تتجه نحو حجرة الكشف، حيث يخبرها الطبيب بأن موعد ولادتها اقترب، وستخضع لعملية قيصرية، فتتذكر ولادة طفلتها الأولى، وسؤال الطبيب حينها عن سبب الجرح البارز في قدمها اليمنى، هذا الجرح الذي أصابها وهي في الثامنة من عمرها، وترك أثره معها إلى أن تخطت الثلاثين. ليس أثره الجسدي فحسب، ولكن النفسي أيضاً.
كانت بسنت محمد (اسم مستعار)، وهي تسكن في محافظة الشرقية، في الثامنة من عمرها، عندما غاب أهلها عن المنزل، وعادوا ليجدوها في الشارع، وهي تلعب مع أطفال الجيران، فكان رد فعلهم قاسياً. "أهلى كانوا قساةً جداً، نبّهوني بعدم مغادرة المنزل، ولكن طلب مني أطفال الجيران اللعب معهم، فاستجبت لأنني طفلة، وأحب اللعب، وكان من بينهم طفل يكبرني بعامين".
غضب الأهل بسبب لعب الابنة مع ولد، وعدّوه أمراً يستحق العقاب، ليس العقاب اللفظي، أو التعنيف فحسب، ولكن امتدّ الأمر إلى العقاب الجسدي، كما روت لرصيف22: "حرق والدي رجلي من الأعلى، بمساعدة والدتي، لأنني خرجت للّعب في الشارع مع ابن الجيران. كنت أصرخ من الألم، ولم يشفع له صراخي، واستمر في الحرق، حتى سبب لي حرقاً من الدرجة الثالثة".
تسعى النساء لإخفاء الندبات التي يتركها العنف والحوادث على أجسادهن، وربما يتمكنّ حينها من إخفاء شعورهن في الداخل.
على الرغم من أن بسنت حينها، كانت طفلة، وربما لا تتذكر المواقف الأخرى التي مرت بها في هذا السن، إلا أن هذا الموقف حفر في ذاكرتها عميقاً: "أتذكر هذا الموقف يومياً، عند الدخول إلى دورة المياه للاستحمام، أو عند ارتداء مايوه على البحر، وأشعر بنظرات المارة تخترق جسدي، وتودّ سؤالي عن سبب سمار ما يقرب من نصف رجلي من الأعلى، وسبب الندوب البارزة فيها".
كبرت بسنت، وتزوجت، وتركت منزل الأسرة إلى منزل جديد، ولكنها لم تتخلص من الآلام التي عاشتها في طفولتها. تلك الآلام التي دفعتها للتفكير في إخفاء هذا الجرح البارز بالتاتو: "ذهبت إلى العديد من رسامي التاتو، وعرضوا عليّ رسومات جمالية تخفي هذا الأثر، لكنني حتى الآن لم أستقر على شكلٍ لرسمة، أبحث عن شكل يعبّر عن إحساسي تجاه الحرق، وعن إحساسي في تلك اللحظات، ولم أصل حتى الآن إلى ما يصف ما مررت به".
حرق من الدرجة الثالثة
ما عاشته بسنت من عنف أسري، يتكرر في منازل مصرية كثيرة، ويخلق ندبات نفسية، وأيضاً جسدية. تلك النديات التي تدفع النساء لإخفاء معالمها الخارجية، وربما يتمكنّ حينها من إخفاء شعورهن في الداخل، مثل ما حدث مع سهام عبد القادر، البالغة من العمر 42 عاماً، من محافظة القاهرة، حين كانت في شجار بينها وبين زوجها، تسبب بإصابتها في صدرها بحرق، بعد سكب الماء الساخن عليه.
تروى سهام لرصيف22: "كان زوجي عائداً من العمل، وكنت في المطبخ أستعدّ لتحضير الطعام، فاستشاط غضباً بسبب تأخري في تجهيزه، ودخل المطبخ، وبدأ بالشجار معي، وسكب الماء الساخن الذي كنت أضعه لسلق المعكرونة، ونزل الماء على صدري".
