شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"يفعلون فعلتهم ثم يلومون الضحية"... حين يُسحَق الأبناء بين فكّي الأهل والمجتمع

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 10 يناير 202205:30 م

يُسلَّطُ الضوء غالباً على العنف الممارس ضدّ المرأة بمختلف أنواعه، حين يكون مباشراً ومقصوداً، أكثر منه غير مباشر؛ إذ يكون نتيجةً لأحداثٍ متعددة تؤدي إلى نتائج سلبية ومؤذية. فعدد اللواتي يتعرضنَ للأذى لسبب غير مباشر، لا يقلُّ عن عدد النساء المُعنَّفات بشكل مقصود، وربما يفوقه في بعض المجتمعات.

سلسلة من الضحايا

لدى زيارتي بيت قريبتي، التقيتُ بجارتها التي اختُطِفت قبل سنوات، ثم أُطلقَ سراحها ضمن عملية تبادل للأسرى بين الطرفين المتنازعين في سوريا.

بعد نصف ساعة، نادت ابنتها غادة، لتأتي من بيتهم الملاصق لبيت قريبتي. وبعد عشر دقائق، دخلت فتاة في العشرين من عمرها، بملابس نوم خفيفة، وكأنها لا تزال داخل منزلها. راقبتها وهي تتحدث بلا مبالاة، وابنتها الصغيرة تدور حولها وحول جدتها. أثارت هذه الفتاة فضولي بعدم اكتراثها لشيء حولها، وبنظرات عينيها التي توحي باللا مسؤولية تجاه أي شيء.

يُسلَّطُ الضوء غالباً على العنف الممارس ضدّ المرأة بمختلف أنواعه، حين يكون مباشراً ومقصوداً، أكثر منه غير مباشر.

تكشّفت قصة غادة تدريجياً، وهي تروي بشكل متفرّق:

"حين كنتُ في الثانوية، تعرضتْ أمي للخطف من عملها في إحدى بلدات دمشق، فعدتُ مع أخي ذي العشر سنوات، إلى بيت أبي المتزوج في حيّ الصليبة في مدينة اللاذقية. سكنّا عنده بضعة أشهر، وانتقلنا إلى مدرسة هناك.

في أحد أيام عودتي من المدرسة، دخلت المنزل لأتفاجأ بانتظار العائلة لي، وقد حُزمتْ حقيبتي ووُضعت جانباً، وفي جانب الصالون جلس أحد أقرباء أمي، وعرفت أنه جاء ببارودته مع بعض الشباب، وهددوا أبي كي يزوِّجني إياه؛ هو الذي طلبني للخطوبة من أمي قبل سنة، ورفضَتْ بشدّة. أما الآن، فإن أبي لا يستطيع مواجهته، فرضخ وزوّجني به. وخرجت معه من منزل أبي باكيةً وخائفة".

عاشت غادة مع الزوج أكثر من عام، أنجبت خلالها ابنةً، وأنا ما زالت غير واعية لحياتها الجديدة، والظلم الواقع عليها، فأمها مخطوفة، ووالدها لم يجرؤ على المواجهة.

"حين تحررت أمي، وسمعت بخبر زواجي، استشاطت غضباً، وجاءت إلى منزلي، ووضّبت أغراضي، وأخذَتْني من بيت زوجي، وأمرته قائلةً: 'بتطلّقها!'، ولاعتبارات عائلية في قريتهما، وبعد محاولاتٍ عديدة لاسترجاعي، رضخ للأمر، وتمَّ الطلاق. لم أحزن لفراقه، ولكن ما أحزنني هو أنني غدوت أماً، ومطلّقةً قبل العشرين.

