يصعب تحديد حجم المتابعة الفعلية للمسلسلات، وترتيبها بشكل مضمون، خصوصاً أن أدوات القياس الخاصة بالإنترنت لا تشتبك مع شريحة جمهور عريضة في مصر والوطن العربي، بالإضافة إلى منظومة مجاملات وشبكات مصالح لم تنجُ منها أغلب المؤسسات الإعلامية، وجعلت مصداقية أي استفتاءات منشورة شبه معدومة.
لكن يسهل بالرغم من ذلك، تصنيف المسلسلات وفرزها إلى خمس شرائح رئيسية جماهيرياً، ضمن الأعلى مشاهدةً، والجيد، والمتوسط، والضعيف، والفاشل، وبهامش خطأ بسيط.
ينتمي "الكبير أوي 6"، إلى الفئة الأولى، ولنجاحه أسباب عدة تستحق التأمل، خصوصاً بعد مواسم رمضانية عدة فشلت فيها مسلسلات الكوميديا.
لنجاح "الكبير أوي" في الموسم الرمضاني الحالي أسباب عدة تستحق التأمل.
1- شخصيات تعرفها بسلوكيات مفهومة وثوابت كوميدية
من أبرز آفات التأليف في الأفلام والمسلسلات الكوميدية في السنوات الأخيرة، الاستسهال والاعتماد على وضع أي "إيفيه"، أو تعليق عبثي، على لسان الشخصيات، في محاولة لانتزاع الضحك. وهي مشكلة ازدادت مع فوضى تمثيلية، جعلت التصوير أشبه بسيرك، يشارك فيه كل ممثل وممثلة عشوائياً بأي شيء يجول في خاطرهما.
يدمّر هذا المنهج في أغلب الأوقات المنطق المطلوب للشخصية، ويتجاهل سؤالاً مهماً في عالم التأليف: هل يمكن لشخصية بهذه الخلفية الثقافية والاجتماعية والمعطيات، أن تفكر في جملة أو رد فعل من هذا النوع؟
المخرج أحمد الجندي، وفريق التأليف في "الكبير أوي 6"، بقيادة مصطفى صقر، الذي شارك في كتابة كل المواسم السابقة، لا يفلتا من هذه المشكلة بشكل كامل، لكنهما أفضل حالاً من غيرهما في هذا الخصوص. فالشخصيات تتحدث وتتحرك بمنطق مفهوم، غير متعارض مع ما نعرفه عنها طوال مواسم سابقة، أو مع معطيات الموقف.
المثال الأبرز للملاحظة، قد يكون شخصية الدكتور ربيع، التي يلعبها الممثل بيومي فؤاد، وكانت سبباً في انطلاق شهرته.
في المسلسل منطق وخلفية ثابتة متعارفة للشخصية منذ بدايتها، ملخصها أنه طبيب، مهمل، وغير مؤمن بالعلم بشكل صحيح وأقرب ذهنياً إلى الدجالين، وفاقد التركيز، يتحدث دوماً في مواضيع جانبية حتى في وقت الكوارث، ولا يهتم بسماع شكوى المريض لأنه دائماً في عجالة، ويرى كل من حوله وبالأخص "الكبير"، مجرد مجموعة متخلفين وجهلة، وهو مقتنع بأنه قامة علمية على مستوى عالمي، لكن لا يفهم قيمتها أحد في بلده، وأيضاً يعشق المبارزات الكلامية.
من أجمل المقاطع وأكثرها إثارةً للضحك، إعادة توظيف أغنية "قطر الحياة" الجادة، التي قدّمها مكي عن خطورة المخدرات عام 2012، لتصبح هنا مترابطةً مع مشهد في المسلسل، أصبح فيه الإنترنت هو المخدر الذي لا يستطيع البطل الإقلاع عنه
أغلب النكات حول الشخصية، أو الصادرة منها، لا تتجاهل ما سبق، بل تنسجم معه. لنقارن ذلك بعشرات الشخصيات الكوميدية التي قدمها بيومي فؤاد في أعمال أخرى، وسنلاحظ الفارق. في الحقيقة سنعاني ربما لنتذكر أي مجموعة صفات ثابتة أو مفهومة، لأغلب الشخصيات الأخرى التي لعبها!
2- شخصيات جديدة بالمزايا نفسها
استفاد الموسم السادس من وجوه غير معروفة، كان أبرزها رحمة أحمد في دور مربوحة، ومصطفى غريب في دور العترة، ابن الكبير.
كلاهما تمثيلياً يملك القبول والموهبة والحس الكوميدي المطلوب، وللشخصيتين أيضاً ثوابت وصفات مفهومة سلوكياً.
