الوزير الانتقالي والمخيال الطائفي... أزمة التمثيل الثقافي في

الوزير الانتقالي والمخيال الطائفي... أزمة التمثيل الثقافي في "سوريا الجديدة"

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الجمعة 11 يوليو 20258 دقائق للقراءة

في المجتمعات الخارجة من رحم صراع، تشكّل اللحظة الثقافية نقطةً مركزيةً في صياغة أفق وطني جامع. فالهوية تُبنى في المساحات الرمزية التي تنتج خطاب الانتماء، وتُعيد تعريف الذات الجمعية بوصفها مشروعاً لاكتساب الشرعية الأخلاقية والمعنوية.

في التاسع من تموز/ يوليو الجاري، تصدّر مواقع التواصل الاجتماعي مقطع مسجّل في وقت سابق لوزير الثقافة السوري الانتقالي، محمد ياسين صالح، ظهر فيه وهو يُطلق خطاباً مشحوناً بالدلالات الطبقية والطائفية.

حين يصعد شخص إلى موقع المسؤولية العامة، فإنه يصبح حاملاً لرمزية ما يُفترض أن يُنتجها المجتمع من قيم ومعانٍ، وتتحوّل كلماته، حتى لو قيلت سلفاً، إلى عدسة كاشفة للعقل الذي سيتحكّم في صياغة الخطاب العام. هذا ما حدث تماماً حين أُعيد تداول مقطع وزير الثقافة الانتقالي، والذي أطلق فيه خطاباً مشبعاً بنبرة طبقية وطائفية فجّة، يُصنّف فيه مكوّناً سورياً كاملاً -أي العلويين- بين فئتين: "فئة الخدم" أو "فئة المجرمين".

مقطع وزير الثقافة السوري انفجر في وعي السوريين لأنه طرح سؤالاً وجودياً: هل بهذا الوعي نبني بلداً مدمّراً، مفككاً، ومنهكاً اجتماعياً وهوياتياً؟ وهل يمكن لخطاب كهذا أن يُنتج عقداً وطنياً جامعاً في سوريا جديدة يُفترض أنها تنطلق من أنقاض الاستبداد والطائفية؟

في مواجهة هذا المسار، برزت أصوات عديدة استدعت إرثاً ثقافياً سورياً عميقاً ومتجذّراً في التنوع، مؤكدةً أنّ الطائفة التي وُجِّه إليها الخطاب التحقيري، أسهمت في صناعة المشروع الثقافي السوري من جذوره. ويمكن هنا أن نُعيد إلى الواجهة أسماء راسخةً في الذاكرة السورية: سعد الله ونوس، بدوي الجبل، أدونيس، حيدر حيدر، وممدوح عدوان، بوصفهم صنّاع هوية وطنية ثقافية تجاوزت المذاهب والأعراق، ورسّخت سوريا بصفتها فضاءً للمعنى.

مقطع الفيديو ما كان له أن يثير كل هذه الضجة لو لم يُصبح صاحبه مسؤولاً عن وزارة يُفترض بها أن تكون قلب المشروع الوطني الثقافي. المقطع انفجر في وعي السوريين لأنه طرح سؤالاً وجودياً: هل بهذا الوعي نبني بلداً مدمّراً، مفككاً، ومنهكاً اجتماعياً وهوياتياً؟ وهل يمكن لخطاب كهذا أن يُنتج عقداً وطنياً جامعاً في سوريا جديدة يُفترض أنها تنطلق من أنقاض الاستبداد والطائفية؟

خطر إعادة إنتاج الذهنية الإقصائية

ما يثير القلق في هذه الواقعة، هو ما يحمله مضمون التصريح من بنية فكرية مُضمَرة تفضح هشاشة الخطاب الوطني لدى بعض نخب السلطة الانتقالية. فبدلاً من خطاب جامع، ينطلق من مفهوم المواطنة، سمعنا خطاباً يُعيد تقنين الناس وفق هويتهم، ويحوّل الانتماء إلى امتحان إذلال.

