شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"هاي... كيفك؟"... لبنانيون وسوريون يتحدثون معاً عن صحتهم النفسية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 10 أكتوبر 202105:05 م

بيروت، باريس الشرق الأوسط كما لقّبها البعض، وأرض الحريات، والثقافات، والحضارات، والموضة، مدينة ذات تركيبة سحرية، جعلت منها مقصداً سياحياً وثقافياً غنياً، على مدار عقود. اليوم، نمشي في شوارع بيروت صباحاً، لنجدها فارغةً، يقف سكانها أمام طوابير البنزين ساعاتٍ طويلة، وليلاً نجدها في ظلمة حالكة بعد انقطاع الكهرباء، وغلاء المازوت، إذ ينام سكانها باكراً، وتصبح شوارعها هادئة ساكنة. أين بيروت المدينة الصاخبة؟

منذ اندلاع ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، توالت الأزمات على هذه المدينة. فمع بداية عام 2020، عانى لبنان من انهيار اقتصادي كبير، ثم إغلاق عام شلّ حركة المدينة، بسبب جائحة كورونا، وفي 4 آب/ أغسطس 2020، أدى انفجار مرفأ بيروت إلى تفاقم هذه الأزمات، وترك في قلوب سكان المدينة ندبة ألم ترافقهم كل يوم، وتبدو جلية على ملامح وجوههم المتعبة، وقلوبهم المثقلة بالهموم.

تدهور الصحة النفسية لا يميز بين لبناني/ ة، وسوري/ ة، والضغوط النفسية لا تفرّق بينهم بسبب الجنسية.

وهؤلاء السكان ليسوا من اللبنانيين فحسب، فبيروت تحتضن آلاف المغتربين، معظمهم من اللاجئين السوريين، فهناك ما يقارب 195 ألف سوري مسجل لدى مفوضية الأمم المتحدة، يعيشون فيها، ويشاركون أهلها أفراحهم، وآلامهم. هل يمكننا اليوم أن نميّز بين لبناني/ ة يعاني من الاكتئاب، وسوري/ ة مقيم/ ة في لبنان، ويحمل ذاكرة مليئة بالألم الذي يرافقه/ ا منذ اندلاع الحرب في بلده/ ا؟ حسب استطلاع أجرته منظمة اليونيسيف، بعد أيام من انفجار بيروت، أكثر من 50% من الأطفال اللبنانيين، لديهم أعراض صدمة نفسية، وتشير دراسة أخرى إلى أن واحداً من كل أربعة لاجئين سوريين في لبنان، يعاني من الاكتئاب، وتقول ثالثة بأن اثنين من كل ثلاثة أشخاص، يسعيان إلى الحصول على دعم نفسي من منظمة أطباء بلا حدود في لبنان، ويعانيان من اكتئاب وقلق.

تدهور الصحة النفسية لا يميز بين لبناني/ ة، وسوري/ ة، والضغوط النفسية لا تفرّق بينهم بسبب الجنسية.

HAY - How Are You؟

هو مشروع اجتماعي نشأ عام 2020، كمبادرة شبابية من خمسة شباب/ ات سوريين/ ات ولبنانيين/ ات في لبنان، التقوا خلال دراستهم في الجامعة الأمريكية في بيروت، واجتمعوا على اهتمامهم بمعاناة سكان لبنان في السنوات الأخيرة.

يهدف هذا المشروع غير الربحي، إلى نشر الوعي حول موضوع الصحة النفسية، وتقديم جلسات دعم وعلاج نفسي جماعي بتكاليف منخفضة جداً (15 دولاراً لجلسات الدعم النفسي، و25 دولاراً لجلسات العلاج على سعر الصرف 3900 ليرة لبنانية، في حين يبلغ سعر السوق السوداء نحو 18 ألفاً)، ليتمكّن الجميع من الاستفادة من خدماتهم، بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية، بالإضافة إلى القيام بندوات مجانية عبر الإنترنت، لمناقشة مواضيع متعلقة بالصحة النفسية، منها الاكتئاب، والقلق، والوسواس القهري، وثنائي القطب، واضطراب ما بعد الصدمة.

