صنعت الدراما المصرية، بأشكالها المختلفة منذ بداياتها، علامات ثابتة، لا يختلف على حضورها وتأثيرها أحد، فمثّلت الحراك التنويري والتبصيري والترفيهي للجمهور، من خلال تجسيد واقعها وتسليط ضوئها على عتمة مجتمعها، فخلقت من صورها عبرة وعظة وتسلية وملامح يتعرف عليها كل مشاهد، فيرى نفسه ومجتمعه فيها.
بلغت عصرها الذهبي بالأخص حين تكرر إبداعها في طرح أعمال قائمة على ثيمات إنسانية، يمكن تعميمها على كل الجمهور، حتى وإن جاء طرحها داخل سياق يخص حقبة زمنية معينة أو شريحة اجتماعية بذاتها، فأضحت صالحة لكل زمان ومكان، مخضرمة وحيّة.
يلفت الكاتب الصحفي والناقد الفني براء المجالي، النظر إلى تغير آلية المشاهد في تذوقه للدراما ما بين الأمس واليوم، يقول: "قديماً كانت الناس تتلقى العمل بحلوه ومره ببساطة، أما اليوم، وفي ظل الانفتاح والسوشال ميديا أصبحت هناك سلوكيات تُفرض على الجميع، وشكل معين للتعامل مع الأشياء، مثل دمج الأعمال الدرامية مع قضايا المجتمع اليومية".
تبثّ القنوات والمنصات كل عام بمسلسلات لا يمكن حصرها، عاش منها مع الجمهور باختلاف أجياله أعمالاً يمكن أن نضعها بسهولة في قائمة طويلة من قوة حضورها في وجداننا، لكن عمرها الطويل ووضوح وتماسك صورتها جعلوها حية بيننا، رغم أصولها التي تعود لنيجاتيف قديم بالٍ، ما يثير تساؤلات بشأن استمرارية عمل ما مقارنة بآخر، وشكل تفاعل الجمهور معه باختلاف الزمن والسياق.
1- السيرة البرعية: غير مُرحَّب بها
"مسلسل (لن أعيش في جلباب أبي) الذي عرض لأول مرة عام 1996، هو مسلسل لكل الأجيال"، تقول الدكتورة نجلاء عمر، التي تعمل في تدريس الأدب والمسرح والنقد في الجامعة الأردنية.
تبدأ نجلاء مشاركتها من خلال انتقاد تناول الأحداث من ناحية "الحكمة المطلقة"، واعتبارها "منهجاً صائباً"، وأساساً لا يحتمل الخطأ في التربية، تقول: "هي معالجة غير مرحّب بها وغير واقعية اليوم، من وجهة نظر الجيل الحالي، الذي يعيش نهضة ما، تفرضها عليه جوانب حياته الحديثة، وهذا قد يكون أكبر أسباب انجذاب الجيل الحالي للعمل".
تكمل الدكتورة نجلاء حديثها باستخدام مثال بسيط من المسلسل، فهي ترى أن الأجيال الشابة ترفض السلطة الأبوية، وتحكّم الرأسمالية، وتدرك جيداً أهمية الأبعاد النفسية، وكيف يؤثر النمو النفسي للفرد على اختياراته ونتائجها، التي تطيح به في جحيم التيه أو نعيم اليقين، لا يمكن أن تتفق مع خطاب المسلسل بشكل كلي مثلما لا تتفق مع خطاب أسرها التربوي بشكل كلي.
تشرح نجلاء وجهة نظرها أكثر: "كان عبد الوهاب الابن الضال، المتمرد، التائه في قراراته، يحمل صفات صبيانية لمعارضة الأب والخروج من تحت جلبابه دون سبب يستحق، أما اليوم لم يعد عبد الوهاب هكذا في عين المشاهد، فمشاهد اليوم سيستفز منه مثلما استفز منه المشاهد السابق، لكنه سيلقي اللوم على الأب وعلى تربيته القاسية الخاطئة بشكل مباشر، قوي ودون رحمة، لأنه متوحّد مع معاناة عبد الوهاب بشكل حقيقي، كونه يعيش مثلها أو يعيش بينها، وسيرفض بشكل قطعي وضع مجد البرعي، وفشل ولده في وضع المقارنة".