تسبب الماء في حرق من الدرجة الثالثة لسهام، لم تنفع معه الكريمات، أو المراهم التي تزيل آثار الجروح. وبسبب التأخر في علاجه، لم تفلح معه أيضاً عمليات التجميل. "انتهت علاقتي بزوجي بعد ثماني سنوات من الزواج، وبعد عامين من تلك الواقعة، التي لم تكن الأولى في ضربي، أو إهانتي، لكنها تركت تلك المرة جرحاً لن يزول، وعلامة في صدري".
"ذهبت إلى العديد من رسامي التاتو، وعرضوا عليّ رسومات جمالية تخفي هذا الأثر، لكنني حتى الآن لم أستقر على شكلٍ لرسمة، أبحث عن شكل يعبّر عن إحساسي تجاه الحرق، وعن إحساسي في تلك اللحظات، ولم أصل حتى الآن إلى ما يصف ما مررت به"
اتّجهت سهام إلى أحد مراكز رسم التاتو في المعادي، واختارت رسمة لتخفي آثار الحرق. "اخترت رسمة شجرة ملوّنة بالأسود والأخضر والأزرق، وأحسست بأن تلك الألوان ستشعرني بعودة الحياة، وأن رسمة الشجرة ستشعرني بالمقاومة، والبدء من جديد. فمع ري الشجرة بالماء، ستكبر وتطرح من جديد، وأيضاً أنا بعد تخلصي من تلك العلاقة، عليّ أن أنهض من جديد، وأستعدّ لحياة جديدة".
عادت الحياة من جديد إلى سهام، فبعد أن أخفت آثار الجرح الخارجية، بدأت بإخفاء آثاره الداخلية، باستمداد القوة من الرسمة، وهو ما تؤكده الرسامة المتخصصة في تاتو الجروح دينا الحاروني. فالرسومات التي تختارها السيدات، رسائل تمنحهن القوة والصلابة، لمواجهة الجروح الداخلية والخارحية، سواء أكانت تلك الجروح نتيجة عنف، أو حتى نتيجة حادث.
روح جديدة
دينا متخصصة في رسم التاتو، وهي أيضاً واحدة من السيدات اللواتي تسبب حادث سير في إعاقتهن عن الحركة، مدة ثماني سنوات، وترك جرحاً بارزاً في ذراعها اليمنى، فقررت الرسم عليه لإخفاء معالم الجرح، وبدأت بالعمل في هذا النوع من الفن، لإخفاء العيوب التي تسبب الإحراج والوصم، للفتيات والسيدات.
تقول دينا لرصيف22، إن السيدات اللواتي يترددن على عيادتها، يدخلن في حالة نفسية مختلفة تماماً عن التي يخرجن بها. "تأتي السيدات محمّلات بدموع تصارع النزول، وتوتّر من شكل الجروح، أو الحروق في أجسادهن، ولا يثقن إن كانت تلك الرسومات ستخفي تلك الآثار، أم لا، ولكن بعد انتهاء العملية، تتبدل تلك الحالة النفسية، وأشعر بأن القوة عادت إليهن من جديد، وكأن روحاً جديدة سيطرت عليهن".
يختلف هذا النوع عن التاتو العادي، فهو حساس جداً، خاصةً إذا كان الحرق، أو الجرح، في مكان حساس.
روت دينا أن العديد من النساء تتوقف حياتهن بسبب حوادث مشابهة، فمنهن من يرفضن الزواج، وأخريات لا يُقبَلْن في بعض الأعمال، إلى جانب النظرة القاسية التي يرينها في عيون المحيطين، والتي تصل إلى حد الوصم والتنمّر.
