كنت أود دائماً، أن أنشأ في أسرة قوامها الحب، والعطف، لكن ما حدث، هو أن منزلنا كان يمتلئ بالصراخ، والمشكلات اليومية، بين أمي وأبي. كان أبي، مثل معظم الرجال، شخصاً غير ودود، وبلا مشاعر، ولا يعبّر عن حبه لأبنائه، ويمارس عليهم العنف النفسي، وهو أشد أنواع العنف، لأنه لا يترك أثراً مادياً على الضحية. عانت أمي معه الأمرّين، لكنها لم تقوَ أبداً على الطلاق، لأن الطلاق يُعدّ وصمة عار في الطبقة التي ننتمي إليها، أي الطبقة المتوسطة. أكثر من ذلك، كانت أمي تنصح النساء كلهن اللواتي يشتكين لها من تعرضهن للعنف، والخيانة، بأن يصبرن على أزواجهن، حتى لا ينشأ أولادهن في أسر مفككة. لم تسترح أمي، ولم تهدأ، ولم يهدأ المنزل من الصراخ، إلا عندما مات أبي، وانتهت تحكماته، وانتهت معاركهما.
لم تسترح أمي، ولم تهدأ، ولم يهدأ المنزل من الصراخ، إلا عندما مات أبي، وانتهت تحكماته، وانتهت معاركهما.
لكن لماذا لم تطلب أمي الطلاق، وصبرت على علاقة مؤذية، استمرت 27 عاماً؟ كانت مثل معظم الناس في طبقتها المتوسطة، ترى الانتحار أسهل من الطلاق، فلن نسلم من كلام الناس، وربما لن يتزوج بناتها، لأن أمهن مطلقة، وربما تتعرض لمضايقات، كامرأة مطلقة. كانت ترى أيضاً أن الطلاق فشل، وهي لا تحب أن تُنعت بالفاشلة. كان وضعها الاقتصادي كذلك غير جيد، وخافت من ألا تقدر على الانفاق على ابنتيها، وكانت ترى أن المحاكم "حبالها طويلة".
يشتكي الناس من ارتفاع معدلات الطلاق بين أبناء جيلي، لكني أرى أن ارتفاع معدلات الطلاق شيء إيجابي، فالفتيات اليوم لم يعدن مثل جيل أمي، يقبلن الإساءة، ويكملن في علاقات مؤذية، خوفاً من كلام الناس. اخترت أنا شخصياً أن أنهي علاقة مؤذية مع شخص معنِّف، وخائن، ويمارس عليّ التلاعب النفسي، أو "التلاعب بالعقول" gaslighting، حتى لا أمضي في خطأ أمي، مهما كلفني الأمر. خرجت من هذه العلاقة بإرادتي، وأعرف الكثيرات من الصديقات اللواتي أنهين علاقات زواج في وقت مبكر، فلا يوجد مبرر للاستمرار في علاقة فاشلة، أو مؤذية، على أمل أن تتحسن في المستقبل.
كانت أمّي مثل معظم الناس في طبقتها المتوسطة، ترى الانتحار أسهل من الطلاق، فلن نسلم من كلام الناس، وربما لن يتزوج بناتها، لأن أمهن مطلقة، وربما تتعرض لمضايقات مستمرة
لن يحدث لامرأة أخرى
العلاقات المؤذية التي شاهدنا أمهاتنا أسيرات لها، يتعرضن للضرب، والخيانة، جعلتنا نأخذ موقفاً ربما يوصف بالمتطرف. لن نقبل بعلاقات مؤذية، حتى لو وصمنا المجتمع بأننا مطلقات، أو بأننا فاشلات، أو متسرعات لا نبذل الجهد الكافي في العلاقة، حتى تستمر. لك أن تعرف/ ي أن 37% من النساء اللواتي سبق لهن الزواج، تعرضن للعنف.
