لا يتعافى المرء بأصدقائه فحسب، كذلك لا يتعافى بتمارين اليوغا، وجلسات التأمل، ولا يتعافى عندما يتناول كوب عصير صحي، أو يحجز تذكرة طيران نحو واجهة سياحية.
هل صُدمت؟ كل الاقتراحات السابقة في عالم الدعم النفسي هي مُسكّنات للروح، تُسكت عقلك عن الاستماع إلى احتياجات جسمك الحقيقية للتعافي. يزيد الأمر سوءاً، أن تقع/ ي في فخ "بزنس" الدعم النفسي، حيث العروض الترويجية التي تحاصرك من كل اتجاه، وبأسعار خيالية تعدك بجنّة الراحة النفسية، متى حصلت عليها، وتُقدَّم لك من حاملي ألقاب المُشير النفسي، والمعالج، وميسّر جلسات الدعم، والحاصل على شهادات مدارس الاستشارات النفسية الوهمية من بلاد "الواق واق".
كيف ولماذا تحوّل الدعم النفسي في مصر إلى "بزنس"؟
رحلة التعافي والدعم النفسي
رحلة التعافي هي رحلة يخوضها الإنسان بوعي. لا يرتبط التعافي بأن تتخلص/ ي تواً من مرضك النفسي، ولكن هو أن تحصل/ ي على التوازن في حياتك، وأن تلملم/ ي الخيوط لحياة ذات معنى، جنباً إلى جنب مع العلاج النفسي للمرض، وأعراضه.
يقع كثيرون اليوم في فخ "بزنس" الدعم النفسي، حيث العروض الترويجية التي تحاصرك من كل اتجاه، وبأسعار خيالية تعدك بجنّة الراحة النفسية.
عن الترويج للدعم النفسي عبر منصّات التواصل الاجتماعي، من خلال أشخاص غير مؤهلين لتقديم الخدمة النفسية للأفراد، حدثتنا استشارية الطب النفسي في مستشفى الصحة النفسية في العباسية، الدكتورة فاطمة أبو الأنوار، قائلةً: "عندما يرغب الشخص في الحصول على خدمة، أو مشورة، أو علاج يتعلق بالصحة النفسية، فيجب اللجوء إلى متخصص، على أن يكون طبيباً، أو استشارياً، أو أخصّائياً خريج كلية الطب، ومتخصصاً في دراسة الطب النفسي، لأنه الأجدر بتوجيه المريض/ ة، أو طالب/ ة الاستشارة النفسية، التوجيه الأمثل، وبأن يخبره عن طبيعة ما يعاني منه، وهل يحتاج إلى علاج دوائي لمشكلة نفسية يعاني منها، أم يحتاج إلى علاج سلوكي بالجلسات، أم أن ما يعاني منه هو مشكلة اجتماعية تحتاج إلى توجيه نمط الحياة وتغييره؟".
إذاً، المعالج النفسي هو شخص بالضرورة متخصص، ودارس للطب النفسي، وليس مجرد شخص حاصل على دورات تدريبية من أماكن مجهولة الهوية، أو قرأ كتباً في مجال الطب النفسي، أو حتى التحق بورشٍ ومدارس غير معنية بتأهيل معالجين نفسيين ذوي خبرة ودراسة أكاديمية.
تضيف أبو الأنوار: "في مصر، دخل كثير من غير المتخصصين إلى مجال الطب النفسي، فكل متحدث لبق قرأ كتاباً، أو حصل على دورات تدريبية عبر الإنترنت، سوّق نفسه كمعالج نفسي قادر على تغيير حياة الأشخاص نحو الأفضل، سواء بجلسات الدعم النفسي غير المتخصصة، أو بتقديم خدمات دعم نفسي مختلفة للأفراد، عن طريق الانترنت، بسرّية، وبأسعار زهيدة في البداية، حتى يجذب الجمهور، ثم تزيد تدريجياً، وبالطبع عندما يجد المريض أنه سيحصل على خدمة الدعم النفسي محاطةً بكل هذه الإغراءات، يقع في فخ اللجوء إلى غير المتخصصين، مما يزيد الحالة سوءاً بعد ذلك، بسبب عدم الخبرة".
"عندما يرغب الشخص في الحصول على علاج يتعلق بالصحة النفسية، فيجب اللجوء إلى متخصص، على أن يكون طبيباً، أو استشارياً، أو أخصّائياً خريج كلية الطب، ومتخصصاً في دراسة الطب النفسي، لأنه الأجدر بتوجيه المريض/ ة، أو طالب/ ة الاستشارة النفسية، التوجيه الأمثل"
وتشير المتحدثة إلى أن البعض ما زال يرى المرض النفسي وصمة عار، والذهاب إلى الطبيب النفسي ضرباً من الجنون، مما سمح لمروّجي خدمة الدعم النفسي الوهمية بالتزايد، وتحويل الأمر إلى بزنس، بل وتخويف المرضى من فكرة الذهاب إلى الطبيب النفسي الذي حتماً سيعطيهم دواء يدمّر حياتهم.
