من فاتورة السوبرماركت إلى ثورة الذكاء الاصطناعي... هل نخرج من اللعبة؟

من فاتورة السوبرماركت إلى ثورة الذكاء الاصطناعي... هل نخرج من اللعبة؟

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 2 ديسمبر 20257 دقائق للقراءة

لا تدخل دكان الحيّ من دون أن تخرج منه غاضباً؟ أو تسحب بطاقة ائتمانك من آلة الدفع وأنت تردد في سرك: "شي مش معقول!"، ألا تشعر أن الحياة تزداد كلفة بينما راتبك يزداد تقلّصاً؟

هذا الغلاء المعيشي الذي نعيشه لم يعد مجرّد ارتفاع طارئ في الأسعار بل أشبه بكابوس اقتصادي مقيم، لكن خلف هذه الموجة التي تبتلع القدرة الشرائية وتُنهك الطبقات الوسطى، هناك سؤال مقلق بدأ يتسرّب إلى النقاشات الاقتصادية العالمية: هل ما نعيشه اليوم هو مجرّد أزمة مؤقتة أم أننا دخلنا بالفعل في نهاية اقتصاد الندرة، وبدأنا نخطو - دون أن ننتبه - نحو مستقبل أكثر ظلمة تقوده الآلات؟

في زمن يتسارع فيه تطوير الذكاء الاصطناعي وتُصاغ وعود بثورات إنتاجية، يزداد قلق الاقتصاديين: هل سيبقى الإنسان فاعلاً في منظومة العمل والإنتاج أم أن الذكاء الاصطناعي العام (AGI) سيكون نقطة التحوّل التي تستبدل العامل البشري وتتركه على قارعة الطريق؟

الغلاء…عابر أم مرحلة جديدة في النظام الرأسمالي؟

ما عاد الغلاء مجرّد خبر عابر في النشرات الاقتصادية إنما أصبح من صلب يومياتنا، يفرض نفسه في أدقّ تفاصيل الحياة: من الخبز إلى التعليم، من الطبابة إلى الإيجار، من التنقّل إلى حتى متعة كوب القهوة. كل شيء يتغير إلا المدخول.

يختلف الاقتصاديون حول تفسير ما يحصل لكن معظمهم يتفق على أننا نعيش لحظة غير مسبوقة في التاريخ الحديث: موجات متكررة من التضخم، ضعف في سلاسل الإمداد العالمية، تفكك اقتصادي بعد جائحة كورونا، أزمات طاقة وغذاء، حروب جيوسياسية وازدياد في ديون الدول، تقابلها أرباح فاحشة تحققها الشركات الكبرى.

هل ما نعيشه اليوم هو مجرّد أزمة مؤقتة أم أننا دخلنا بالفعل في نهاية اقتصاد الندرة، وبدأنا نخطو - دون أن ننتبه - نحو مستقبل أكثر ظلمة تقوده الآلات؟

في تقارير حديثة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، يُشار إلى أن التضخم الحالي لا يشبه التضخمات التي عرفناها في العقود الماضية، فهو ليس ناتجاً فقط من طبع النقود أو ارتفاع أسعار الطاقة، بل أيضاً من تحوّل عميق في بنية الاقتصاد العالمي وفي الطريقة التي تُدار بها الأسواق.

واحدة من الظواهر المستجدة تُعرف باسم لتضخم الناتج من الجشع" (Greedflation)، حيث تستغل الشركات الكبرى حالة الهلع الاقتصادي لرفع الأسعار بشكل غير مبرر وتحقيق أرباح تفوق المعدلات الطبيعية بذريعة "التضخم العام".

هذا النوع من التضخم لا ينعكس فقط على الفاتورة الشهرية بل على شعور الناس بالأمان الاقتصادي ويؤسس لانعدام ثقة أعمق بين الأفراد والمؤسسات المالية، في عالم باتت فيه الأسواق تُدار بالخوارزميات، وتُسوّق فيه الأزمات كما تُسوّق المنتجات.

ولكن، إذا كانت الرأسمالية في مراحلها السابقة تستند إلى مبدأ الندرة وتوافر العمل، فماذا سيحدث حين تدخل منظومة جديدة تُهدّد هذين المبدأين معاً؟

تضخّم أم تحوّل جذري في الاقتصاد العالمي؟

وفقاً لتفسير مبسّط قدّمته قناة Kurzgesagt في فيديو تحليلي بعنوان لماذا أصبح كل شيء غالياً؟ فإن الغلاء الذي نشهده اليوم ليس مجرد نتيجة لسلسلة من الأزمات، بل قد يكون مؤشراً على تحوّل هيكلي عميق في النظام الاقتصادي العالمي.

الفيديو هو عبارة عن حديث معمّق مع ديميس هاسابيس، المدير التنفيذي لـ Google DeepMind، الذي لا يكتفي بتحليل أسباب الغلاء من زاوية التضخم أو السياسة النقدية، بل يذهب إلى ما هو أبعد: يساءل البنية الاقتصادية العالمية ويتأمّل في مستقبل البشرية في ظل ثورة الذكاء الاصطناعي.

