أمام كاميرا السينما، دائماً ما أطلَّ بوجوهٍ أمريكيّةٍ كثيرة، وخاصّةً في أفلامه التي تعتمد على وجود شبيهٍ مطابقٍ له في الملامح والمواصفات الجسديّة كخطٍّ درامي رئيسي في سير الأحداث بالسيناريو؛ إذ غالباً ما يكون هذا الشبيه ذا جنسيّةٍ أمريكيّة، أو على الأقلّ قد هاجر إليها واستقرّ بها منذ زمنٍ بعيد، ودائماً كذلك ما يكون له نشاطٌ إجرامي مخالفٌ للقانون.
كل ذلك محاكاةً لأفلام الأكشن ورعاة البقر الأمريكيّة، التي أُنتجت خلال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وغالباً ما احتوت على قصصٍ عن الجاسوسيّة، والجريمة، والعصابات، ومطاردات الشرطة لهم.
إنه الفنان فؤاد المهندس، نراه مع إحدى أشهر الشخصيات السينمائيّة التي أحبها "مستر إكس"، أطلَّ بها في فيلميه "أخطر رجل في العالم"، و"عودة أخطر رجل في العالم" إنتاج عامي 1967 و1972، تأليف أنور عبد الله، وإخراج نيازي مصطفى، وهي شخصية رئيس عصابةٍ دوليّة مقرّها مدينة "شيكاغو" الأمريكيّة، يأتي للقاهرة لتنفيذ عمليات تهريب.
وتضمَّن الفيلمان- بجانب فيلمه "العتبة جزاز" إنتاج عام 1969- الموسيقى التصويريّة لسلسة أفلام الجاسوسيّة الشهيرة "James Bond" للممثل شون كونري، والتي استوحى منها المهندس شخصية "مستر إكس" في المقام الأول.
وشخصية "سعيد" في فيلمه "المليونير المزيّف" عام 1968 من تأليف عبد المنعم مدبولي وسمير خفاجي ونبيل غلام وإخراج حسن الصيفي، وهو رجلٍ عاش 20 عاماً من عمره في المكسيك الأمريكيّة، ثم هرب من تنفيذ حكمٍ قانوني عليه بالسجن لمدة 25 عاماً لارتكابه لجريمة قتل.
وعلى لسان المهندس، أشارت عبارات متعدّدة إلى "أمريكا"، حفظها جمهور "الأستاذ" عن ظهر قلب، منها: "تاني مرة ماتحكوش مع إكس.. أنا مش أفندي.. أنا جاي من حواري شيكاغو"، و"أكبر مدة قعدتها كانت في سجن سنج سنج in The United States of America.. America.. caaaaa" و"والدي الله يرحمه كان غاوي الحريم الأمريكاني"، و"جيت حالا على بوينج بوينج بتاعة المكسيك" و"أنا عندي ميعاد مهم في نيو مكسيكو"، و"I want my lawyer. I'll call Barry Nelson.. Jean Gabin.. Clint Eastwood.. Charles Bronson.. Belmondo "- أسماء مشاهير ممثلي هوليوود خلال فترة الستينيات من القرن الماضي-.
سخرية من المطامع الأمريكيّة
وتنوعت النكهات الأمريكية في أفلام المهندس، منها يحمل روائح سياسية ساخرة، ومنها يستثمر الصورة النمطية عن شخصيات الكاوبوي، ولكنه في معظمها لم يتخل عن أجواء مرحة ساخرة.
في فيلمه "مطاردة غراميّة" عام 1968، كانت إحدى المضيفات الجويّات التي يحبّها "منير" أو المهندس، تحمل الجنسيّة الأمريكيّة وتريد أن تسيطر على آبار البترول التي جعلها تتوهّم أنه يمتلكها، في دلالةٍ رمزيةٍ واضحة لمطامع أمريكا في الشرق الأوسط، على الرغم من إظهار نواياها الحسنة اتجاهه.