هل ما زلنا نشاهد لن أعيش في جلباب أبي وسارة والوتد وعائلة الحاج متولي؟ هل لازالت تأسرنا شخصياتها؟ هل نتفق مع ما تطرحه من قضايا فكرية واجتماعية؟ كيف نقارنها بالمسلسلات العصرية اليوم؟
"كذلك لن يتقبل المشاهد بسلاسة، دون ارتفاع منسوب الغضب داخله، فكرة أن البنات في البيت يمثلون الدرجة الثانية من المواطنة، وتوزيع المصروف بينهم وبين أخيهم ليست عادلة، حتى وإن كانت قائمة على مرجعية الشرع".
من الناحية الفنية، تشير إلى "براعة كتابة العمل، وتكامله، وأهمية صدق الأبعاد النفسية لأبطاله جعلته يحاكي كل الأجيال، سواء من يرون أن هذه هي الطريقة المثالية لتكوين الأسرة، والتعامل مع الحياة، أو من يرون النقيض، أي أن تجنب هذه الطريقة في التربية والحياة هو من يجعل الأسرة مثالية، والحياة أفضل".
وتختم حديثها قائلة: "من وجهتي نظري هذا سر آخر لارتباط المشاهد به حتى اليوم، لذلك أنصح طلابي بضرورة الصدق في كتابة أبعاد شخصياتهم الورقية، حتى تلمس الجميع، وتظل حية لأطول مدة ممكنة".
"لن أعيش في جلباب أبي"، مسلسل اجتماعي مصري، مأخوذ عن رواية الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس، سيناريو وحوار مصطفى محرم، وإخراج أحمد توفيق، تناولت القصة بشكل اجتماعي شيّق صعود عبد الغفور البرعي (نور الشريف) من القاع الى القمة، مع زوجته فاطمة كشري (عبلة كامل).
2 - "الوتد": حلم الطمأنينة
حقق مسلسل "الوتد" منذ عرضه الأول عام 1996 حالة من الحب والمتابعة الشديدة له، كلما زار شاشات التلفاز، وانتقل حب هذا العمل لكل الأجيال التي تبعت الجيل الذي عاصر عرضه الأول.
تقول الدكتورة مريم مصطفى، مدرسة علم الاجتماع والكاتبة في مجال الفن، إن "القراءة الأولى لخطاب هذا العمل ستضعه أمام بندقية، دعم السلطة الأبوية، وإنارة جانبها الجميل المتمثل فيما تمنحه من أمان واستقرار ومجد، وهذه أسوأ قراءة قد تحدث لأي عمل قائم على الدراما الإنسانية".
من جهة أخرى، تلفت مريم النظر إلى جاذبية "الأبعاد الإنساية البحتة" في "الوتد"؛ "ففي ظل رفضك للعيش في بيت كبيت فاطمة ثعلبة، ورفضك لدستورها الذي ينص على تحكمها في أمور بيتها وتفاصيل أبنائها، وسيطرتها على حياتهم وإجبارهم على العيش في بيت واحد، واختيار زوجاتهم، إلا أنك تفضل مشاهدته والانغماس فيه، فعنصر الأمان المفقود، خاصة في عصرنا، حيث الغلاء، احتمالية فقدان الدخل والتشتت الأسري".
"تمنح عائلة العكايشة المشاهد قسطاً جيداً من الدفء والأمان، وكأنك تعيد إنتاج حلم الطمأنية القديم".
"الوتد" مسلسل اجتماعي مصري عرض لأول مرة عام 1996، من تأليف الكاتب الكبير خيري شلبي، وإخراج أحمد النحاس، تدور القصة حول أسرة مصرية تديرها الأم فاطمة تعلبة (هدى سلطان)، ودرويش (يوسف شعبان) أكبر أبنائها.
عالج المسلسل عدة قضايا أسرية، مثل طريقة فاطمة ثعلبة في تربية أبنائها بأسلوبها الخاص، لتحقيق هدفها الأساسي، وهو تكوين عائلة كبيرة مترابطة وغير مفككة، وتأمين مستقبلها بشراء الأراضي الزراعية لهم، ليصبحوا من ذوي الأملاك.
3 - "عائلة الحاج متولي" والنسوية
"عائلة الحاج متولي"، مسلسل اجتماعي عُرض عام 2001، يستعرض المسلسل مشكلة رجل شرقي يعانى من الحرمان والفقر في ماضيه، وينتقم من عقدته تلك بالزواج من عدة نساء.