في دقائقه العشرين، ينجح الفيديو في فتح أبواب أسئلة كبرى: هل العالم يزداد غلاءً أم أن القيمة الحقيقية للعملة والإنسان تتآكل؟ هل سيأتي يوم تصبح فيه وفرة السلع بلا معنى لأن الإنسان نفسه لم يعد ضرورياً في معادلة الإنتاج؟

ويحذّر ديميس من أن الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام (AGI) قد لا يؤدي بالضرورة إلى وفرة تحرّر الإنسان بل إلى نظام تُدار فيه كل أشكال الإنتاج والتوزيع دون الحاجة إلى البشر، مما يعمّق أزمة الهوية والوظيفة والقيمة.

هل الذكاء الاصطناعي سيحلّ المشكلة أم سيعمّقها؟

حين تشتد الأزمات، قد نفكر بأن "التكنولوجيا ستنقذنا". هكذا قيل عن الإنترنت، عن الطاقة النظيفة، عن الثورة الرقمية، وهذا ما يُقال اليوم عن الذكاء الاصطناعي، لكنّ ما يلوح في الأفق ليس ذكاءً اصطناعياً محدوداً كما نعرفه الآن، بل ذكاء اصطناعي عام (AGI)، أي قدرة تقنية تفوق الذكاء البشري، وتُحاكيه في التعلّم والتحليل واتخاذ القرار.

في حال وصلنا فعلاً إلى AGI خلال العقود القادمة، فإن النظام الاقتصادي العالمي سيواجه انقلاباً جذرياً على 3 مستويات:

-لم تعد هناك حاجة لتوظيف البشر في كثير من القطاعات.

-الإنتاج قد يصبح شبه مجاني، والزمن اللازم للابتكار شبه معدوم.

-الشركات العملاقة قد تستغني كلياً عن "الكادر البشري"، وتدار بأنظمة ذكية مغلقة.

على الورق، يبدو هذا وكأنه وعد بتحرير الإنسان من العمل، من الروتين، من الوظائف المرهقة، لكن في الواقع، يُحذر اقتصاديون من أن الوصول إلى AGI في بيئة رأسمالية غير منضبطة، قد يؤدي إلى تراكم الثروة في أيدي قِلّة تمتلك التكنولوجيا وتُقصي الآخرين من دورة الإنتاج والقيمة.

لن تعود المشكلة "كم راتبك؟" بل "هل لك مكان أصلاً في هذا النظام؟".

وإذا كان الغلاء اليوم يُشعرنا بالعجز، فإن مستقبلاً تديره الآلات قد يُشعرنا باللاجدوى.

الإنسان في اقتصاد ما بعد الندرة: حلم اليوتوبيا أم كابوس الديستوبيا؟

غالباً ما ارتكز الاقتصاد على مبدأ الندرة: الموارد محدودة، والعمل ضروري، والسلع لها قيمة لأنها نادرة، لكن مع الذكاء الاصطناعي العام، قد نصل إلى واقع تُنتَج فيه السلع والخدمات بوفرة مفرطة، بسرعة غير مسبوقة، وبتكلفة تقترب من الصفر.

هذا ما يُعرف نظرياً بـ"اقتصاد ما بعد الندرة"– حيث يصبح بإمكان البشرية، للمرة الأولى، أن تعيش بلا فقر وبلا مجاعة، بلا عمل قسري. حلم يشبه اليوتوبيا، يُبشّر بعالم تُدار فيه الحياة بالذكاء وتُوزَّع فيه الموارد بعدالة ويتفرّغ فيه الإنسان للإبداع والتعلّم والعيش.

لكن الحلم قد لا يصمد كثيراً أمام الحقائق السياسية والاقتصادية الراهنة.

قد نعيش ونرى أياماً لا يعود فيها العمل ضرورة، لكن من قال إن الحياة ستكون أكثر عدلاً حينها؟

فمن يمتلك أنظمة الذكاء الاصطناعي؟ من يكتب شيفراتها؟ ومن يتحكّم بالبيانات التي تغذيها؟ وهل في عالم يُدار اليوم على إيقاع الأسواق والشركات العابرة للحدود، يمكن حقاً تخيّل توزيع عادل للثروة الجديدة؟

السيناريو الموازي – وربما الأرجح – هو ديستوبيا ناعمة، أي أن تستولي قلّة على أدوات الإنتاج الذكية، وتُحكم قبضتها على الاقتصاد، فيما يُقصى معظم البشر إلى هامش الحياة: بلا وظائف، بلا قدرة على المنافسة، وبلا صوت في قرارات المستقبل.

وللأسف في هذا السيناريو، لا يصبح الغلاء هو الخطر الأكبر، بل تآكل قيمة الإنسان نفسه.

في غمرة الغلاء، نخاف على لقمتنا اليومية. وفي ظل الذكاء الاصطناعي، قد نخاف على دورنا في الوجود.

الأسعار التي ترتفع اليوم ليست سوى الجزء الظاهر من جبل جليدي أعمق، وراءها تتشكل ملامح نظام اقتصادي جديد: أقل حاجة إلينا وأكثر قدرة على الاستغناء عنا.

قد نعيش ونرى أياماً لا يعود فيها العمل ضرورة، لكن من قال إن الحياة ستكون أكثر عدلاً حينها؟ فيا للأسف، قد يصبح كل شيء متوافراً إلا الحق في أن نكون جزءاً من اللعبة.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image