أقرأ قصص سيدات معنّفات على صفحة أمهات مصر المعيلة، وأكاد أُصاب بالجنون. فهذا أب يعنّف ابنته ذات الثلاثة أشهر، وأخرى تكتشف أن زوجها مريض نفسي في اليوم الثاني للزواج، وتصبر على الذل والإهانة من أهله، والتهديدات بالقتل، مدة 33 سنة. لا ألوم الضحية بالطبع، لكن لا أستطيع ألا أسأل نفسي: لماذا لم تغادر هؤلاء النساء مع بداية الإيذاء؟
لماذا يستمر البعض في العلاقة المؤذية؟
في الحقيقة، هناك أسباب عدة، تجعل المرأة لا تخرج من علاقة مؤذية، أولها عدم إدراكها من الأساس أنها في علاقة مؤذية، أو أن تصرفات زوجها أو شريكها سيئة، فالمرأة التي تُقهر في بيت أبيها، تتقبل القهر في بيت زوجها. فتشعر أنها لا تستحق أفضل من هذه المعاملة، بالإضافة إلى ذلك، هناك إستراتيجيات يمارسها الشخص المؤذي، تجعل المرأة لا تقوى على الخروج من العلاقة، منها أسلوب عزل الضحية، إذ يعزلها عن المصادر الخارجية، فلا تجد من تلجأ إليه سوى المعنِّف الذي تعيش معه، أو أن يتّبع أسلوب التلاعب العقلي أو النفسي gaslighting، وهو أكثر من مجرد كذب، بل عملية خداع مستمرة، تجعلها تتشكك في نفسها، وقراراتها، واتهامها بأنها مجنونة ومختلة، حتى تصدق المرأة، وربما تعتذر له عن تصرفاته السيئة. وإذا كانت المرأة تتعرض لعنف جسدي، ربما تشعر أنه من الأفضل ألا تترك المعنِّف، فقد يزداد عنفه إذا تركته، ونحن سمعنا بالفعل عن رجال تعرضوا لزوجاتهم بالضرب، بعد رفع قضايا خلع. وهناك أيضاً ما يُسمى بدورة العنف، وهي تتضمن تراكم العنف، ثم فقدان السيطرة عليه، واستخدام العنف، ثم الندم والاعتذار، وهي مرحلة "شهر العسل" التي يعتذر فيها الرجل، ويبدي ندمه، فتشعر المرأة أنه تغير إلى الأبد. لكن ما لا تعرفه، هو أن الأذى يتكرر بعد ذلك، وعادةً ما يشتد العنف في المرات التالية.
ما فعلته أنا، وفعلته كثيرات من بنات جيلي، أننا توقفنا عن "طحن الماء"، فالعلاقة المنتهية الصلاحية، لا يجدي معها نفعاً لا الصبر، ولا محاولات الإصلاح. أما الإيذاء النفسي والجسدي، فلن نصبر عليه مجدداً، مهما اتهمنا المجتمع بأننا فاشلات، أو بأننا "نخرب بيوتنا بأنفسنا"
بالطبع هناك أسباب اقتصادية، ففي كثير من الأحيان لا تجد المرأة مكاناً تذهب إليه، خاصةً مع وجود أولاد، كما أن الشخص المؤذي، أو المعنِّف، غالباً ما يتحكم بالمرأة اقتصادياً، وهنا يجيء دور الاستقلال الاقتصادي. وبتالياً، تكون أهمية عدم الاعتماد مادياً على الرجل، والبحث عن طرق للاستقلالية المادية، حتى ولو تجسّدت في عدم إنفاق الأموال كلها في ما يتعلق بالتدابير المنزلية، وتخصيص جزء من المعاش الشهري للمرأة نفسها. وعلى الجانب الآخر، تشعر أحياناً المرأة أنها لن تنجح في الهروب، مهما حاولت، ويزيد من هذه الاستحالة، أن الأهل والمجتمع سيدفعونها إلى أن تتحمل، أو لا يصدقونها من الأساس، فتستمر في علاقتها الزوجية على أمل أن يتحسن الشخص المؤذي في المستقبل.
ما فعلته أنا، وفعلته كثيرات من بنات جيلي، أننا توقفنا عن "طحن الماء"، فالعلاقة المنتهية الصلاحية، لا يجدي معها نفعاً لا الصبر، ولا محاولات الإصلاح. أما الإيذاء النفسي والجسدي، فلن نصبر عليه مجدداً، مهما اتهمنا المجتمع بأننا فاشلات، أو بأننا "نخرب بيوتنا بأنفسنا". فإذا كنتِ تتعرضين للعنف الجسدي، أو النفسي، ابدئي بإبلاغ الأشخاص القريبين والإيجابيين، واتخذي الإجراءات القانونية، واتصلي بالخطوط الساخنة المخصصة للعنف الأسري، والجئي إلى دور المعنَّفات، إذ يمكنهم استضافتك يوماً، أو اثنين، واحرصي عند بداية الزواج، أن تكون العصمة في يدك، أي أن يكون لكِ حق تطليق نفسك، ولا تحاولي إصلاح المعنِّف، ولا الاستمرار في العلاقة، واهربي، ولو كلّفك الأمر حياتك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون