"البايبي برّا"... هذا ما فعلته "الولادة المبكرة" بي

مدونة نحن والنساء

الاثنين 24 نوفمبر 20256 دقائق للقراءة

"البايبي برّا"، هذا ما قالته الممرّضة في غرفة الطوارئ، ببرودة تشبه صفعة لا صوت لها. جملة قصيرة خرجت من فمها بسهولة، لكنها سقطت فوقي بثقل موتٍ كامل. قالت الحقيقة كما هي، بلا تجميل، بلا طبابة لغوية.

في تلك اللحظة، انقسم الزمن نصفين. كنت أمشي باتجاه تشرين الثاني/ نوفمبر، الشهر الذي كانت ستولد ابنتي خلاله، الشهر الذي انتظرتُه كأنه بداية حياة جديدة، لكن تشرين الثاني/ نوفمبر وصل خالياً، ممتلئاً فقط بالغياب. وصل ومعه ما حاولتُ طوال الأشهر الماضية دفنه بالصمت، وتجاهله بالانشغال، وتمويهه بالعلاج والانضباط. وصل ومعه جملة واحدة لم تستطع الأيام محوها من رأسي: "البايبي برّا". جملة أنهت حُلماً، ومزّقت توقّعاً، وفتحت في داخلي باباً من الألم لم أعرف كيف أغلقه بعد.

محاولات الشفاء التي لا تنتهي

كانون الأول/ ديسمبر كان دائماً شهري المفضّل. شهر الأضواء والبرد والولادات الصغيرة التي تتسلّل مع رائحة الشتاء. هذا العام كان يفترض أن يكون الأجمل في حياتي. كان يفترض أن أُمسك طفلة بين يدي. أن أسمع صرختها الأولى. أن أشتري لها بطّانية سميكة، أضع لها قبّعة صوفية بيضاء وأراقب كيف يتورّد خدّاها مع أوّل نسمة باردة. يدخل ديسمبر عليّ أيضاً فارغاً، ثقيلاً.

"البايبي برّا"، هذا ما قالته الممرّضة في غرفة الطوارئ، ببرودة تشبه صفعة لا صوت لها. جملة قصيرة خرجت من فمها بسهولة، لكنها سقطت فوقي بثقل موتٍ كامل

ورغم كل ما فعلته لأصل إلى هنا سالمة، الجراحة التي أزلت فيها التشوّه في رحمي، العلاج النفسي الذي التزمت به بلا انقطاع، المهدئات، اليقظة اليومية، الكتابة الطويلة، محاولات الشفاء التي لا تنتهي، إلّا أن هذه الأشهر تضرب بقسوة لا تشبه أي شيء. لأن الحقيقة التي حاولت تجاهلها طوال الأشهر الماضية عادت وانفجرت في وجهي:

لقد كانت ابنتي موجودة.

10 سنتيمترات، جسداً كاملاً.

بشفاه.

بجفون.

بأصابع صغيرة.

بقدمين صغيرتين.

بجلد رقيق تستطيع أن ترى من خلاله عروقها.

وبحضور لم يستطع أحد أن يمحوه من ذاكرتي.

لا يهمّ كم حاولت ألا أكتب عنها، ألا أتخيّلها، ألا أتحدث عنها، ألا أمنحها اسماً أو ملامح أو مكاناً في حياتي.

أنا رأيتها، نعم، رأيتها ممدّدة على سرير الطوارئ البارد. رأيتها خارج جسدي، رأيتها وهي تُعامل كأنها "نسيج" أو "حالة"، بينما كانت بالنسبة إلي حياة كاملة توقّفت في منتصف طريقها إليّ.

ولادة بلا حضن

لا أحد يخبرك أنّ فقدان الجنين يمكن أن يكون ولادة. ولادة بلا حضن، ولادة بلا حياة.

ولا أحد يخبرك أنّ الولادة المبكرة يمكن أن تقتلك: جسدياً، ونفسياً، وهرمونياً، وعصبياً.

يمكن أن تقتل ثقتك بجسدك، يمكن أن تقتل إحساسك بالأمان، يمكن أن تتركك تائهة بين طبيبين وممرّضتين ونظام تأمين يسألك: "إجهاض أم ولادة مبكرة؟" وكأن الكارثة تحتاج تصنيفاً لتصبح حقيقية.

الولادة المبكرة، كما نعرفها نحن النساء، ليست حادثاً طبياً. هي حرب. جسد ينشقّ، ودم يتدفّق، وألم لا يُشبه أي ألم آخر.