هذا يُشير إلى ظاهرة خطيرة تُهدّد أي مسار انتقالي، في حال استمرار الطبقة السياسية في العمل بوصفها ناطقةً باسم طائفتها أو طبقتها أو شريحتها الاجتماعية، وليس باسم الوطن. وهنا تتكرّر مأساة الدولة الزبائنية، التي نبّه إليها المفكّر الدستوري اللبناني ميشال شيحا، الذي رأى أنّ الدولة القائمة على التمثيل الطائفي والمحاصصة تُقوّض مبدأ المواطنية، وتحوّل التمثيل السياسي إلى لعبة توازنات هوياتية، لا تعترف بالفرد بوصفه حاملاً لحقوق متساوية، بل كجزء من كتلة تُفاوض على مصالحها داخل دولة بلا مشروع وطني موحِّد.

لطالما اختُزل النقاش حول الطائفية في بعدها الهوياتي، بوصفها انتماءً ضيقاً أو شعوراً ثقافياً مشبعاً بالعصبية والانغلاق. غير أنّ هذا التبسيط يحجب بُعداً أكثر خطورةً، يتمثل في التحول الوظيفي للطائفية إلى ممارسة إدارية مؤسساتية، تُعيد إنتاج التفاوتات والامتيازات من داخل أجهزة الدولة، ودون الحاجة إلى إعلان صريح للانحياز أو التمييز.

الجدل الذي أثاره حديث وزير الثقافة السوري كان نابعاً من الرمزية العميقة التي اكتسبها هذا الخطاب بانتقال صاحبه من موقع فردي إلى موقع تمثيلي رسمي في قلب المؤسسة الثقافية للدولة، وإعادة تداوله بمثابة نافذة على نمط تفكير قد يتحوّل إلى ممارسة مؤسّسية تُعيد إنتاج منطق الطائفية داخل أجهزة الدولة

فالطائفية هنا لا تعلن عن نفسها كبرنامج أيديولوجي، بل تشتغل عبر بُنى التعيين والتوزيع والتمثيل الرمزي، فتتحوّل إلى نمط اشتغال يومي صامت، تُدار به الدولة من الداخل وتُقسَّم به الموارد، وتُحدَّد عبره الحدود غير المرئية لمن يستحق أن يكون في "المركز" ومن يُدفع إلى "الهامش".

كان الجدل الذي أثاره حديث وزير الثقافة الانتقالي نابعاً من الرمزية العميقة التي اكتسبها هذا الخطاب بمجرد أن انتقل صاحبه من موقع فردي إلى موقع تمثيلي رسمي في قلب المؤسسة الثقافية للدولة الانتقالية. وإعادة تداول المقطع على نطاق واسع تُقرأ كنافذة على نمط تفكير قد يتحوّل إلى ممارسة مؤسّسية تؤسس لعلاقات سلطوية غير معلنة، تُعيد إنتاج منطق الطائفية داخل أجهزة الدولة، من خلال السلوك الإداري، ورمزية الخطاب، وآليات توزيع الموارد والمكانة الرمزية.

ما كشفت عنه هذه اللحظة المجتمعية هو استشعار مبكّر لاحتمال أن تتحول الذهنية الإقصائية إلى سياسة ناعمة، تُعيد تصنيف المواطنين في الفضاء العام على أساس الهوية والولاء، وليس على معيار الكفاءة والمواطنة المتساوية.

هنا، يُمكن استدعاء مفهوم "الطائفية غير المعلنة" كما طوّره عالم الاجتماع الفلسطيني اللبناني، ساري حنفي، الذي بيّن كيف تتحوّل الطائفية في مرحلة ما بعد الحرب إلى نمط اشتغال داخلي في الإدارة، حيث لا يُقصى الأفراد عبر خطاب مباشر، وإنما من خلال الاستبعاد الصامت، الذي يتمظهر في شبكات النفوذ، وطرق التعيين، وخطابات الإقصاء الرمزية، وفي سياسات تمثيل لا تقوم على الكفاءة بقدر ما تقوم على الولاء الطائفي المستتر.

هذا الشكل من الطائفية هو الأخطر لأنه يُمارَس دون مواجهة علنية، ويُغلّف نفسه بمنطق "الكفاءة"، و"المصلحة العامة"، و"التمثيل المتوازن"، وهو ما يُفرغ مفهوم المواطنة من مضمونه، ويُحوّل الدولة إلى جهازٍ لإعادة إنتاج التفاوتات الهوياتية داخل بنية رسمية.

