قبل عشرين عاماً، كان الاكتئاب واضطرابات الصحة النفسية الأخرى عند الأطفال غير معروفة تقريباً، ويتم التغاضي عنها في معظم الأحيان.
وقد شكك العديد من الأطباء في وجود الاكتئاب عند الأطفال، لاعتقادهم بأن الطفل يفتقر إلى البنية النفسية والمعرفية الناضجة لاختبار مثل هذه المشاكل النفسية، غير أن الأبحاث والدراسات أظهرت أن الاكتئاب ليس محصوراً بفئة عمرية محددة.
تزايد حالات الاكتئاب لدى الأطفال
لطالما كان الاكتئاب عند الأطفال موضوعاً يصعب فهمه من قبل المجتمع وحتى من قبل بعض المتخصصين في الرعاية الصحية، أما اليوم فقد بات يشكل واقعاً صارخاً في ظل تزايد معدل الاكتئاب بين صغار السن.
يُظهر البحث الذي أجراه المعهد الوطني للتميز في الرعاية الصحية (نيس) أن 80 ألف طفل في المملكة المتحدة يعانون من اكتئاب حاد، بما في ذلك 8 آلاف طفل دون سن العاشرة.
وفي السياق نفسه، ذكر موقع Young Minds، أن واحداً من كل 10 أطفال وشباب تتراوح أعمارهم بين 5 و16 عاماً يعاني من اضطراب ما في الصحة النفسية.
"إذا لم تكن لديكم/نّ الفرصة لتجربة الحياة بمفردكم/نّ، والتعامل مع ضغوطات الحياة، والتعلم في سياق اللعب، حيث يكون لكم/نّ مطلق الحرية في الفشل، فإن العالم يصبح مكاناً مخيفاً"
واللافت أنه غالباً ما تتم إحالة الأطفال الصغار بشكل عشوائي إلى العلاج النفسي، بسبب مخاوف الأهل وقلقهم بدلاً من التركيز على الصعوبات التي يواجهها الطفل.
بمعنى آخر، يقوم الآباء، في بعض الأحيان، بإجراء التشخيص بأنفسهم ويحيلون طفلهم إلى العلاج النفسي، في الوقت الذي لا تكون هناك مشكلة نفسية تستدعي ذلك، وبعدها يقضي المعالج/ة النفسي/ة وقتاً في طمأنة الوالدين بأن ما يحدث للطفل يندرج في مسار النمو الطبيعي.
أسباب كآبة الأطفال
"هناك شيء ما في الحياة الحديثة يقوّض الصحة النفسية"، هذا ما كتبه جان توينج، أستاذ علم النفس في جامعة ولاية سان دييغو، في ورقة بحثية.
يتم تشخيص الأطفال بمستويات أعلى من اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه (ADHD)، ويسعى العديد من الأفراد الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و 18 عاماً للحصول على المزيد من خدمات الصحة النفسية واللجوء إلى المزيد من الأدوية.
من انهيار العلاقات الأسرية والمجتمعية، إلى صعود التكنولوجيا وزيادة الضغوطات الأكاديمية والمنافسة الشديدة، يمتلك الباحثون مجموعة كبيرة من التفسيرات لسبب توتّر الأطفال، مشيرين إلى أن عدم المساواة آخذ في الارتفاع والفقر منهك.
في الحقيقة، تؤدي الضغوطات والتوقعات الاجتماعية إلى زيادة مشاكل الصحة النفسية لدى الأطفال، بحيث تبدو الطفولة أكثر إرهاقاً من أي وقت مضى، بسبب زيادة التركيز على الاختبارات والعلامات المدرسية، وظهور وسائل التواصل الاجتماعي مع ما تحمله من قوالب نمطية لصورة الجسد، ناهيك عن انخفاض عدد الأطفال الذين يلعبون في الهواء الطلق مع الأصدقاء، على حساب قضاء وقت أطول على أجهزة الكمبيوتر ووسائل التواصل الاجتماعي.