يعلق براء المجالي بجملة شهيرة على لسان بطل المسلسل، يقول فيها: "يطلع إيه ده اللي واحدة تسيب الحاج متولي سعيد وتختاره؟"، بأن المسلسل "ينمّط شخصية السوقي، الجاهل، المهووس بنفسه، الذي يتعامل مع جشعه على أنه طموح مادي مشروع".
"لم يقبل العمل اجتماعياً وقتها بالرحابة والبساطة التي يتوقعها الجيل الحالي، حتى في المجتمعات التي تعتبر ظاهرة التعدد فيها ثقافة عامة، ولكن مساحة الغضب تبدو اليوم أكبر وأوسع، لأن طرح المسلسل يشتبك مع قضايا وهموم معاصرة، مثل هم المساواة، وأهمية الصحة النفسية لشريك الحياة التي تؤهله ليكون شريكاً سوياً لتجنب التسلط والتحكم في المصير، والحركات النسوية التي تتبنى قضايا المرأة بشكل إعلامي، وثقافة رفض التعدد، التي أصبحت مبنية على وتد صلب ومرجعيات منطقية، وتحليل وسطي للنصوص الدينية".
ويفترض براء أن يسمح لنفسه بافتراض ان الطموح الحقيقي لصناع العمل وقتها هو "إرباك مشاهده الحالي عبر طرح عدد من همومه، والتي ستتفاقم مع الوقت، وتطول كل أبعاد المشاهد المتوقع في المدى البعيد"، فالكاتب مصطفى محرم بالنسبة له "كان صاحب رؤية محلية ومستقبلية ثاقبة"، لذلك ظل هذا العمل صاحب عودة دائمة على الساحة.
4 - صورة سارة
"سارة" مسلسل اجتماعي مصري عُرض للمرة الأولى عام 2005 ، دارت قصة المسلسل حول سارة التي تعرضت لأزمة نفسية عنيفة وهي طفلة، جعلتها في غيبوبة لعدة سنوات، ثم فاقت من غيبوبتها لتستأنف حياتها بعقل ونفسية طفل وجسد فتاة بالغة.
حصل المسلسل على إعجاب الجمهور، وتخطى نطاق المحلية إلى الإقليم العربي، لكن إعادة طرحه اليوم تجعل المشاهد، يعيد النظر في حساباته، هكذا بدأت مشاركتها معنا الدكتورة رشيدة مهران، التي تعمل كطبيبة نفسية واستشارية في كتابة الشخصيات ذات الأبعاد المرضية.
ماذا حدث للدراما المصرية بين الأمس واليوم؟ ما الذي استمر وما الذي تغير؟
تقول الدكتورة رشيدة إن "أحداث القصة راحت تتصاعد بعدما فاقت سارة من غيبوبتها، وأصبح هناك تعلق نفسي وعاطفي بطبيبها المعالج، الدكتور حسن، ولكن عمل مثل هذا لو طرح اليوم بنفس معالجته السابقة سوف تفتح جبهات الحرب عليه من كل ناحية، بداية من الهيئات والمنظمات الحقوقية والتنموية، التي لم تعد بعيدة عن التفاعل مع أحداث المجتمع المحلي، حتى من المشاهدين العاديين".
وتنتقد رشيدة المسلسل، "حين منح السيناريو طابعاً رومانسياً للقصة، دون إعطاء هذا الحب النابع من سارة ورغبة الزواج من حسن أية أبعاد تأخذ حالتها المرضية بعين الاعتبار، أو حتى افتراض أبعاد أيروسية، والانتباه الى أن حسن، أو من يحل محله، هو منعدم المهنية والأخلاق، لأن سارة، مريضته، بالغة جسدياً فقط، بالإضافة الى قصور السيناريو في طرح أبعاد مرض سارة بشكل علمي كافي، وهذا غير مقبول اليوم، في ظل جمهور جميع منافذ المعرفة بين يديه، والمرض النفسي والعقلي أصبح جزءاً كبيراً من اهتمامه وحصيلته المعرفية".
ولكن رشيدة ترى في ضعف المسلسل موطن قوة، يؤهلة للعودة إلى الساحة بين الحين والآخر، لأن "نفسية المُشاهد تغيّرت، فبات يركز على ضعف العمل ليرضي غروره في تطور إدراكه وتوسع رؤيته".
