في الخامس عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2025، التقط لي الطبيب في الممر الخاص بقسم العمليات في مستشفى العودة بالنصيرات، وسط القطاع، صورة رفقة طفلين وُلِدا للتوّ. ظهرتُ فيها بوجه ضاحك، كأن من يراها يظن أنني على وشك الانفجار فرحاً.
في الحقيقة كلما حدقت بالصورة أدركت فكرة فقدان الشعور والهوية. أنا عمة هذين الطفلين اللذين ولدا تواً، لم نحدد من منهما سيحمل اسم غيث وأيهما سيحمل اسم زياد. كلاهما بلا اسم، وأنا بلا شعور حقيقي. أشارك الصورة محاولة ترتيب الفوضى التي تعصف برأسي: إنه صباح الذكرى الثانية لخروجي من المدينة قبل عامين، تحديداً عند الساعة السابعة والنصف، وتعود إليّ الرعشة ذاتها التي نهشت جلدي يومها.
ارتعاشة
لم يكن الطفلان أول أحفاد العائلة، إذ إنني كنت في الرابعة عشرة حين قالت لي السيدة عند باب البيت: "مبروك".
ركضت تاركة حقيبة المدرسة لأتأمل كتلة اللحم الصغيرة، لأتأمل تلك الكتلة الصغيرة التي قيل لي إنها ابن أخي. فتح عينيه بينما أراقبه، وقلت له مازحة إن عليه أن يناديني باسمي. لم أكن أعرف كيف تكون العمّة ولا أدوارها أمام هذا الجسد الضئيل، وسط كل الأذكار والمباركات والاستعدادات، وحتى الروائح التي أصبحت جزءاً من طقوس استقبال المواليد، فالريحان كان دائماً حاضراً، نلتقطه من حديقة البيت وننثر أوراقه في ماء حمّام الطفل الأول، بينما كانت رائحة الشوربة بالهيل والغار تملأ البيت وترافق ذكرى كل مولود جديد.
كنت مثل المولود، أكتشف سرّ هذا الاحتفال وهذه الروائح التي تجوب البيت وابتسامات المباركات التي تستمر لأسبوع متواصل، ومن ثم تنقطع حتى تصل إلى أربعين يوماً.
ولد أول طفل للعائلة في مستشفى الشفاء في غزة، واليوم، أحمل طفلين ولدا للتو وارتعاشة جسدي لا تشبه تلك التي حملت فيها كل أطفال إخوتي المولودين جميعهم في المدينة بين شمالها وغربها، بين مستشفيي العودة والشفاء.
نظرت إلى وجهيهما وقلت: "أعتذر".لا أعرف كيف سيكبر هذان الصغيران في ظلّ أحلام متراكمة في قلب العائلة
وقفت في الممر لا أعرف إن كان ما أعيشه يتطلب الاعتذار أم الفرح، كانت الضحكة ردة فعل على مزاح الطبيب حين قال: "عمتهم، إذاً أذني في أذنيهم"، فضحكت وقلت: "بل سأعتذر لهما. أنا لا أعرف لأول مرة ما الذي عليّ فعله الآن أمام كتلتين من اللحم".
لم أعرف من سيحمل اسم غيث، وأيهما زياد، أتكهن ثم أغيب في صوت اعتذارات تدور في رأسي.
لقد ولدا في مستشفى يحمل نفس الاسم الذي ولد فيه كل أبناء عمومتهم وعماتهم، لكن أي اغتراب نهديهما إياه؟ أي عودة نقصد؟
نظرت إلى وجهيهما وقلت: "أعتذر".لا أعرف كيف سيكبر هذان الصغيران في ظلّ أحلام متراكمة في قلب العائلة.
كلما صرخ غيث باكياً، وهو إلى يساري، أقول له: "أعتذر"، وكلما صرخ زياد وهو إلى يميني، أكرر الاعتذار، فيضحك من حولي من هذياني.