في هذا الصدد، اعتبر بيتر غراي، عالم النفس والأستاذ في كلية بوسطن، أن "الأطفال اليوم أقل حرية مما كانوا عليه في أي وقت مضى"، مشدداً على أن الافتقار إلى الحرية بسبب غياب فرص اللعب في الخارج قد تسبب في خسائر فادحة على الصحة النفسية لدى الأطفال.
وأوضح غراي أن اللعب ضمن قواعد يضعها الأطفال، هي الطريقة التي يتعلم بها الأطفال الاستقلال وحلّ المشاكل والتحلي بالشجاعة: "أين يتعلم الأطفال التحكم في حياتهم؟ عندما لا يكون الكبار في الجوار للقيام بذلك نيابة عنهم".
وتابع بالقول: "إذا لم تكن لديكم/نّ الفرصة لتجربة الحياة بمفردكم/نّ، والتعامل مع ضغوطات الحياة، والتعلم في سياق اللعب، حيث يكون لكم/نّ مطلق الحرية في الفشل، فإن العالم يصبح مكاناً مخيفاً".
في السياق نفسه، شددت الدكتورة إلين ليتمان، أخصائية علم النفس الإكلينيكي والمؤلفة المشاركة في كتاب Understanding Girls with AD / HD، أن اللعب ليس أمراً تافهاً، فمن خلاله يمكن بناء دماغ صحي للرضع والأطفال الصغار، موضحة أن هناك تسلسلاً لكيفية نمو الأطفال، من الجانب الأخلاقي والعاطفي إلى الاجتماعي والفكري، بحيث تتطلب كل مرحلة بناء عضلات معينة، سواء للقيام بالرياضات أو لتكوين صداقات.
كيف يبدو شكل الاكتئاب عند الصغار؟
يعتبر اكتئاب الطفولة حالة نفسية خطيرة غالباً ما يتم تجاهلها، لأن الطفولة تتميز إلى حدّ كبير بالتغيرات العاطفية وتطور الصداقات.
وبالتالي، من الصعب تخيّل أن الاكتئاب يصيب الأطفال، لأننا نتصور الطفولة على أنها مجرد أوقات مفعمة بالمرح والسعادة وخالية من المشاكل.
ولكن الاكتئاب ليس حالة نفسية تخصّ الأفراد البالغين فقط، فالطفل بدوره قد يختبر الاكتئاب وتسيطر عليه حدّة الطبع، بحيث يبدو غريب الأطوار للغاية.
ومن غير المرجح أن يفهم الأطفال أن ما يشعرون به هو أعراض الاكتئاب، بل الأمر متروك للبالغين/ات للبحث عن علامات تدل على أن شيئاً ما ليس على ما يرام.
ولعلّ أفضل طريقة للأهل للتعرف على الاكتئاب عند الصغار ليس بما يقوله الطفل بقدر ما يفعله أو يتوقف عن فعله، وبالتالي من المهم البحث عن "تغييرات" مهمة في الأداء، كأن يتوقف الطفل عن اللعب بالأشياء المفضلة، أو يفقد الاهتمام بالنشاطات التي اعتادت أن تكون ممتعة أو مسلية بالنسبة إليه، وكأنه لا يبدو مهتماً بالعودة إلى الحياة الأسرية المعتادة.
أما في حال أعرب الطفل عن رغبته في الموت، فيجب على الأهل أن يفهموا ما الذي يعنيه بهذا الأمر، وان يطلبوا المساعدة من شخص مختص، بخاصة وأن التحدث عن الانتحار يمكن أن يكون إشارة حقيقية على أن الطفل في محنة، لذا لا يجب تجاهل المسألة أو اعتبار أن ما يقوله هو مجرد للفت الانتباه.