التمثيل الثقافي كوظيفة رمزية

في الأنظمة الانتقالية، يكون التمثيل الثقافي وظيفةً رمزيةً على قدر عالٍ من الحساسية، لأنه يتصل مباشرةً بإعادة إنتاج المعنى في مجتمع فقد بوصلته الأخلاقية والهوياتية. فالوزارة التي تُناط بها مسؤولية الثقافة، تُكلَّف بشكل أساسي بمساءلة السرديات العامة ونقد تمثيلاتها للهوية والانتماء، بما يضمن ألا تتحوّل الثقافة إلى سلطة تُعيد فرز الناس على أسس ضيقة، أو تُصنّف المواطنين بين من يُسمح له بالظهور في الفضاء العام، ومن يُقصى أو يُحجب بحجج أيديولوجية أو هوياتية. إذاً، المؤسسة الثقافية حين تنزلق إلى هذا الدور، لا تعود أداة توحيد، وتصبح آلية ترميز للإقصاء المقنّع.

وحين تتماهى الوظيفة الثقافية مع أداء يستبطن تمايزاً طائفياً أو تراتبيةً طبقيةً، فإنّ المؤسسة الثقافية تُفرّغ من بعدها التأسيسي وتُعاد صياغتها بوصفها أداة هيمنة ناعمة، تعمل على تشويه الذاكرة الجمعية. وهنا، لا يكون العنف مباشراً، بل يتموضع ضمن ما وصفه الفقيه الدستوري غوستافو زاغريبلسكي، بـ"سلطة الشرعية المقنّعة"، أي تلك التي تُنتج الإقصاء من خلال إعادة تعريف ما هو مقبول ومُمثّل، وما هو شاذّ أو خارج عن السردية العامة، باستخدام أدوات رمزية ولغوية تبدو حياديةً ومؤسساتية.

الثقافة السورية بحاجة ماسة إلى مشروع يقوم على تفكيك منطق الدولة الطائفية وليس إلى إعادة إنتاجه، والاحتفاء بالهوية المتعددة، وبناء خطاب إنساني جامع بعيداً عن أي سردية استعلائية تعاقب المختلف وتُكافئ المطيع

إن أحد أخطر الأوهام التي تزرعها الأنظمة الانتقالية الهشة، الاعتقاد بأن الثقافة مجرّد مسألة تقنية أو مساحة تكميلية داخل "هندسة الدولة الجديدة"، بينما الحقيقة أنّ ما يُعرّف المجتمع ويعيد تشكيل ذاكرته الجمعية في زمن ما بعد الاستبداد هي المؤسسات الرمزية؛ وعلى رأسها وزارة الثقافة بوصفها الجهاز الذي يُنتج الصورة المتخيلة للمواطن، ويضبط موازين الشرعية الرمزية داخل الفضاء العام.

من هذا المنطلق، لا تكفي إدانة الخطاب الطائفي أو الإقصائي الصادر عن مسؤول مثل وزير الثقافة -مهما كانت حيثيات المقطع المتداول- وإنما ينبغي تجاوز مستوى النقد الظرفي نحو تصوّر بديل للتمثيل الثقافي، قائم على فكرتين مركزيتين: التحرّر من النمط الوظيفي، وإعادة تأسيس معنى الثقافة كأداة مواطنية.

لقد كتب الباحث الفرنسي إيمانويل تود، عن "الهوية المفتوحة" كشرط ضروري لبناء مجتمعات متصالحة. وفي السياق السوري، فإنّ الهوية المفتوحة تعني الاعتراف بأنّ السوريين ليسوا كتلةً واحدةً، ولا طائفة واحدة، وإنما فسيفساء تاريخية اجتماعية يجب احتضانها.

وبدلاً من الحديث عن وطنية بمقاييس الطاعة، لا بد من إعادة تعريف الوطنية بوصفها الاعتراف المتبادل، والانتماء الطوعي، والإيمان بأنّ الكرامة لا تتجزّأ. 

من هنا، فإنّ الثقافة السورية بحاجة ماسة إلى مشروع يقوم على تفكيك منطق الدولة الطائفية وليس إلى إعادة إنتاجه، والاحتفاء بالهوية المتعددة، وبناء خطاب إنساني جامع بعيداً عن أي سردية استعلائية تعاقب المختلف وتُكافئ المطيع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image