وعكست جمله الحوارية في الفيلم الذي ألّفه الكاتب فاروق صبري تردّد الشخصية العربية حيال الأمريكية، ما بين إعجابه بتقدمها، وقلقه من نزعتها الاستغلالية، جمل مثل: "عايز أحبّك مش قادر.. حركاتك معايا كده قرعة.. مش مطمنلك.. مرّة كده.. مرّة كده..مرّة No.. مرّة Yes.. أسمع كلامك، أصدقك، أشوف أمورك، أستعجب".
تأثّر عددٌ كبيرٌ من الأطفال بشخصية "فرافيرو" المصريّة، فحاول بعضهم تقليدها والطيران مثلها، ليعانوا بعدها من عدّة إصابات، ويلقى أحدهم الموت، ليتعرّض المهندس للوم شديد وقتها ولعدّة سنوات.
ظهرت تلك الأفلام في أجواء محبطة، حيث كانت مصر تجرّ أذيال نكسة 1967، بين الهزيمة المفجعة وانهيار الحلم الناصري القومي، وشعور الشعب المصري بالخديعة من قبل أجهزة الدولة التنفيذيّة وإصابة أفراده بالاكتئاب، وبين محاولة التماسك والنهوض مجدداً وبثِّ الحماس في قلوب المصريّين ودعم المجهود الحربي لمواجهة إسرائيل، والتي كانت تتلقّى كلّ الدعم من الولايات المتحدة الأمريكيّة تحت قيادة رئيسها آنذاك، ليندون جونسون، على الرغم من أن العلاقات بين مصر وأمريكا كانت في طريقها للتحسّن قبل اندلاع حرب 1967 مباشرة.
جسّدت شويكار في الفيلم ذاته شخصيّة أمريكيّةٍ تتغنّى على أنغام الجيتار الرقيق، وفي نفس الوقت تحمل مسدسات وتطلق رصاصاتها بكلّ سهولة، كأنها اللغة التي لا تعرف سواها، وذلك بداخل الاسكتش الشهير "قلبي يا غاوي خمس قارات" مع المهندس، الذي غنّى معها من كلمات فتحي قورة قائلاً: "أما دي حتّة أمريكانيّة لسة ماشفتش زيها واحدة.. أمي دعت لي يوم وقالتلي: "روح ما يغلبلكش ولية من الولايات يا ابن المتحدة" -في إشارة إلى الجمهورية العربيّة المتحدة التي جمعت مصر وسوريا باسم الوحدة لمدة ثلاث سنوات بداية من عام 1958.
وبجانب اللغة الإنجليزيّة، جمع بين كلّ هذه الشخصيات الأمريكيّة قبعة رعاة البقر والنظارة الشمسيّة والمسدسات، محاكاةً للنموذج الأمريكي التي صدّرته للعالم من خلال أفلامها السينمائيّة في هذه الفترة.
وقبل هذه الأفلام، كان المهندس قد أشار إلى أمريكا بطريقةٍ كوميديّة في فيلمه "إجازة غرام" عام 1967 أيضاً، والذي كتب له الحوار محمد أبو يوسف، حيث قال: "بيقولوا الفسيخ بتاع هونولولو يجنن"، قاصدا بذلك "هونولولو" عاصمة ولاية هاواي الأمريكية.
مآسي تمصير Mighty Mouse وViva Zapata
بداخل اسكتش غنائي في فيلم "العتبة جزاز" الذي أُنتج عام 1969، قدّم المهندس شخصية الفأر الجبّار "فرافيرو"، المقتبسة من شخصية الرسوم المتحرّكة الأمريكيّة "Mighty Mouse"، والذي يتمتّع بقوّةٍ خارقة، يستطيع من خلالها حماية مدينته، وإنقاذ سكانها من خطر الأشرار.