هي غرفة طوارئ، وصرخة تخرج من مكان لا تعرفينه. هي نزيف يستمرّ لأيام، لأسبوع، لشهر. هي اختلال هرموني يحوّلك إلى شبح، وعقل يستعيد المشهد كل ليلة، وجسد يستمرّ في التصرف كأنّه ما زال حاملاً رغم أنّ كل شيء انتهى. ومع ذلك، لا أحد يراك. لا أحد يسمعك. ولا أحد يعترف بك كأم، لأنك عدتِ إلى البيت فارغة اليدين. 

الولادة المبكرة، كما نعرفها نحن النساء، ليست حادثاً طبياً. هي حرب. جسد ينشقّ، ودم يتدفّق، وألم لا يُشبه أي ألم آخر

لكن هذه الأشهر تعيد الحقيقة بلا رحمة. تعيد صورة شجرة العيد التي كنت سأزيّنها من أجلها. تعيد رائحة البطّانية التي اشتريتها مبكراً. تعيد كلّ ما كان يمكن أن يكون… ولم يكن. ما زلت أؤمن بالشفاء. وما زلت أقف كل يوم لأكمل الطريق الذي لم أختره، لكن الشفاء ليس بطولياً، ولا ثابتاً.

الشفاء هو أن تعترفي، أن تقولي الحقيقة كما هي. أن تعترفي بالألم، والذنب، والغضب، والغيرة، وتلك اللحظة التي يتوقف فيها العالم عندما يسألك أحدهم: "عندِك ولاد؟"، عن الصدمة التي تجتاحك عندما تتساقطين وكأنك كإمرأة تكملك الأمومة فحسب وأنتي تعرفين أن كل هذا غير صحيح. 

فقدان الجنين ليس "عطباً صغيراً"

لا أكتب عن الحزن أكتب عن حقيقة يجب أن تقال:

فقدان الجنين ليس "عطباً صغيراً"، ليس "علاقة لم تكتمل"، ليس "حدثاً يمرّ"، ليس "يلا بكرا بترجعي بتجربي"، ليس "مثل ما الله بريد"... إنه موت، وانقطاع، وتمزّق. وتجربة يمكن أن تترك المرأة على حافة الانهيار من دون أن يلاحظ أحد.

أنا هنا لأقول إنني نجوت، رغم أن لا أحد يعترف بأن هناك شيئاً يستحق النجاة أصلاً. ففقدان الجنين والولادة المبكرة، كما يصرّ الجميع، "تفصيل طبّي"، "عارض"، "حالة تمرّ". لكنني لم أنسَ. ولم أتجاوز. ولم أشفَ. أنا فقط أواصل الحركة كي لا أغرق. 

المجتمع يطلب الصمت، الطب يطلب التحمّل، والأصدقاء يطلبون "العودة إلى الطبيعي". ولا أحد يفهم أن "الطبيعي" سقط مع الطفلة. لم أتجاوز. ولم أشفَ. ولا أريد أن أشارك في المسرحية التي تُجمّل الحقيقة. 

فقدان الجنين ليس "عطباً صغيراً"، ليس "علاقة لم تكتمل"، ليس "حدثاً يمرّ"، ليس "يلا بكرا بترجعي بتجربي"، ليس "مثل ما الله بريد"... إنه موت، وانقطاع، وتمزّق. وتجربة يمكن أن تترك المرأة على حافة الانهيار من دون أن يلاحظ أحد

أكتب لأننا بحاجة إلى من يكتب عن كل هذا. عندما تفشل الدولة والمؤسسات التعليمية في تقديم التثقيف الجنسي والإنجابي الشامل، تُترك النساء وحيدات ليبحثن عن أسماء لآلامهنّ على الإنترنت. تخيّلت دائماً لبناناً آخر:

لبنان تتعلّم فيه الفتيات عن الرحم كما لو أنه خريطة، بجميع طبقاته واحتمالاته، لا كوحش يختبئ في داخلهن.

لبنان تعرف فيه الممرّضات في المدارس أن الألم الذي يشلّ فتاةً شهراً بعد شهر ليس "عادياً"، بل إنذار حيّ.

لبنان يملك خطاً ساخناً تصل إليه فتاة لا تعرف كيف تصف ما تشعر به، فتجد من يسمعها ويصدّقها.

لبنان لا يُجبر امرأة مثلي، محطّمة بخسارة لم تتوقّعها، على أن تقرأ أوراقاً طبية معقّدة لتفهم كيف خانها جسدها. 

هنا نخسر أطفالنا بالصمت قبل أن نخسرهم بيولوجياً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image