ما الذي يمكن أن يفعله خبراء الصحة لمواجهة هذا الارتفاع المقلق في حالة الاكتئاب؟
قد يكون من الصعب تشخيص الاكتئاب، خاصة عند الأطفال، حيث غالباً ما يتم الخلط بينه وبين المشاكل السلوكية أو التنموية والعكس صحيح.
في حديثها مع رصيف22، أوضحت علا خضر، أخصائية في علم نفس الأطفال ومعالجة نفسية، أن الاكتئاب لا يعني بالضرورة حزن أو تقلب مزاج عابر، بل هناك العديد من الأعراض المشابهة لاكتئاب البالغين/ات، على غرار النوم بشكل مفرط أو القلق، فقدان أو زيادة الشهية، انزعاج دائم والقيام بردود أفعال غاضبة.
"إذا شعر الأهل بأن الطفل يعاني من عوارض جسدية لفترة طويلة من دون وجود أي سبب طبي لذلك، فعندها يجب اللجوء إلى أخصائي/ة في علم النفس لتحديد ما إذا كان طفلهم يحتاج إلى متابعة نفسية أو ضرورة تغيير أمور معيّنة في المنزل"
هذا بالإضافة إلى رغبة الطفل المعني في البقاء وحيداً في المنزل دون الاختلاط واللعب مع الأصدقاء وتراجع حادّ في الأداء المدرسي، ناهيك عن الأفكار السوداوية التي قد تظهر في عمر أكبر.
هناك حاجة إلى مزيد من الخبرة لاكتشاف هذه العلامات والتدخل المبكر، الأمر الذي يسمح بالوصول السريع إلى الخدمات المتخصصة والحدّ من المخاطر المحتملة للانتحار.
وأشارت علا إلى أن هناك عوارض جسدية يمكن ملاحظتها لدى الطفل الذي يعاني من الاكتئاب، مثل: آلام في المعدة وأوجاع في الرأس من دون وجود أي سبب طبي، منوهة بأن عوارض الاكتئاب تختلف من طفل إلى آخر: "إذا شعر الأهل بأن الطفل يعاني من عوارض جسدية لفترة طويلة من دون وجود أي سبب طبي لذلك، فعندها يجب اللجوء إلى أخصائي/ة في علم النفس لتحديد ما إذا كان طفلهم يحتاج إلى متابعة نفسية أو ضرورة تغيير أمور معيّنة في المنزل".
هذا وشددت خضر على أهمية أن يقف الأهل إلى جانب الطفل المعني ودعمه من خلال تمضية الوقت معه وتشجيعه على التحدث والبوح بصراحة عمّا يزعجه، وختمت حديثها بالقول: "ما فينا نستهتر بمشاعر الأولاد، لازم الأهل ما يقللوا من قيمة المشاعر يلي عم بيحسها ولدن، وضروري يسمعولو ويحسسو أنو فهمانين عليه، لأنو الولد هيك بيتعود أنو اي شي زاعجوا بيقدر يحكيه مع أهله".
بمعنى آخر، يجب أن يكون هناك المزيد من التركيز على معالجة اكتئاب الطفولة وزيادة الوعي هو نقطة انطلاق جيدة، إذ إنه من المهم على المتخصصين في الرعاية الصحية التدرب على اكتشاف علامات الاكتئاب وتقديم المعلومات والنصائح الملائمة للأطفال.
تتوقع منظمة الصحة العالمية أنه بحلول العام 2030، سيتأثر عدد أكبر من الناس بالاكتئاب أكثر من أي مشكلة صحية أخرى، وإذا كان هذا هو الحال بالفعل، يحتاج المتخصصون/ات في الرعاية الصحية إلى البدء في معالجة جذور الاكتئاب في مرحلة الطفولة، وتقديم الدعم الكامل للأطفال، وإدراك أن صحتهم النفسية ذات قيمة وأهمية كبيرة، وهو مجال أهملناه بشدة في الماضي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...