"هل كل متألم قديس؟"
خرجت إلى القسم الخاص بالمبيت وأنا أحمل الصغيرين، في انتظار السماح لشقيقي بأن يدخل لاستلامهما، جلت بنظري على كل النساء اللواتي يسرن في الممر، ومع سماعي صوت سيدة تقرأ سورة مريم، سألت نفسي وأنا أتأمل النساء المتعبات: كم من "مريم" علينا الاعتذار لها اليوم؟
كانت تمر من أمامي نساء كثيرات والأوجاع تلتهم ملامحهنّ وهنّ ينتظرن الخلاص، بينما أنا تائهة الشعور، أنتظر أن تخرج زوجة أخي من غرفة العمليات لتحتفل بطفليها. تنهش الأسئلة رأسي مع أصوات تأوهات المتألمات في الممر: "هل نكتسب القداسة نحن النساء من الألم؟"، "هل كل متألم قديس؟".
في كتابها "كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها"، تحكي إيمان مرسال، عن فكرة فقدان الأم لهويتها بمجرد أن تصبح أماً، فتتوه ملامح تكوينها أمام هذه الكتلة التي تأكلها وجعاً ومن ثم تمشي برفقة حياة كاملة معها.
وتجمع الكاتبة صوراً متعددة للأم لتؤكد حالة القداسة التي تكتسبها النساء من أمومتهنّ: المرأة الأمريكية التي تحتضن طفليها المتضورين جوعاً بيأس وهم يهاجرون، والأم اليابانية التي تغسل طفلتها المحتضرة جراء تسممها بالزئبق، وحتى صور النساء الفلسطينيات في وداع أولادهنّ. لو كنت سأضيف صورة إلى كتابها فستكون صورة النساء اللواتي يمشين أمامي الآن وهنّ يشكون الألم.
تنهش الأسئلة رأسي مع أصوات تأوهات المتألمات في الممر: "هل نكتسب القداسة نحن النساء من الألم؟"، "هل كل متألم قديس؟"
بالعودة إلى المولودين، كانت بشرى الحمل بهما في أيام الهدنة في شباط/ فبراير 2025 وعاشا معنا اختفاء السكر والدقيق طوال شهور الحمل. في أحد الأيام، اتصلت أمهما تخبرني أن نبض أحدهما في خطر. ركضت يومها برفقة أخي نبحث عمّا ينقذ نبضاً لم نكن نعرف إلى من يعود.
هما الآن بين يديّ، يصرخان بانتظار السماح لأبيهما كي يدخل إلى قسم النساء بالمستشفى، بينما الطبيب المتدرب يستأذنني أن أسمح له بأن يقوم بالتكبير في أذنيهما. وافقت، إذ لا يهم أي صوت آذان سيطبع في ذاكرة الطفلين، الحقيقة أنني كنت أنا بحاجة لمن يرتب الفوضى في داخلي.
واصلت السيدة قراءة سورة مريم، وواصلت أنا الاعتذار لكل امرأة تمشي في ممر المستشفى. كانت معدتي تنقبض، وهو الألم ذاته الذي ينتابني كلما شهدت على ألم لا أقوى على دفعه، وتذكرت جملة أمي حين قالت: "عند الخطر، الإميات بتمنوا يرجعوا يخبوا ولادهن في رحمهنّ"، ولكنني سالتها: "كيف عليهنّ إعادة الألم مرات ومرات يا أمي؟".
من أين يا الله تمنح هذه القوة لكل القديسات في هذه البلاد؟
لماذا يجرؤ الألم علينا وحدنا؟
تتواصل فوضى الاعتذارات في قلبي بينما يبكي الصغيران بين يدي، كنت أعتذر لهما عن كل الروائح التي التصقت بمسام كل الصغار الذين سبقوهما في العائلة.
وقفت أمامهما ولاحظت أنهما لم يتعرفا بعد إلى رائحة الخبز في البيت، ولا إلى الشوربة، ولا حتى إلى الماء الذي يسكب عليهما، مررت رائحة الفانيلا في كأس الحليب وهمست:
هذه رائحة البيت.
رائحة البيت البعيد عنّا الآن.
رائحة الاحتفال بولادتهما.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