على ذكر المواهب: هل تذكر/ ين أي مسلسل آخر، أو أي اسم غير أحمد مكي، قدّم منذ بداياته كل هذا الكم من الفرص لمواهب وأسماء مغمورة، في وسط فني مصاب بكل أمراض المجاملات والمحسوبية والتوريث؟
يرث المسلسل في بعض حلقاته صراعات ساخرةً متوارثةً من عالم السوشال ميديا.
3- ضيوف شرف موظفة بذكاء
يندر أن نجد فهماً حقيقياً في أعمالنا لقيمة الظهور الشرفي، أو لوجود "ضيف الحلقة"، لكن هذا ما تحقق بامتياز في "الكبير أوي 6"، عندما ظهرت النجمة نيرمين الفقي في المسلسل بشخصيتها الحقيقية.
ينطلق الاختيار من نقطة أساسها الصورة الذهنية لدى المشاهدين عنها كونها "النجمة الفاتنة التي يحلم بها كل الرجال"، ويتلاعب بما سبق ليقدم مفارقةً كوميديةً، خلاصتها أنها لن تكتفي فقط بالزواج من صعلوك متخلف مثل حزلقوم، لكن ستنهشها الغيرة عليه بجنون أيضاً، كونه مطمعاً لكل النساء.
4- التواصل الكوميدي مع أعمال سابقة
في "الكبير أوي 6"، تعود شخصيات مكي الشهيرة كلها ومنها حزلقوم، لكن النقطة الأهم ربما، هي نجاح صناع المسلسل، في اختلاق محاور ضحك وسخرية مرتبطة بأعمال أخرى.
من أجمل هذه المقاطع وأكثرها إثارةً للضحك، إعادة توظيف أغنية "قطر الحياة" الجادة، التي قدّمها مكي عن خطورة المخدرات عام 2012، لتصبح هنا مترابطةً مع مشهد في المسلسل، أصبح فيه الإنترنت هو المخدر الذي لا يستطيع البطل الإقلاع عنه.
5- التفاعل الساخر مع ثقافات أخرى
لعب مكي ببراعة على هذه النقطة منذ بداياته، ليس فقط عن طريق تقديم شخصيات متأثرة بثقافات أجنبية بشكل واضح مثل "إتش دبور" و"جوني"، بل أيضاً بتقديم مقاطع كاملة ساخرة، تلامس تراثاً فنياً وأعمالاً أجنبيةً.
على سبيل الذكر، مقطع قصة الحب الهندية في فيلم "طير أنت"، أو السخرية من سلسلة أفلام ستار ووز الأمريكية في فيلم "حزلقوم في الفضاء".
في "الكبير أوي 6"، يعود مكي وصناع المسلسل إلى هذه اللعبة، بتقديم مقاطع كوميدية مرتبطة بأعمال عديدة كان منها مسلسل الإثارة الكوري "لعبة الحبار"Squid Game ، عن شباب يتورطون في لعبة حياة أو موت إجبارية، وفيلم الرعب الأمريكي "آنابيل"Annabelle عن دُمية شيطانية تثير الفزع في منزل أسرة.
قد يرى البعض في هذا المنهج استسهالاً، لكن تلاحم هذه الأفكار والأفكار الغربية بشكل عبثي، مع شخصيات المسلسل، أنتج كوميديا فعالةً في أغلب الوقت، على عكس أفلام ومسلسلات عديدة حاولت أن تلعب بالمنهج نفسه، لكن من دون نسج كوميدي فعّال وتداخل متقن لشخصياتها المصرية مع العمل الأجنبي.
6- التداخل مع عالم السوشال ميديا واشتباكاته
لا يكتفي المسلسل بتوظيف الهوس بالإنترنت وأحلام التحول إلى "إنفلونسر"، كدافع أساسي في تصرفات شخصية جوني وهدرس الكوميدية، لكنه يضيف من وقت إلى آخر عجائب حقيقيةً من هذا العالم، مثل فيديوهات "تحضير الكفتة في غرف النوم!".
الشيء نفسه يمكن قوله عن شخصية "طبازة"، التي يلعبها الممثل عبد الرحمن ظاظا، وتتحدث طوال الوقت بتركيبات لغوية ونبره صوت قطّ، تماثل طريقة كتابة الميمز على صفحات عشاق القطط على السوشال ميديا.
يرث المسلسل أيضاً بوضوح في بعض حلقاته صراعات ساخرةً متوارثةً من عالم السوشال ميديا، ويلعب على تناقضات عديدة، كمحور لمفارقات كوميدية، مثل الفرق بين منظور الفيمنست للعدالة والمساواة، ومنظور شخصية الكبير أوي للمرأة، بكل موروثاته الريفية الذكورية المتزمتة.