عدنا إلى دمشق مع أمي، وصرنا أربعة أفراد مع ابنتي. كان أبي يرسل لنا النقود لنعيش، ثم قلّت هذه النقود، ولم يعد يعبأ لأمرنا، وترك أمي تتدبّر أمرنا وهي لا تملك دخلاً ثابتاً؛ لأن المدير لم يرضَ بأن يعيدها إلى الوظيفة بعد تحريرها من الأسر، إذ عدّ غيابها غير مبررٍ! في بلدٍ أكلته الحرب، ماذا يمكن لامرأة أن تفعل لتجني المال، وهي تربّي ثلاثة أولاد من دون زوجٍ أو معيل، وتحتاج إلى أدوية شهرية بقيمة تتجاوز معدل الدخل الشهري؟".

تكمل غادة: "كثرت ديون أمي، وبعد فترةٍ اعتدنا على رؤيتها مع رجلٍ غريب، سدّد عنها ديونها، أو آخر استدانت منه، أو أعطاها النقود. هكذا صارت أمي تعيلنا. تجاهلنا وجود الغرباء في حياتها، كي لا نُطردَ من المنزل الذي نسكنه بالإيجار، وكي لا نجوع أنا وأخي الذي يبقى صامتاً في أكثر الأحيان، وابنتي الصغيرة التي شعرتُ مراتٍ كثيرة بأنها أختي أكثر منها ابنتي، وهي تعدّ جدتَها أمَّها أكثر مني!".

بعد فترة، تعرّفت غادة إلى شاب، وكانت والدتها داعمةً للأمر كثيراً، وسعت كي لا يشعر الشاب بأن كون غادة أماً هو أمر يعيق ارتباطهما. أشعرتْه أمي كم هي سعيدة بوجوده بيننا، ودلّلته قدرَ المستطاع، لكنه بعد أشهر رحل"، تقول غادة بحزن، وتضيف: "لا ألومه لرحيله، لكني حزنت؛ كنت أتمنى أن يبقى، وأتزوّج عن رغبة مثل بقية الفتيات، لكنّ شاباً وسيماً مثله، وابن عائلة محترمة، في الغالب لن يفضل الزواج من مطلقة لديها طفلة صغيرة، وتعيش مع أمها المطلقة أيضاً. هذا هو مجتمعنا الشرقي؛ يفعل فعلته، ويهرب منها، ويلوم الضحية دوماً".

كنت أتمنى أن يبقى، وأتزوّج عن رغبة مثل بقية الفتيات، لكنّ شاباً وسيماً مثله، وابن عائلة محترمة، في الغالب لن يفضل الزواج من مطلقة لديها طفلة صغيرة، وتعيش مع أمها المطلقة أيضاً. هذا هو مجتمعنا الشرقي؛ يفعل فعلته، ويهرب منها، ويلوم الضحية دوماً

الحلم خارج سوريا

حين كنتُ في أحد معارض الكتاب، دخلت امرأة مسرعةً إلى جناح الكتب، مخاطبةً الفتاة خلفها: "هؤلاء لديهم كتب عن اليابان"، وذهبتْ بسرعة. شعرت بأن المرأة تحاول التخلص من الفتاة لسبب ما.

اتجهت الفتاة مباشرةً لتصفّح كتاب يحمل اسم "فصول من الأدب الياباني"، ثم حضنَتْه وراحت تجول في الجناح. أشرتُ لها إلى كتب أخرى مرتبطة بفلسفة الزن والتاو، لكنها نقرت فوق غلاف الكتاب تحت كلمة "الياباني"، وقالت بعينين دامعتين: هذه فحسب، هذا أجمل كتاب! لدي كتاب عن اليابان أحتفظ به، ولم أقرأه بعد؛ لأنه غالٍ كثيراً! حين اشتريته لم يرضَ البائع أن يخفّض لي سعره، مع أنني أخبرته بأني لا أملك الكثير من المال، عدت إلى المنزل، ووضعته في كيس للمؤونة، وغلَّفْتُه ووضعته جانباً. لم أقرأه لأنه غالٍ!".

أخبرتني بأن اسمها إيمان، وعمرها 21 سنةً، ولم تدرس في الجامعة لأنها لم تحظَ بفرع الأدب الإنكليزي. وحين عرفَتْ أن اسمها جاء في فرع الفلسفة، ركعت على ركبتيها، وبدأت تبكي، بينما أمها ترجو الموظفة أن تغيّر شيئاً في الكمبيوتر، لكن الموظفة اكتفت بترديد: "اللي بعده".

