يعتقد صديقي أن سمير غانم ليس شخصية واحدة، إنما ثلاث شخصيات لثلاث مراحل عمرية. تلك الملاحظة تستوجب التأمل، وتدفعني إلى التساؤل: ثلاث مراحل عمرية، أم ثلاث مراحل فنية؟ أعتقد أن الاحتمال الثاني هو الأدق... فسمير غانم الذي ترك كلّية الشرطة بعد عامين من الدراسة، والتحق بالتمثيل المسرحي، لم يكن يدرك وقتها أن صداقته مع جورج سيدهم، والضيف أحمد ستكون تمهيداً لمشروع "كوميديان" عظيم. في البداية، عُرف من خلال فرقة ثلاثي أضواء المسرح. والفرق المسرحية لها باع طويل في فن الكوميديا، إذ كانت فرقة الكوميدي العربي، والتي أسّسها الريحاني وعزيز عيد وروز اليوسف، أول محطة حقيقية لتدشين فن الكوميديا العربية. بعدها تعاقبت وتعددت الفرق المسرحية. منها ما نجح ومنها ما فشل، علماً أن فشل الفرق أسهل بكثير من فشل الفنان. أما فرقة ثلاثي أضواء المسرح فقد كانت مختلفة عن كل ما سبقها، وكل ما جاء بعدها، فتلك الفرقة لم يتوقف دورها عند التمثيل فحسب، بل شمل الغناء أيضاً، سواء على نمط الـ"سكتش"، أو الاستعراض، أو الطقطوقة، لتقدّم لنا عدداً لا نهائياً من الأغاني التي راجت وقتها، وظلت مؤثّرة في وجدان الشعب العربي حتى اليوم. ولعل أبرز "سكتشاتها": "بابا آدم"، و"الخنافس"، و"جمبري مشوي"، وغيرها... وبسبب هذا النجاح الساحق، اتجه الثلاثي إلى التمثيل السينمائي، لتصبح فرقة ثلاثي أضواء المسرح الورقة الرابحة في أي عمل فني تلتحق به. ثم بدأت رحلة الصعود، خاصةً في أوائل سبعينيات القرن الماضي، مع تحوّل المجتمع المصري نحو الانفتاح.
"عاوز أكتب لك حاجة". فكان رد سمير غانم: "أنا ما حدّش يكتب لي". هذا الرد لم يأتِ من قبيل التعالي، فهو معروف بالارتجال، وهذه القدرة هي إحدى السمات الفنية التي ظلت تميزه طوال 55 عاماً
والانفتاح لم يقتصر دوره على الاقتصاد، بل شمل أيضاً الانفتاح على فنون العالم الآخر، مروراً بالأزياء والموضة الجديدة، وصولاً إلى الموسيقى الحديثة. هكذا صارت فرقة ثلاثي أضواء المسرح الصوت المعبّر عن هذا الجيل، وذاع صيتها، فشاركت في العشرات من الأفلام الناجحة، حتى وصل الأمر بأعضائها إلى البطولة المطلقة، وذلك مع فيلم "المجانين الثلاثة". غير أن وفاة الضيف أحمد المبكرة غيّرت كل شيء. لقد كان ضيفاً بالفعل على الفن؛ نجح سريعاً، وغادر عالمنا بشكل أسرع. كان خفيف الحضور كأي ضيف لطيف. هنا كانت المحطة الفنية الثانية في حياة سمير غانم الذي بادر إلى تغيير هيئته تماماً، فنزع عنه النظّارات، وزرع شعراً، وكأنه يعلن ميلاداً جديداً لشخصية فنية جديدة. حاول الثنائي جورج سيدهم وسمير مواصلة سيرتهما الفنية من دون عامود الفرقة الفقري الضيف أحمد، فقدّموا عدداً من المسرحيات، كان أنجحها "المتزوجون" التي تُعدّ علامة فارقةً في المسرح. وكان سمير غانم قبلها قد قدم مسرحية "موسيقي في الحي الشرقي" مع صفاء أبو السعود، ولاقت نجاحاً كبيراً. ربما أعاد سمير غانم اكتشاف نفسه بعد تلك المسرحية، إذ تيّقن من أنه نجم كبير بإمكانه أن يقوم بالبطولة المنفردة. فقدّم عدداً كبيراً من المسرحيات، منها "فارس بني خيبان"، و "جحا يحكم المدينة"، و"جوليو ورومييت"، و"أخويا هايس وأنا لايس". لم يعتمد في تلك العروض على الفرق، أو الثنائي المعتاد، وعلى الرغم من ذلك نجحت تلك المسرحيات؛ أحبها الجمهور وتعلّق بها. ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى موهبة سمير غانم الفطرية، واعتماده الكبير على الارتجال، والإكسسورات المُضحكة. ولكن هذا النجاح لم ينتقل إلى شبّاك السينما الذي ظل محجوزاً لعادل إمام ونادية الجندي وأحمد زكي. غير أن ذكاء سمير غانم الفني دفعه إلى أن يلعب دور السند الذي تألق فيه. فقدم مع عادل إمام عدداً من الأفلام، على رأسها "ممنوع في ليلة الدخلة"، و"رمضان فوق البركان"، بالإضافة إلى اشتراكه في معظم أفلام تلك الفترة. وهنا جاء اكتشاف آخر لقدراته الفنية المتفردة، إذ قدّم شخصية "فطوطة" من خلال فوازير شهر رمضان. وهي الشخصية التي تعلّق بها الكبير والصغير، وكُتب لها الخلود. في تلك الفترة الفنية، اكتشف سمير غانم أن البطولة لا تعني أن يكون العمل مكتوباً خصيصاً له، وأن البطولة الحقيقية تأتي من إجادته للدور، مهما كان هذا الدور صغيراً.
