شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
قصيدة بدوي الجبل الشهيرة التي لم يقلها أبداً

قصيدة بدوي الجبل الشهيرة التي لم يقلها أبداً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 17 مارس 202211:33 ص


كنت وما زلت مديراً في صفحة تحمل اسم الشاعر السوري الشهير بدوي الجبل على موقع فيسبوك. ومنذ استلامي عمليات النشر في الصفحة عام 2013 وإلى الآن، كانت تردني رسائل كثيرة على بريد الصفحة، وقد تمحور بعض هذه الرسائل حول قصائد بدوي الجبل التي لم أقُم بنشرها بعد، وبعض آخر كان عبارةً عن أسئلة وتواريخ معيّنة أو أحداث جرت في حياة "محمد سليمان الأحمد"، وهو الاسم الرسمي للشاعر.

كانت غالبية الطلبات: "نرجو تكملة القصيدة لأننا لم نعثر لها على تكملة"، وكنت أجيبهم في سرّي: "ولا بعمركم رح تلاقوها".

لكن وبغرابة شديدة، كان نصف الرسائل التي تردني تقريباً، حول القصيدة التي قالها بدوي الجبل في الجامع الأزهر في مصر، وطبعاً كانت غالبية الطلبات: "نرجو تكملة القصيدة لأننا لم نعثر لها على تكملة"، وكنت أجيبهم في سرّي: "ولا بعمركم رح تلاقوها".

طبعاً، القصيدة المذكورة في ما سبق ما هي إلا خيال شعبي موروث عن حادثة خيالية جرت مع بدوي الجبل في أثناء وجوده في مصر بمناسبة إحدى الفعاليات الشعرية آنذاك، وكان من المقرر أن يلقي بدوي الجبل قصيدةً في الجامع الأزهر، ولكن قبل وصول الدور إليه، قام أحد الخبثاء بسرقة الورقة التي كتب عليها البدوي قصيدته كي يحرجه أمام الجمع الغفير، ولمّا صعد الشاعر إلى المنبر لم يجد قصيدته في جيبه، فقال مرتجلاً:

آهٍ على سكرةٍ في الأزهر

فهاج الجمع وماج من الغضب، إذ كيف لهذا الزنديق أن يذكر السُّكر والخمرة في حرم الجامع الأزهر؟ فقاطعهم بدوي مسرعاً ومكملاً:

من خمرة الله لا من خمرة البشر

طبعاً وهنا تنتهي القصة!! وتنتهي القصيدة العصماء المؤلفة من بيت واحد مكسور.

وقد بذلت جهوداً حثيثةً في إقناع المراسلين وزوار الصفحة بأن هذه الحادثة وهذه القصيدة الشوهاء لا تخص بدوي الجبل، ولا تمت إليه بصلة.

وكانت حجي أن العظماء دائماً ما تحاك عنهم القصص الخيالية تحبباً، وهذه إحداها، ولكن هالة التقديس التي تحيط ببدوي الجبل بين محبّيه حالت دون كسر هذه الشائعة.

كان من المقرر أن يلقي بدوي الجبل قصيدةً في الجامع الأزهر، ولكن قبل وصول الدور إليه، قام أحد الخبثاء بسرقة الورقة التي كتب عليها البدوي قصيدته كي يحرجه أمام الجمع الغفير، ولمّا صعد الشاعر إلى المنبر لم يجد قصيدته في جيبه، فقال مرتجلاً: آهٍ على سكرةٍ في الأزهر 

كنت أقول لهم إن البدوي أشرف على نشر ديوانه بنفسه قبل أن يموت، وكانت مقدمة الديوان من كتابة أكرم زعيتر الصديق المقرب إليه، فمن غير المنطقي أن يغفل البدوي وأكرم زعيتر عن ذكر هذه الحادثة أو حتى التلميح إليها لو أنها حصلت فعلاً.