كانت هذه صدمتها الكبيرة. أما الصدمة الأخرى، فتحدثت عنها قائلةً: "أنا أتمتع بموهبة رسم شخصيات الإنمي، ولكن أحداً لم يهتم لموهبتي، ولم يرعَها، وحين لجأت إلى مكتبات، أو إلى معامل خياطة، حيث يطبعون الرسومات على الملابس، سخروا من رسوماتي، ورموها جانباً. لو أن هذا البلد يقدّر موهبتي، لكان استفاد منها كثيراً. ولو كنتُ في اليابان، لاحتضنوها بسرعة. هناك يقدّرون كل شيء، وكل شيء فيها جميلٌ ومنظم، أنا لا أحبُّ إلا كل شيء ياباني، ولا أسمع إلا الأغاني اليابانية، والآن أتعلم اللغة اليابانية".

فكرتُ كثيراً بمن يقع اللوم عليه؛ هل هم أهلها الذين تركوها تصل إلى هذه المرحلة من الخيبة، أو الواقع السوري المزري الذي نعيشه؟

روت عن حيّهم الشعبي، ومهنة والدها البسيطة، وعن جريمة القتل التي وقعت فوق بيتهم، وأرعبتها، وعن تنمّر أصدقائها في المدرسة بعد ظهور كوفيد19، إذ يرددون على مسامعها: "البلاد التي تعشقينها، هي من جاءت بالفيروس إلينا". كان واضحاً أن مستوى عائلة إيمان المعيشي، والذي اقترن بإحباطاتها المتكررة، كان سبباً في حدوث أزمة في داخلها، كرهت فيها واقعها، وتعلقت بعالم أشبه باليوتوبيا، وصارت اليابان "المدينة الفاضلة" بالنسبة إليها.

فكرتُ كثيراً بمن يقع اللوم عليه؛ هل هم أهلها الذين تركوها تصل إلى هذه المرحلة من الخيبة، أو الواقع السوري المزري الذي نعيشه، أو هم الناس الذين لا يكفّون عن مدح تطوّر اليابان، وإبراز الفارق الهائل بين سوريا التي دمرتها الحرب، وبين ذاك البلد المتطور المنُظَّم؟

بين نَصلين

دعاء، الفتاة الجامعية ذات الأربعة وعشرين عاماً، لم تكن أبعد عن وصفها بضحية هذه الحياة أيضاً، هي التي ضاعت بين تديّن والدها، ولا دينيّة أمها. جاءت من عيادة الطبيب النفسي إليّ مرددةً: "سأحكي لكِ كل شيء... كل شيء...".

روت: "تعرضْتُ لضغوط نفسية عديدة، إن بصعوبة تلبية احتياجاتي المادية من قبل عائلتي، أو صدمتي بتحرّش أحد أقاربي بي حين كنت طفلةً، ومن ثم بأفكار أبي التي يلقننا إياها عن الله والرسل والأولياء الصالحين والقصص والتعاليم الدينية، أو قناعة أمي بفيزيائية الكون، وتشكّله بسبب الانفجار الكوني، لا نتيجة خلق الله له، فضلاً عن عدم قناعتها بالأديان والرسل وكل ما اتصل بهذه الأمور.

وصلتُ إلى مرحلة ساءت فيها حالتي الجسدية والنفسية، ودخلت في حالة اكتئاب طويلة، قلَّ فيها طعامي كثيراً، وازداد بكائي وغضبي في الوقت ذاته، ومن ثم صار يتهيَّأ لي أشخاصٌ في غرفتي، وأنادي أهلي ليخرجوهم، لكنهم كانوا يؤكدون لي أن لا أحدَ في الغرفة. كنت في أحيانٍ كثيرة أضحك وحدي بلا سبب، بينما الجميع صامتون من حولي؛ هذا ما أخبرتني به أمي في ما بعد.