حين سئل سمير غانم عن غايته أو رسالته من الفن، قال: "الضحك في حد ذاته رسالة"
لا أحد ينسى رقصته الشهيرة في فيلم "خلّي بالك من زوزو". فمجرد مروره أمام الكادر، كان كفيلاً برسم البسمة على الوجوه، والضحك أيضاً. قال له بلال فضل مرة: "عاوز أكتب لك حاجة". فكان رد سمير غانم: "أنا ما حدّش يكتب لي". هذا الرد لم يأتِ من قبيل التعالي، فهو معروف بالارتجال، وهذه القدرة هي إحدى السمات الفنية التي ظلت تميزه طوال 55 عاماً. لم يميّزه الارتجال فحسب، إنما التنوّع والمرونة في التعامل مع جمهور متجدد أيضاً. قبله اندثر فنان عظيم هو إسماعيل ياسين، لعدم مرونته... حين سُئل ياسين في برنامج تلفزيوني عن توقفه عن العمل، أجاب: "النهار دا بقى فيه جمهور جديد، جمهور من شباب الكاوبوي، وأنا معرفش ألبس شورت". تلك التغييرات والتحولات في المجتمع دفعت عبد الحليم حافظ مثلاً إلى أن يغيّر تسريحة شعره، ويرتدي القمصان المزركشة والملونة، حتى أن اسمه الفني تبدّل ليصبح "حليم" عوضاً عن عبد الحليم حافظ. هذا ما يفعله العظماء، وهذا ما فعله سمير غانم أيضاً. حين سئل سمير عن غايته أو رسالته من الفن، قال: "الضحك في حد ذاته رسالة". وهي المدرسة التي أسسها علي الكسار من قبل، ودعمها فؤاد المهندس، ثم جاء سمير غانم ليستكمل بناءها.
مع ظهور جيل الشباب في أوائل العشرينيات من هذا القرن، كانت المرحلة الفنية الثالثة في حياته، وقد أطلّ علينا بمظهر جديد فيه عودة إلى النظارات مع أزياء مختلفة تماماً. في تلك المرحلة، وكعادته، لم يبحث عن أدوار البطولة؛ لقد تمسك باكتشافه القديم: البطولة قد تأتي في مشهد. حتى أنه لم يتردد أن يشارك ثلاثياً جديداً في مشروعهم الأول؛ هشام ماجد وشيكو وأحمد فهمي. كذلك لم يتردد في أن يشارك أي ممثل عمله. تلك هي روح العطاء والإخلاص للفن، تلك هي جينات الفنان المعجون بالفن. وربما تكون هذه الجينات، بقوتها وتأثيرها، قد انتقلت إلى بناته دنيا سمير غانم، وإيمي اللتين لا يختلف أحد على محبتهما وتقديرهما.
من الممكن أن تكون الأعمال الفنية بلا رسائل عظيمة. ولكن، من المؤكد أن سيرة هذا الفنان تحمل الكثير من الرسائل. فهو الفنان الفطري الذي برع مع الفريق، وهو الذي أعاد اكتشاف قدراته، وهو الذي عرف معنى البطولة الحقيقية، وهو المرن، صاحب المواهب المتعددة، وهو العظيم الخالد سمير غانم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...