وكان أوّل ظهورٍ لهذه الشخصية بهوليوود عام 1942، ثم بلغت أوج شهرتها في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ليقوم المهندس بدبلجة حلقاتٍ كثيرة لها في الستينيات.
وتأثّر عددٌ كبيرٌ من الأطفال بشخصية "فرافيرو" المصريّة، فحاول بعضهم تقليدها والطيران مثلها، ليعانوا بعدها من عدّة إصابات، ويلقى أحدهم الموت، ليتعرّض المهندس للوم شديد وقتها ولعدّة سنوات، بسبب عدم تحذيره للأطفال من تقليد "فرافيرو".
أما تجربة المهندس الإنتاجيّة الوحيدة، فكانت فيلمه "فيفا زلاطا" عام 1976م، والذي اقتُبس أيضاً من فيلمٍ أمريكي أنتج عام 1952م باسم "Viva Zapata" يحكي قصة رمز الثورة المكسيكيّة " إيمليانو زاباتا"، وقام ببطولته نجما هوليوود مارلون براندو، الذي فاز عن دوره بالفيلم بجائزة مهرجان كان السينمائي الدولي لأفضل ممثل، وأنتوني كوين، الذي فاز عن دوره بجائزة الأوسكار لأفضل ممثلٍ مساعد.
وكان اسم الولاية التي هرب لها المهندس ضمن أحداث فيلمه هو "تيكسيكو"، وهو مزيج بين اسمي مدينتين أمريكتين هما "تكساس" و"المكسيك".
ولكن "فيفا زلاطا" لم يقدّر له النجاح الذي حقّقه الفيلم الأصلي، فلم يبقَ في الصالات طويلاً وقت عرضه، وخسر المهندس أمواله التي استثمرها فيه، بينما لاقت إحدى أغنيات المهندس بالفيلم "مصر هي أمي" نجاحاً كبيراً.
وكان هذا الفيلم هو التعاون السينمائي الأخير بين الثنائي الكوميدي المهندس وشويكار قبل انفصالهما عن بعضهما، ولم يظهرا أمام كاميرا السينما معا عقب الانفصال إلّا في فيلمٍ واحدٍ فقط عام 1990 هو "جريمة إلا ربع".
في حب الثقافة الأمريكية
لم يظهر تأثّر الأستاذ بالثقافة الأمريكيّة في أفلامه السينمائيّة فقط، فظهر ذلك أيضا من خلال عشقه الأبدي "المسرح"؛ حيث قدّم الكثير من الروايات العالميّة المقتبسة، منها الأمريكيّة في روايات "حالة حب" التي أخرجها للمسرح أيضاً، واقتبسها سمير خفاجي عام 1967 من الفيلم الكوميدي الأمريكي " The Whole Town's Talking" إنتاج عام 1935م، الذي سبق أن قدّم المخرج فطين عبد الوهاب قصّةً مقتبسةً له في الفيلم الكوميدي "إشاعة حب" عام 1960، بجانب أهمّ مسرحياته "سيدتي الجميلة" التي اقتبسها كلّ من سمير خفاجي وبهجت قمر من الفيلم الأمريكي الموسيقي "My Fair Lady" إنتاج عام 1964، والمأخوذ عن مسرحية"بجماليون" للمؤلّف الأيرلندي "جورج برنارد شو"، وكذلك "هالو دوللي" عام 1971 المأخوذة عن فيلمٍ أمريكي يحمل الاسم ذاته وتمّ إنتاجه عام 1969م، وأيضا "هالة حبيبتي عام 1985، و"التي اقتبسها عبد الرحمن شوقي عن الفيلم الأمريكي الموسيقي "Annie" إنتاج عام 1982.
كما أشار لبطل المصارعة الأمريكيّة "ستيف أوستن"، والمسلسل التليفزيوني الأمريكي "The Bionic Woman" إنتاج عام 1976، و"كونتا كنتي" الشخصية الرئيسيّة للمسلسل الأمريكي "Roots" إنتاج 1977، في مسرحيته الشهيرة "سك على بناتك" عام 1980.