السخرية من العقلية الذكورية المنغلقة، أو من حساسيات بعض الفيمنست المبالغ فيها أحياناً لكل جملة، مسألة ليست جديدةً على المسلسلات، لكنها هنا فعّالة ككوميديا لسببين، أولهما أن السوشال ميديا مهّدت أولاً لهذه الخلافات، وجعلتها أشبه بفقرات يومية ثابتة، وثانيهما أننا نتفهم بسهولة لماذا يصعب على شخصية مثل الكبير، قبول أبسط المطالب النسوية.
7- غياب طويل
الجزء السادس عُرض عام 2015. الغياب لمدة سبع سنوات كان كافياً ليشتاق الجمهور إلى المسلسل وشخصياته.
8- توقيت العرض
الأسابيع السابقة لرمضان هذا العام، شهدت أخباراً محبطةً بخصوص الاقتصاد والتضخم. هذا عامل نفسي مهم لاختيار مسلسل كوميدي للمتابعة، وللهروب من أي توتر.
9- طبيعة المنافسين
مسلسلات درامية عديدة هذا العام، ارتبطت بأجواء وقضايا مثل الإرهاب، والتنظيمات الإسلامية، والصراعات السياسية عقب ثورات 2011، وخلافات المحاكم بعد الطلاق، والانتقام، وغيرها. كلها اختيارات موترة للأعصاب، في توقيت لا تحتاج فيه الغالبية إلى مزيد من التوتر والقلق أصلاً.
والبدائل الكوميدية أو اللايت، التي قدّمها آخرون مثل رامز جلال وأكرم حسني ويسرا وروبي ومي عمر وفيفي عبده، لم تنجح في حلقاتها الأولى في اختطاف اهتمام الجمهور، وبالأخص برنامج رامز جلال، الذي تعرّض لهجوم مستحَق. كل ما سبق معطيات جعلت "الكبير أوي 6" يلمع أكثر.
10- التسلية أولاً... وربما ثانياً وثالثاً وعاشراً
قبل رمضان بنحو شهرين، عثرت على مجلة ورقية قديمة، تحتوي على مقال نقدي عن أفلام 1973.
في المقال، هاجم الناقد فيلم "عودة أخطر رجل في العالم"، للنجم فؤاد المهندس، كونه نموذجاً للإفلاس والهراء والفن المبتذل الرديء، الذي يمكن أن يحقق إيرادات مرتفعةً في شباك التذاكر، لكن يستحيل أن يصمد في اختبار الزمن. وذكر كاتب المقال 4 أو 5 أفلام أخرى من إنتاج العام نفسه، يعدّها عظيمةً وفي طريقها إلى الخلود المؤكد، خصوصاً أنها تناقش ما يراه قضايا مهمة.
الجمهور يحتاج إلى التسلية أولاً في كل عمل يشاهده. ومعها، يمكن أن يتقبل رسائل وأفكار وأطروحات، عن السياسة والمجتمع والتاريخ، وعن قضايا المرأة والحريات. وربما معها أيضاً، يمكن التصالح مع درجة ما من الوعظ
والحقيقة أنني لا أذكر حتى اسم أي من هذه الأفلام، لكن كملايين آخرين يمكنني بالتأكيد أن أستمتع حتى اليوم بالهراء الكوميدي العظيم المسلي في "عودة أخطر رجل في العالم"، بالرغم من أنني وُلدت بعد عرضه. بصياغة أخرى، الهراء الحقيقي كان توقعات الناقد، ليس إلا!
الجمهور يحتاج إلى التسلية أولاً في كل عمل يشاهده. ومعها، يمكن أن يتقبل رسائل وأفكار وأطروحات، عن السياسة والمجتمع والتاريخ، وعن قضايا المرأة والحريات. وربما معها أيضاً، يمكن التصالح مع درجة ما من الوعظ. هذه حقيقة بسيطة لم يفهمها الناقد كاتب المقال المذكور، ولم يفهمها أيضاً أغلب مؤلفي مسلسلات هذا العام.
لكن فهمها "الكبير أوي"، بالرغم من ثقافته البدائية كمزاريطي! ولعلها أيضاً السبب في أن موسمه السادس، بدأ بتحية عطرة في أولى حلقاته، لواحد من أساطير التسلية والكوميديا التي لم تجعل الوعظ هدفها: سمير غانم.
هل يمكن أن يصمد "الكبير أوي" في اختبار الزمن مستقبلاً، بالقدر نفسه لفيلم مثل "أخطر رجل في العالم"؟ لا أعرف الإجابة بشكل مؤكد، لكنه على الأقل عمل متقن وفعال من حيث التسلية، ولا يدّعي عمقاً فكرياً ليس فيه، وكلاهما شيء لا تجده في أغلب مسلسلات هذا العام المملة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...