 "هاي... كيفك؟"... لبنانيون وسوريون يتحدثون معاً عن صحتهم النفسية

وساهم المشروع في نشر الوعي، من خلال منشورات تتحدث عن الصحة النفسية، في ظل التعليم عن بعد، والظروف الاقتصادية الصعبة، واضطراب ما بعد الصدمة بعد انفجار مرفأ بيروت، بالإضافة إلى تسليط الضوء على بعض الأمراض النفسية الشائعة، وكيفية التعامل معها، وذلك بالاعتماد على حملات إعلامية عبر مواقع التواصل، وندوات مجانية عبر الإنترنت.

وحالياً، اتّفق فريق المبادرة مع خبير مختص، ليشرف على جلسات علاج جماعي عبر الإنترنت، وتم اختيار المجموعة الأولى للمشاركة في أول جلسة، وموضوعها "الاكتئاب". أما في ما يتعلق بالدعم النفسي، فيسعى الفريق إلى العمل مع شركات، أو جمعيات، لتوفير جلسات دعم نفسي للموظفين، بهدف توفير بيئة عمل أفضل.

"لا أحكام مسبقة هنا"

"كل يوم، يعاني اللبنانيون والسوريون هنا، على حد سواء، من تحديات وصعوبات جديدة تنعكس على صحتهم النفسية"، تقول فاطمة (24 عاماً)، وهي صاحبة فكرة مشروع HAY، وواحدة من مؤسسيه، وقد فضّلت استخدام اسمها الأول فحسب.

تضيف الشابة، وهي لبنانية الجنسية، وتملك خلفية علمية بالصحة النفسية، أن العمل الجماعي، والتلاقي الفكري، ساهما في كسر الأحكام المسبقة كلها، لدى أعضاء الفريق، وهم من بلدَين مختلفين، لكن جمعتهم بيئة اجتماعية واحدة، وأيضاً المشكلات نفسها التي يعملون لحلها. "وجود غاية مشتركة، وهدف مشترك، يكسر الحواجز الوهمية حول الجنسية، والخلفية الاجتماعية، عند أعضاء الفريق".

 "هاي... كيفك؟"... لبنانيون وسوريون يتحدثون معاً عن صحتهم النفسية

ومن خلال المشروع، تعمل فاطمة مع الفريق، لنشر الوعي بين سكان لبنان كافة، والتأكيد على أن الاضطرابات النفسية من المتوقع أن تتفاقم بعد الأزمات، والخطوة الأولى هي عبر محاربة الوصمة المحيطة بالصحة النفسية، من خلال الحديث عن هذه المشكلات بأريحية، وتشجيع كل من يواجه أي مشكلة، للبحث عن سبل دعمٍ وعلاجٍ عند الحاجة، وأن الحاجة إلى طبيب نفسي لا تقل عن الحاجة إلى أي طبيب آخر. كما أكدت فاطمة أن جلسات الدعم، أو العلاج النفسي الجماعي، قد أثبتت فعاليتها بحسب دراسات عالمية، كونها تخلق مساحة آمنة لأشخاص يمرّون بظروف متشابهة، ومن فئات عمريّة متقاربة، لمشاركة مشكلات مشتركة.

وفي هذا السياق، ومن خلال استطلاع رأي إلكتروني وُزّع بشكل عشوائي، وشمل ما يقارب 65 شخصاً مقيماً في لبنان، 40% منهم من الجنسية السورية، و45% من الجنسية اللبنانية، و15% من الجنسية الفلسطينية، فإن أقل من 28% من المستجيبين/ ات محاطون ببيئة داعمة لصحتهم النفسية، وأكثر من 70% منهم يشعرون بالخوف والقلق، أو يفضّلون عدم التطرق إلى الحديث عن صحتهم النفسية أمام الآخرين.