ومن الحجج التي كنت أطرحها في نقاشي مع الناس أنه من المعروف أن بدوي الجبل كان حافظاً لشعره، وكان بكل بساطة يستطيع أن يحرج السارق ويلقي القصيدة غيباً من دون أن يضطر إلى ارتجال قصيدة مؤلفة من بيت واحد مكسور. وقد أيدني في هذا الطرح حفيد الشاعر وهو طبيب مقيم في فرنسا، وأخبرني أنه البدوي وبكل تأكيد، نفى له هذه الحادثة كما نفاها والده ابن البدوي.

ولكن، كل هذه النقاشات الطويلة لم تثمر شيئاً، وظلت هذه القصة محفورةً في الأذهان، وظلت الرسائل المطالبة بإكمال القصيدة تردني على بريد الصفحة، وبكل الحجج التي كان يقدّمها كل مصدق للقصة حول أنه سمعها عن أبيه وعن جده وعن أستاذ اللغة العربية...

هل يُعقل أن يكذب أستاذ اللغة العربية؟!

وبعد فترة من اليأس، لمعت في بالي فكرة معيّنة، وقلت لنفسي: "بما أن مستوى تصديق الشائعة عندنا نحن المشرقيون الغائصين في اللاهوت، واصلٌ إلى مرحلة متقدمة، فلم لا أقوم بتأليف شائعة أخرى مبنية على القصة القديمة، وسأقوم بنشرها في صفحة بدوي الجبل، وسأنفيها في منشور لاحق فوراً". وكان الرهان أن هذه الشائعة التي ألّفتها ستكون هي البديل عن الشائعة القديمة، وستصبح هي القصة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وعندما يحاججني أحدهم سوف أرجع إلى المناشير وأبرهن كذب شائعتي التي ألّفتها بنفسي.

قمت بإكمال بيت بدوي الجبل وإضافة بيتين من نظمي، وحاولت أن أقلّد ديباجته وأسلوبه -أنا الذي تشبّعت بأشعاره منذ الصغر- فقلت:

آهٍ على سكرةٍ في الأزهر العطر من خمرة الله لا من خمرة البشر
تسفي علينا بلا ذنْبٍ غوايتها وتستخفّ بشدو الطائر النضر
مرحى لثغرٍ على كأس يعاندني وألف مرحى لنار الطور والوَطَر

وقمت بنشرها على الصفحة، وقلت: "وأخيراً لقد عثرنا على تكملة الأبيات"، ثم نشرت تكذيب هذه القطعة في اليوم نفسه.

وبعد فترة من اليأس، لمعت في بالي فكرة معيّنة، وقلت لنفسي: "بما أن مستوى تصديق الشائعة عندنا نحن المشرقيون الغائصين في اللاهوت، واصلٌ إلى مرحلة متقدمة، فلم لا أقوم بتأليف شائعة أخرى مبنية على القصة القديمة، وسأقوم بنشرها في صفحة بدوي الجبل، وسأنفيها في منشور لاحق فوراً"

الآن، وبعد نحو ثماني سنوات من هذه الحادثة، إذا قمنا ببحث بسيط على محركات البحث عن هذه القصة، سوف نجد هذه الأبيات الثلاثة بعينها، منشورةً في جميع المواقع مع القصة الخيالية نفسها، ويحلف الجميع أغلظ الأيمان على أن هذه الأبيات قد قالها البدوي في الجامع الأزهر، وأنهم سمعوها بحرفيتها عن آبائهم وأجدادهم وأساتذتهم. ومن التعليقات الطريفة على هذا المنشور، تعليق لحفيد البدوي قال فيه: "والله لو قام البدوي من قبره وأقسم لهم بعظام رقبته أن هذه القصة كاذبة، وأنه لم يقل قصيدةً مؤلفةً من بيت واحد، لكذّبه البعض وقالوا له شو بيعرفك أنت!".

والمضحك في الأمر أن القصة التي يتم نشرها اليوم قد أضافوا إليها أبياتي، وأضافوا خاتمةً لها أكثر إثارةً، وهي قول البدوي عندما كان يروي القصة لأجدادهم: "والله لقد رأيت والدي الشيخ سليمان الأحمد متجلياً وماثلاً أمامي ويلقنني الأبيات على المنبر".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image