أمريكا في حياة الأستاذ
بدت أمريكا وكأنها الطائر الخفي الذي يحلّق حول حياة الأستاذ من جميع الاتجاهات، فقبل أن يتولّى المهندس إخراج أشهر مسرحياته "سك على بناتك" عام 1980، كان المخرج المسرحي سمير العصفوري، والذي أخرج له مسرحيتي "ليه؟" و"إنها حقاً عائلة محترمة"، قد بدأ في الفعل في تنسيق إخراجها وأنهى إخراج الفصل الأوّل منها، ولكنه اضطرّ إلى السفر لأمريكا، لتنتقل مهمّة الإخراج إلى المهندس، والذي سبق أن أخرج مسرحيتي "أنا فين وانتي فين" و"حالة حب".
تجربة المهندس الإنتاجيّة الوحيدة كانت فيلمه "فيفا زلاطا" عام 1976م، والذي اقتُبس أيضاً من فيلمٍ أمريكي
لم يحبّ المهندس السينما كثيراً مثل المسرح، ولكنه لم يندم على أيّ من أفلامه سوى فيلم واحد فقط لم يذكر اسمه، كان مخرجه أمريكياً ولم يعجب المهندس بعمله إطلاقاً؛ ما جعله يهدّد بالانسحاب من الفيلم في حالة استكمال العمل فيه تحت إدارة هذا المخرج، وذلك مثلما صرّح في لقائه مع الفنانة صفاء أبو السعود ببرنامج "ساعة صفا".
وأجاد الأستاذ اللغة الإنجليزيّة، فمثلما كان يلقي على عائلته كلمات من اللغة في مسرحيته "إنها حقاً عائلة محترمة" عام 1979، مصحوبة بجملته "اكتبوها يمكن تنفعكوا"، استعان باللغة للتعامل مع الجنسيات المختلفة التي التقى بها في مختلف البلاد التي سافر إليها، ومنها: كينيا وأوغندا وتنزانيا.
أما زوجته شويكار، فاشتركت في بطولة فيلم "أمريكا شيكا بيكا" عام 1993، والذي كتب قصّته وأخرجه خيري بشارة وأعدّ له مدحت العدل السيناريو والحوار، وهو الفيلم الذي تدور أحداثه حول السعي للهجرة إلى أمريكا بشتى الطرق، بهدف تحقيق الحلم الأمريكي البراق.
كما أنها منحت شهادة تقدير من مدينة "لادورا" الأمريكيّة، وشهادة جدارة عن مجمل أعمالها من ولاية "لوس أنجلوس" الأمريكيّة، بحسب ما صرّحت في لقائها مع الإعلاميّة هالة سرحان ببرنامج "الليلة".
أشدّ الأزمات التي تعرّض لها المهندس ألماً وأثّرت عليه سلباً قبل وفاته بفترة لها علاقة بالولايات المتحدة الأمريكيّة أيضاً
ودرس حفيد الأستاذ "عمر محمد فؤاد المهندس" الإخراج السينمائي في الولايات المتحدة الأمريكيّة أيضاً عقب دراسته للصحافة بداخل الجامعة الأمريكيّة بمصر.
وكانت أشدّ الأزمات التي تعرّض لها المهندس ألماً وأثّرت عليه سلباً قبل وفاته بفترة لها علاقة بالولايات المتحدة الأمريكيّة أيضاً، وذلك حين تورّط ابنه الأكبر "محمد" في تهمة مساعدة أحد رجال الأعمال وشقيقه للاستيلاء على ملايين الجنيهات من بنك القاهرة الذي كان يعمل فيه محاسباً، وبعد أن هرب الاثنان إلى أمريكا، قضى محمد فؤاد المهندس عقوبته بالسجن وتمت تبرئته لاحقاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...