وعند السؤال عن الأسباب التي تمنعهم من المشاركة في جلسات علاج، أو دعم نفسي، كانت عدم القدرة على دفع كلفة الجلسة (ما يقارب 400 إلى 600 ألف ليرة لبنانية)، هي السبب الأول، بالإضافة إلى أسباب أخرى، كعدم الشعور بالثقة، والراحة، للحديث مع معالِج نفسي، وأيضاً عدم تقبّل المجتمع لهذه الفكرة، والسبب الأخير يُعدّ عاملاً مهماً جداً.

يعمل المشروع لنشر الوعي بين سكان لبنان كافة، والتأكيد على أن الاضطرابات النفسية من المتوقع أن تتفاقم بعد الأزمات، والخطوة الأولى هي محاربة الوصمة المحيطة بالصحة النفسية، من خلال الحديث عن هذه المشكلات، وتشجيع الناس للبحث عن سبل دعمٍ وعلاجٍ عند الحاجة

وحسب ناشطين مجتمعيين في مناطق خارج بيروت، مثل البقاع وطرابلس وعكار، فإن الحصول على جلسات علاج نفسي صعب جداً، سواء للمواطنين، أو للّاجئي،؛ لعدم توافر هذه الخدمات في تلك المناطق، في المراكز الصحية، أو المنظمات المجتمعية، والمبادرات التي تعمل معهم على حدّ سواء، بالإضافة إلى الكلفة الباهظة التي يتقاضاها الأطباء النفسيون في عياداتهم، مقابل الاستشارة، إن وُجدوا، والأهم أنّ معظم الأفراد يلتفتون في يومياتهم إلى الحاجيات الأساسية، من دون النظر إلى أهمية الصحة النفسية، وتأثيرها على حياتهم، وعملهم، وتعاملهم مع المحيط، ومستوى إنتاجيتهم.

 "هاي... كيفك؟"... لبنانيون وسوريون يتحدثون معاً عن صحتهم النفسية

"اجتمعنا باختلافاتنا لمصلحة المشروع"

مصطفى علوان، هو شاب سوري عشريني من محافظة إدلب، ومقيم في لبنان منذ عام 2012، واليوم هو مسؤول عن التسويق لمشروع HAY، يقول لرصيف22: "التناغم والعمل الدائم لأعضاء الفريق، ساهما في اندماجي مع أهداف المشروع، على الرغم من خلفيتي البعيدة عن موضوع الصحة النفسية، واستطعنا أن نجمع خلفياتنا المختلفة، ونستفيد منها، بما يصب في مصلحة المشروع". كما أكد مصطفى أن أهم أسباب نجاح المشروع، هو كونه مشروعاً اجتماعياً بعيداً البعد كله عن خدمة مصالح شخصية، أو السعي إلى ربح مادي.

بالنسبة إلى تصاميم المنشورات على صفحات التواصل الاجتماعي، فقد استخدم مصطفى مهاراته في فنَّي "الكولاج"، و"البوب آرت"، مع نكهة عربية خاصة لطالما عمل عليها من خلال صفحته التي ينشر فيها تصاميم تعبّر عن قضايا عربية. بالنسبة إلى HAY، يقول مصطفى: "كانت العملية أشبه بتحويل رسائل الصحة النفسية، والتوعية، والمواضيع المعقدة، إلى قطع فنية بسيطة قد تلامس أي شخص. وخلال بضعة شهور من العمل على المنصة، استطعنا الوصول إلى أكثر من 11 ألفاً من المتابعين عبر إنستغرام فقط. بهذه الطريقة، خلقنا الثقة والحضور للمبادرة بين أوساط المجتمع المقصود، وعملية البناء والعمل الآن أصبحت نوعاً ما أسهل".