جلسات "كارثية"
منال. ع.، زوجة وأم، جرّبت نوعاً من الدعم النفسي كاد أن يُسقطها في بئر الجنون والاكتئاب الحاد، كما تروي.
"بدأ الأمر رائعاً بدعوة لحضور جلسات ‘حكي واستماع’ أونلاين، تقدّمها إحدى المنصات الإلكترونية لدعم المرأة، وتنمية المجتمع بصورة مجانية، وتحضرها نساء متنوعات، تتحدث كل منهن عن مخاوفها، ومشاعرها، ومآسيها، من دون وصم، أو مقاطعة، وفي سرّية تامة، وبتنظيم ما يُعرف باسم ‘مسير المجموعات’".
في البدء كانت فكرة الحكي والفضفضة مريحةً وفق تعبير منال، ولكن مع تكرار الأمر، وانتهاء المجموعة من دون تقديم تعليمات أو نصائح فعالة للتخلص من الألم، وجدت نفسها تبتلع المشاعر السلبية والمآسي في داخلها، لتثقلها، وتحيل حياتها يوماً بعد آخر إلى جحيم حقيقي. "خرجت من تلك المجموعات، ويمكن أن نقول ‘فررت’، وعندما تحدثت في الأمر لاحقاً مع طبيبة نفسية، اكتشفت كارثية عقد هذه المجموعات من دون رقابة طبية، ومن دون تخصص، وكيف كادت تهدد صحتي النفسية".
وهنا، يخبرنا الأخصائيون/ ات بأن جلسات الحكي، ومجموعات الدعم النفسي، يجب أن تُجرى ضمن نظام علاجي مخصص تحت إشراف طبي، من قبل طبيب/ ة، أو اخصائي/ ة نفسي/ ة لديه/ ا تصريح بمزاولة المهنة، ضمن قواعد وأسس لتنظيم هذه المجموعات، ومن دون المساس بأمان الملتحقين بها، وما دون ذلك يُعرّض للمساءلة القانونية.
يستهدف مدّعو العلاج والدعم النفسيَين "الزبائن" عن طريق شبكات التواصل، وعن طريق دوائر المعارف والأماكن المعنية بدعم المرأة والأسرة.
تكرر الأمر مع عبير. م.، وهي سيدة ثلاثينية مطلّقة. تقول: "مررت بكربٍ، بعد الصدمة إثر الطلاق، ونصحتني صديقتي بحضور جلسات تأمل ودعم نفسي للمطلّقات بأسعار مخفّضة، مع أحد المشيرين النفسيين المعروفين على منصات التواصل الاجتماعي. كان الأمر يبدو رائعاً معها، وبعد إلحاح منها، ذهبت، ووجدته ينبش نبشاً في وجعي، ويتركه مكشوفاً أمام الجميع. لم تتغير حياتي نحو الأفضل بعد أول جلسة، كما كان يروّج، بل في المرة الثالثة انهارت حصوني النفسية المتهالكة بالفعل، واضطررت إلى خوض علاج نفسي مكثف، ليس للتخلص من التروما فحسب، ولكن لما سببته لي هذه الجلسات من ضرر نفسي بالغ".
تضيف عبير أن طفلها عانى كذلك من اضطراب سلوكي واضح بعد الطلاق، ونصحتها حينها طبيبتها بالذهاب إلى "بيت الشمس" التابع لمستشفى الصحة النفسية في العباسية، في ما يتعلق باضطرابات الأطفال. "أنقذتني من الوقوع مرةً أخرى في فخ بزنس العلاج النفسي للأطفال".
عادةً، يستهدف مدّعو العلاج والدعم النفسيَين "الزبائن" عن طريق شبكات التواصل بمختلف أنواعها، وعن طريق دوائر المعارف والأماكن المعنية بدعم المرأة والأسرة، كنادٍ عام، أو مكان يقدّم خدمات للأمهات، والمطلّقات، والمعنّفات، والمتعافيات من الإدمان.
العلاج النفسي في مصر "طبقات"
"مريض نفسي". ذلك اللقب الذي يهرب منه الجميع، ويرفضه المجتمع، ويستغلّه بعض الأطباء النفسيين، ليصنعوا بزنس عالم الدعم والعلاج النفسيين، فإذا كان المريض من طبقة متواضعة اجتماعياً، فهو مضطر إلى الحصول على خدمة العلاج النفسي من المصادر المدعومة والحكومية. صحيح أن مبلغ الكشف عند هذه الجهات لا يتعدى بضعة جنيهات، كمستشفى العباسية للصحة النفسية، لكنها موصومة دائماً من المحيطين بأنها "مشافي المجانين"، فيهرب من اللجوء إليها المريض، حتى لا يُوصم بذلك. كما أنها تفتقد الحد الأدنى من النظام والرعاية، وغالبية التخصصات العاملة بها، خاصةً باضطرابات الأطفال والأسرة فحسب.