حين بدأتُ رحلة العلاج، قرر أبي أخذي لزيارة المقامات الدينية والمشايخ وكتّاب الحجابات، لكن ذلك لم ينفع معي، فجاء دور قرارِ أمي بالعلاج العلمي، وأخذتني إلى طبيب نفساني، أعطاني العديد من الأدوية التي تركتني نائمةً طوال الوقت، وهادئةً، ولا قوة لي على فعل شيء؛ حتى على الغضب".

تنهي دعاء حديثها بقولها: "أضعت سنوات جامعتي في الاضطرابات النفسية والعلاج الطويل، وما يجرحني أكثر أنه بينما رفاقي قد بدؤوا يتخرجون من الجامعة، ما زلتُ أنا في السنة الأولى!".

غالباً ما تعيد المرأة المعنَّفة ممارسة العنف ذاته على أولادها. أو تنقل إلى بناتها دور الضحية الذي تعيشه، وتقنعهنَّ بأنهنَّ مظلومات، و'مدعوس' عليهن، كونهنَّ إناثاً، فيتولّد لدى الفتيات شعور بكراهية الجميع لهنَّ، ونيَّتهم بقتلهنَّ، أو إيذائهنَّ

تقول الأخصائية الاجتماعية، تهامة زينو، وهي مديرة حالة للعنف القائم على النوع الاجتماعي في دائرة العلاقات المسكونية والتنمية في دمشق: "معظم الحالات التي ترِدُنا هي لنساء معنّفات بسبب الظروف الاقتصادية، أو التعصب، أو آثار الحرب، وغالباً ما تعيد المرأة المعنَّفة ممارسة العنف ذاته على أولادها. أو تنقل إلى بناتها دور الضحية الذي تعيشه، وتقنعهنَّ بأنهنَّ مظلومات، و'مدعوس' عليهن، كونهنَّ إناثاً، فيتولّد لدى الفتيات شعور بكراهية الجميع لهنَّ، ونيَّتهم بقتلهنَّ، أو إيذائهنَّ؛ لأن الناس بلا رحمة".

وتضيف الأخصائية في حديثها إلى رصيف22: "هناك كثيرات ممن لديهنّ تشوّهٌ جسدي نتيجة حادثٍ ما، أو لا يتمتّعنَ ولو بقدرٍ ضئيل من الجمال وفق معايير مجتمعنا اليوم، أو تعرّضنَ للتحرش، أو لم يحظينَ بزوج، قد أصابتهنَّ حالة اكتئاب، وتدنٍ في تقديرهنَّ لذواتهنَّ، لا سيما وأن ذلك يترافق غالباً مع عدم منح الأمان والحنان أو الحب الكافي من أهلهنَّ، وكثيراً ما كُنَّ ضحيةً للتنمّر في مدارسهنَّ، عدا عن تسلّط الوالدين، والظروف الاقتصادية الصعبة، التي ترافق كل ذلك. لذلك نحن نعمل جاهدين على معالجة أسباب هذه الحالات، ونتائجها، والحد من تأثيرها على النسوة المعنّفات في المجتمع".

من الحلول المتّبعة وفق حديث زينو، إدخال المرأة إلى قطاع العمل، من خلال تأمين دورات مهنية للسيدات تمكّنهن من تعلّم مهنة تساعدهن على أن يكن مستقلاتٍ وقادراتٍ على إعالة أنفسهن، حتى لا يتعرضن للاستغلال من أي شخص، بالإضافة إلى دورات محو الأمية التي تزيد الوعي لديهن، فلا يقعن ضحيةً للعنف.

"بالإضافة إلى ذلك، نعمل على توعية الأسرة بدورها في التنشئة الاجتماعية للفتاة، وبدور التربية في صقل شخصيتها، كي تتعلم أن تقول 'لا'، وترفض الظلم. ونركّز دوماً على ضرورة وجود جهات موثوقة تلجأ إليها المرأة عندما تُنتَهك حقوقها"، تختم حديثها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image