"يحتاج المقيمون في لبنان جميعهم، اليوم، بغض النظر عن جنسياتهم، إلى الحديث عن الصحة النفسية. كيف يمكن لآلة أن تعمل بلا كهرباء؟ وكذلك البشر لا يستطيعون العمل والاستمرار في النمو بلا روح مسالمة، ونفسية راضية"

ويبدو أن من أهم أسباب التفاعل وردود الأفعال الإيجابية على المنصة، هو استخدامها لغة شعبية عامة، والجرأة في طرح مواضيع تلامس الحياة اليومية لمعظم متابعيها، بالإضافة إلى التصاميم التي تحتوي تجسيداً بصرياً للرسائل والسرديات عن الصحة النفسية.

"تجعل الحديث عن الصحة النفسية من المسلمات"

محمود قانصو، مهندس مدني من مدينة حمص، وأحد الأشخاص الذين شاركوا في الندوات التي قدمتها HAY، أكّد خلال مقابلة معه على حاجة المقيمين في لبنان جميعهم، اليوم، بغض النظر عن جنسياتهم، إلى الحديث عن الصحة النفسية. يقول: "كيف يمكن لآلة أن تعمل بلا كهرباء؟ وكذلك البشر لا يستطيعون العمل والاستمرار في النمو بلا روح مسالمة، ونفسية راضية". ومن خلال هذه الندوات، ازداد اهتمامه بموضوع الصحة النفسية، وتوضحت مفاهيم مبهمة كثيرة لديه، في هذا السياق.

وبالحديث عن رأيه بمنشورات الصفحة، يقول: "تقديم الرسائل على مواقع التواصل الاجتماعي يؤثر بشكل مباشر، وغير مباشر، على عقلياتنا، ونفسياتنا. توضيح هذه القضايا على هذه المنصات، يزيد الوعي، ويجعلها من المسلمات شيئاً فشيئاً".

وعند سؤال محمود عن أكثر شيء أثر فيه خلال هذه الندوات، قال إنه داء الحنين، أو ما يُسمّى بالنوستالجيا. فخلال إحدى الجلسات، تحدث الخبير عن هذه الظاهرة التي لمست محمود على الصعيد الشخصي، فاستطاع فهم وربط ثغرات الماضي المؤثرة بشكل دائم على نفسيته، وربطها بالحاضر والمستقبل، وفتحت أمامه السبل لتفسير أمور لطالما شغلت ذهنه باستمرار، وأكدّ أن وعيه في هذه المسألة، جعله قادراً على صبّ تركيزه على الحاضر، لبناء مستقبل يدفعه إلى الأمام، ويحرّره من عُقد الماضي.

اللافت للانتباه هنا، هو أن محمود محبٌ للكتابة، وقد أنشأ صفحة على إنستغرام باسم "ذاكرة12"، متأثراً بتلك الندوة، ليشارك من خلالها بعض القضايا والأحداث، الماضية والحاضرة، التي أثّرت على نفسيّته، سواء سلباً، أو إيجاباً.

 "هاي... كيفك؟"... لبنانيون وسوريون يتحدثون معاً عن صحتهم النفسية

بشكل مشابه، يبدو واضحاً من العديد من التعليقات على منشورات مبادرة HAY، تأثيرها في شرائح مختلفة ضمن المجتمع اللبناني، وهو ما هدف إليه مؤسسوها منذ البداية.

اليوم، في لبنان، أصبحت حاجات الإنسان الأساسية من ماء، وكهرباء، وبنزين، ودواء وغيرها، رفاهيةً، وأضحى الجميع، على اختلاف الجنسية، والطبقة الاجتماعية، سواسية أمام الأزمة وتداعياتها، ولربما ساهم مرورهم بظروف مشابهة في ردم الفجوة بينهم، إلى حد ما، وقد يكون دعم بعضنا البعض، وتساندنا من خلال مبادرات مشابهة لما يقوم به فريق HAY، أقصى ما يمكننا القيام به، للتخفيف من وطأة ما نعيشه، على أمل أن تضجّ بيروت بالحياة والحيوية، مرة أخرى.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image