وتوضح رشيدة: "نحن اليوم نرى كثيراً من الصفحات على السوشال ميديا، ذات الحضور والمتابعة، نجاحها قائم على رصد الأخطاء الفنية، سواء في الكتابة ومنطقية الأحداث أو في اصطياد راكور المشاهد المصورة".
وتشير رشيدة إلى انتشار وسم مثل #برعيات أو #سردينيات، الذي تناوله أصحاب المشاريع سخرية من ثروة عبد الغفور البرعي، التي راكمها من بقايا طائرة مدمرة، وأنشأ مصنعاً للحديد والصلب، وبنى عمارات في حي راقٍ كالزمالك تناسب الوزراء، كل ذلك من رأس مال وكالة تبيع الخردة، ظلت إدارتها قائمة على "البركة والحكم الموروثة من الحاج سردينة".
الصورة الجديدة
"أبعاد دراما تلك المسلسلات القديمة سمحت لها أن تظل حية حتى اليوم، ومحل اهتمام أجيال متتالية من المشاهدين والنقاد، وهي نقطة تثير الخوف كما تثير الفخر"، هكذا بدأ حديثه معنا أكرم ماهر، مدرس في كلية الآداب قسم صحافة وإعلام جامعة أسيوط، وكاتب سيناريو.
أثرت تلك الأعمال على كتاب الدراما اليوم، فهم باتوا "يدركون جيداً أسرار الطبخة، حتى أن المكون الواحد يتم تناوله جزءاً جزءاً لتأخذ الفكرة حقها، وتعالج من كل الجوانب، وهذا رأيناه كثيراً في السنوات الأخيرة، خاصة في المسلسلات القصيرة التي تحمل تيمة واحدة، يختلف موضوعها في كل حلقة". ولفت ماهر إلى تغير في نفسية المشاهد اليوم، التي باتت متطلبة أكثر من السابق، ما يدفع الكتاب وصناع الدراما لتلافي عيوب الأعمال القديمة، "فصفات المشاهد الفكرية والنفسية لم تعد مثل صفات المشاهد القديم، ما يجبر صناع الدراما على تجنب الوقوع في فخ خلق شخصية ذاتيتها مبنية على التدين أو على مشكلة أبعادها مجهولة بالنسبة لعقله، كما أنهم يدركون كم يستاء المشاهد الحديث من النهايات غير المنطقية، أو القفزات في الزمن التي تنقل البطل من أقصى اليمين لأقصى الشمال لمجرد أن كلمة النهاية تقترب".
كذلك بات لزاماً على الكتاب أن "يستشيروا الجهات المختصة، وتوظيف المعلومات في بناء النصوص الدرامية، وبالتالي تم توظيف أفكار كانت دخيلة على الدراما، فقديماً كانت قضية الاغتصاب والتحرش تركز على أن فاعلها من الغرباء، أما اليوم يمكن تناولها من ناحية الزوج أو المحارم أو مصادر الأمان، مثل الحبيب، الصديق والطبيب المعالج".
باتت الدراما اليوم، بحسب ماهر، تعالج قضايا مثل هموم الطفل وتربيته الإيجابية، والتنمر، والأوبئة المستحدثة مثل كورونا، وأحوال المرأة التي تبدلت بعد حضور النسوية، وكفالة وتبني الأطفال، كلها معالجات جديدة.
يختم الدكتور أكرم ماهر حديثه، بأننا اليوم نقترب من نهاية شهر رمضان لعام 2022، وفي ظل هذا هناك عدد لا يحصى من الأعمال العربية في هذا الموسم، ومع ذلك يموت أكتر من نصفها بعد عرضه الأول ولا يعيش حيوات كثيرة إلا القليل جداً، فـ"صناعة الدراما لا تحتاج الى مقادير معينة تقاس بالميزان لتنتج عقاقير ذات جدوى فقط، بل هناك رسالة تحتاج أن تتوحّد مع الرؤية، وإيمان كلي بالقضية محل الطرح، وصدق في الموهبة، ووضوح في الأهداف، بالإضافة الى ضرورة التخلي عن النظرة القَبَلية للعمل، وكأنه شيء مقدس لا يسمح للجمهور بأن يشكل أحداثه، فخلق ولاء الجمهور لا يحدث إلا حين يكون العمل خاضعاً لعقل المشاهد لا للإيرادات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...