الفكرة في البداية لم تكن سهلة، كما وصفت، إذ بدأت دينا بتعلم الرسم على القماش، وعملت مع حالات فردية من النساء، ثم قررت تأسيس مكان خاص بها، لممارسة هذا النوع من الوشم الذي يتميز بالدقة: "يختلف هذا النوع عن التاتو العادي، فهو حساس جداً، خاصةً إذا كان الحرق، أو الجرح، في مكان حساس، مثل جرح الولادة القيصرية".
ترى دينا أن المعايير التي يضعها المجتمع للمرأة وشكلها، والإعلانات والأعمال الفنية التي تحصر المرأة في شكل معين، هي التي جعلت صاحبات تلك الحوادث يرغبن في الهروب من مواجهة عالم يرفض وجودهن، ويبحث عن السيدة المهندمة المتناسقة القوام فحسب، وينسى أن تلك السيدة هي زوجة، وأم معرضة للحمل، والولادة، وضغوط المنزل والحياة، وأيضاً لحوادث شتى يمكن أن تؤثر عليها طوال الحياة.
من رسومات الفنانة المتخصصة بتاتو الجروح دينا الحاروني
دافع للاستمرار
قررت ضحى عبد الله (35 عاماً)، أن تكتب عبارة "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، على جرح ولادتها القيصرية، وهو الجرح الذي تسبب في هجرة زوجها لها، لأنها أصبحت ممتلئة، وغير مهتمة بنفسها، كما وصفها. "بعد عام من الولادة، بدأ زوجي يتغير في معاملتي، ويصفني بأنني أهملته، وأيضاً أهملت نفسي، وبدأ يعيّرني بأن جسمي تغيّر عن شكله قبل الزواج".
تقول ضحى لرصيف22، إنها كانت تسهر طوال الليل مع طفلها الذي لا يكفّ عن البكاء، كعادة غالبية الأطفال، وفي المقابل لا يساعدها زوجها في الأعمال المنزلية. "كنت وحدي من أقوم بطهو الطعام، والتنظيف، بالإضافة إلى ترضيع ابني، ويعود زوجي في المساء من عمله، ليجد ابني مستمراً في البكاء، فيصرخ في وجهي، ويطلب مني إسكاته، وتحضير الطعام، ثم يذهب لينام، ويتركني وحدي".
"تأتي السيدات محمّلات بدموع تصارع النزول، وتوتّر من شكل الجروح، أو الحروق في أجسادهن، ولا يثقن إن كانت تلك الرسومات ستخفي تلك الآثار، أم لا، ولكن بعد انتهاء العملية، تتبدل تلك الحالة النفسية، وأشعر بأن القوة عادت إليهن من جديد، وكأن روحاً جديدة سيطرت عليهن"
وتابعت: "في النهاية، قال زوجي إنني أصبحت امرأة قبيحة، لا تسرّه رؤيتي، ويفكر في الزواج مرة أخرى، فطلبت منه الطلاق بعد عام ونصف من ولادة طفلي، ليصبح طفلي هو الحياة كلها، بالنسبة إليّ".
فكرت ضحى في رسم عبارة تكون دافعاً لها للاستمرار، فوجدت عبارة "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، لمحمود درويش. "هذه العبارة تعبّر عني، وعن ابني، فابني هو ما يستحق أن أعيش لأجله، وبالفعل ذهبت لرسمها على مكان خروج ابني من بطني، لتصبح دافعاً للحياة، لي وله".
اتّجهت ضحى للبحث عن عمل للمساعدة على توفير دخل مادي لرعاية ابنها، وأيضاً اتّجهت نحو ممارسة الرياضة في المنزل، وتناول طعام صحي. "لم أفعل هذا لزوجي الذي تركني، ولكن من أجلي، ومن أجل ابني. شعرت بأن هناك أموراً تستحق الحياة فعلاً، وساعدتني على رؤيتها، تلك العبارة التي أتحسسها يومياً على بطني، لتصبح رسالتي الصباحية التي أبدأ بها يومي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...