نقبل بالمزيد من الملوثات".
وأضافت بستاني: "يقول وزير البيئة إن هذه المطامر لن تحوي إلا العوادم، وهو الكلام نفسه الذي قيل عن كل المطامر الموجودة حالياً، والتي طُمرت فيها كل أنواع النفايات. نرفض أن نتحمل أعباءً جديدةً، وسنتحرك على الأرض في حال القيام بأي خطوة تجاه فتح المطامر في منطقتنا".
وجدير بالذكر أن الاتفاق بين مجلس الإنماء والإعمار وشركة "سوكلين" المسؤولة عن جمع النفايات وفرزها ونقلها إلى المطمر، يقضي بأن تخضع النفايات للفرز والتسبيخ (أي تحويل المواد العضوية إلى محسّنات للتربة)، وإعادة التدوير، وتطمر النفايات المتبقية (العوادم)، ونسبتها 10% لا أكثر. وبحسب بول أبي راشد، فإن الشركة كانت تتقاضى الأموال بدل الفرز والتسبيخ، ومن بعدها تتقاضى الأموال لقاء طمر هذه المواد التي من المفترض أن تذهب إلى مراكز التدوير والمزارعين، عوضاً عن طمر العوادم فقط، وتالياً فإن هذه العملية كانت مصدر أموال لا تُعدّ ولا تحصى، وهي فضيحة كبيرة لا بد من محاسبة المتورطين فيها وفق وصف المتحدث.
من الحراك أمام السراي الحكومي في بيروت ضد المطامر
هل من حلول جذرية؟
حلول أزمة النفايات ممكنة وقريبة، ولا تكلّف الدولة أعباءً ماليّةً، وكما تفعل الدول النامية والمتحضرة على حد سواء، فإن ملف النفايات يُعدّ ثروةً بكل ما تعنية الكلمة من معنى، وفي هذا الإطار يقول أبي راشد: "حل المطامر لا يكون إلا بالتوازي مع حل الطوارئ البيئية، وهو يفرض علينا تدابير استثنائيةً"، ولهذه التدابير خطوات عدة وفق حديثه.
أولاً، يجب إعلان التعبئة العامة كما حصل عند انتشار فيروس كورونا، لكي يكون كل المجتمع مع الدولة في حالة استنفار تام لاستدراك الكارثة، بحيث يُجبر المواطنون على رمي نفاياتهم بطريقة معينة.
بقايا الطعام تخضع للتسبيخ، أما بقايا الزجاج والبلاستيك والكرتون فيمكن للبلديات بيعها والاستفادة من عائداتها لتأمين إدارة مراكز الفرز والترحيل. بهذا نستفيد من 80% من النفايات، وتبقى لدينا 20% من المرفوضات أو العوادم التي يمكن طمرها، بدل طمر 100% من النفايات
ثانياً، لا بد من التشدد في موضوع الفرز من المصدر، بفرض مستوعب إضافي في كل منزل للزجاج والبلاستيك والكرتون، إلى جانب مستوعب بقايا الطعام، والآخر المخصص لدورات المياه وتُلقى فيه المرفوضات. وهنا على البلديات إنشاء مراكز فرز وترحيل، وهي منصوص عنها في المرسوم المتعلّق بالفرز عام 2019، ويُمنع تحميل أية مواد إلى المطامر باستثناء العوادم.
ويشرح أبي راشد: "بقايا الطعام تخضع للتسبيخ، ويبلغ ثمن الطن الواحد منها 2،000 دولار، أما بقايا الزجاج والبلاستيك والكرتون فيمكن للبلديات بيعها والاستفادة من عائداتها لتأمين إدارة وتشغيل المراكز المذكورة. بهذه العملية نستفيد من 80% من النفايات، وتبقى لدينا 20% من المرفوضات أو العوادم، التي يمكن طمرها، بدل طمر 100% من النفايات، وكانت البلديات تدفع 150 دولاراً عن كل طن، ويمكننا طمر 20% فقط وتحقيق أرباح وفيرة للبلديات".
إفراغ النفايات في المطامر
وفي هذا الإطار شكّلت بلدية بريح في قضاء الشوف نموذجاً يحتذى به، فأصبحت تعالج نفاياتها بطريقة علميّة وصحيّة، ويقول رئيس بلديتها صبحي لحّود، لرصيف22: "بدأنا الفرز من المصدر، ولا توجد مستوعبات على الطرقات أبداً. لدينا جدول أسبوعي؛ الإثنين والأربعاء والجمعة تُجمع النفايات العضوية، والثلاثاء تُجمع مستوعبات الكرتون، والخميس يُجمع الزجاج. تخضع النفايات العضوية للتسبيخ، وتباع للمزارعين كسماد عضوي، والزجاج نطحنه ونستخدمه في الزينة للطرقات والأرصفة بدل الرمل، والكرتون نبيعه لمعامل إعادة التدوير، أما العوادم التي حجمها قليل فنرسلها مع شركات جمع النفايات إلى المطمر".
ويضيف لحّود: "لا يكلف الفرز البلديةَ أي مبالغ مالية، إذ تمول العملية نفسها بنفسها، والتكاليف تغطّى من بيع النفايات، مع رسم اشتراك قدره عشرة آلاف ليرة لبنانية (30 سنتاً) عن كل بيت في الشهر الواحد، وتغطّي البلدية فرق التكاليف مع الأزمة الاقتصادية وارتفاع أسعار المحروقات".
حل أزمة النفايات في لبنان ليس بالأمر الصعب ولا المستحيل، وإنما يحتاج إلى إرادة لدى الدولة والمعنيين، ويبدأ بإبعاد الشركات والمتعهدين، وإعطاء الدور للجمعيات والبلديات للانطلاق في ورش الفرز من المصدر والتسبيخ وإعادة التدوير، وعندها يمكن الحديث عن حل المطامر، فهو لا يكون إلا بالموازاة مع الإدارة الرشيدة لملف النفايات والحل الجذري له.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...