أما إذا كان المريض ميسوراً مادياً، فيمكنه الحصول على خدمة أفضل، وأكثر آدميةً، ولكنه في المقابل سيواجه تفاوتاً مرعباً في أسعار جلسات الكشف، وأدوية العلاج، وما إلى ذلك، إذ تبدأ جلسات العلاج النفسي من مئتي جنيه للجلسة (12 دولاراً)، وتصل إلى 900 جنيه وأكثر (57 دولاراً)، لدى بعض الأطباء المشهورين، بخلاف أسعار العقاقير الطبية، ناهيك عن أسعار مصحّات العلاج النفسي التي تصل كلفة الليلة الواحدة فيها إلى عشرات آلاف الجنيهات، في حين لا يتجاوز متوسط الدخل الشهري للطبقة الوسطى ثلاثة آلاف جنيه.
"لم تتغير حياتي نحو الأفضل بعد أول جلسة، كما كان يروّج، بل في المرة الثالثة انهارت حصوني النفسية المتهالكة بالفعل، واضطررت إلى خوض علاج نفسي مكثف، ليس للتخلص من التروما فحسب، ولكن لما سببته لي هذه الجلسات من ضرر نفسي بالغ"
وفق هذا السياق، تتحدث أخصائية الطب النفسي والاستشارية الأسرية، هبة شلبي، لرصيف22، بالقول: "زيادة أسعار الكشف، بالإضافة إلى ظهور غير المتخصصين، زاد الأمر سوءاً، وحوّله إلى ‘سبوبة’. على المريض أن يعرف أن أي معالج نفسي غير حاصل على إجازة لمزاولة مهنته، ولا يجري اختبارات نفسية لتحديد حالة المريض، وكيفية التعامل معها بدقة، لا يُعتدّ به كمعالج إطلاقاً، فأي شخص يروّج لنفسه كمعالج، أو كمشير نفسي، فقط لأنه يستطيع عقد جلسات دعم يحكي فيها المرضى عن معاناتهم، فهو شخص غير مؤهل للتعامل مع المرضى، بل يتلاعب بصحتهم النفسية. قد تكون هذه الجلسات خطوةً في علاج بعض الحالات، وليس جميعها".
إذاً، المعالج النفسي هو شخص خرّيج كلية آداب علم نفسي إكلينيكي، واضطرابات سلوكية، وحاصل على ماجستير ودكتوراه في المجال نفسه، بالإضافة إلى دراسة العديد من الدبلومات، والمرور بالعديد من الاختبارات لإجازة عمله كمعالج، والحصول على ترخيص من وزارة الصحة بمزاولة المهنة.
كيف لنا أن نعرف المعالج الجيّد؟ تجيب شبلي: "هو أي معالج نفسي يخصص برنامجاً إرشادياً، تتراوح مدته من ثلاثة إلى ستة أشهر، مخصصاً لحالة المريض، وما يعاني منه تحديداً، بالإضافة إلى ما سبق عن كونه معالجاً متخصصاً، سواء أكان أخصائياً، أو طبيباً نفسياً، أو استشارياً، ويحافظ على سرّية حالات المرضى. إذا لاحظت أن معالجك لا يسير معك في رحلة العلاج أو الدعم وفقاً لخطة مدروسة، فعليك التوقف والتفكير جيداً".
زيادة أسعار الكشف، بالإضافة إلى ظهور غير المتخصصين، زاد الأمر سوءاً، وحوّله إلى ‘سبوبة’.
أما في ما يتعلق بتحول الأمر إلى بزنس، وظهور غير المتخصصين، فهو نتيجة لحاجة الأشخاص إلى العلاج النفسي، وقلة الوعي بمواصفات المعالج النفسي الحقيقي، بالإضافة إلى تفاوت أسعار الخدمة المقدمة من الأطباء والمتخصصين، كما تشرح المتحدثة، "لذا يقع الناس في فخ الحيرة والبحث عن تلقّي خدمات الدعم بأرخص وأسهل وسيلة ممكنة، يقابل ذلك استغلال من يطلقون على أنفسهم مشيرين، ومرشدين، ومعالجين، ناشرين نصائحهم ليل نهار عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من دون النظر إلى تأثيرها السيئ على الأشخاص".
إذا وقعتم/ ن يوماً في فخ بزنس الدعم النفسي، أو كنتم/ ن على مشارف بدء رحلتكم/ ن في التعافي، فعليكم/ ن أن تعرفوا/ ن كيف تبحرون/ ن بسفينتكم/ ن وسط العاصفة، بمجاديف صلبة. الوقت لم يمضِ. التعافي رحلة حياة مستمرة طوال الوقت، ومن حقك/ ن أن تعلموا/ ن جيداً من الأجدر بأن يكون مرشدكم/ ن في هذه الرحلة، ومن عليكم/ ن اللجوء إليه، ومن تخبركم/ ن العلامات بأنه يستغلكم/ ن بوضوح. انفضوا/ ن الغبار عن أعينكم/ ن فحسب، وقولوا "لا" واضحةً لمن يستغل آلامكم/ ن، للربح باسم الدعم النفسي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع