هل خنتُ أهلي عندما نجوتُ من الإبادة؟

هل خنتُ أهلي عندما نجوتُ من الإبادة؟

مدونة نحن والمشرّدون

السبت 29 نوفمبر 20256 دقائق للقراءة

عندما خرجتُ من غزة عام 2021، غمرتني سعادة النجاة، واعتقدتُ أنني سعيد الحظ، فأكبر سجنٍ مفتوحٍ في العالم أصبح خلفي. ولكن لم يمرّ وقتٌ طويل، حتى اكتشفتُ أن هذه النجاة ليست خلاصاً، بل عبئاً ثقيلاً أصبح يرافقني أينما كنت. ومع بدء حرب الإبادة عام 2023، تحوّل هذا العبء إلى شيء يُشبه الخيانة، فمنذ سالت أول قطرة دمٍ من أهلي، أصبحت حياتي لا تُطاق، وبدأت أسئلة كثيرة لا تفارقني: لماذا نجوتُ أنا بالذات؟ ولماذا أعيش بينما على غيري أن يموت؟ ألم تكن لي حصّة واضحة من هذا الموت؟ ألم يكن غيري أحقّ بأن ينجو من المذبحة؟

ومع كلّ يومٍ يمرّ، كانت هذه الأسئلة تتحوّل إلى سكاكين لا تتوقف عن ذبحي. كما باتت نجاتي تتعرّى أكثر أمامي، حتى تيقّنتُ أنها ليست بطولة على الإطلاق، بل صدفة قاسية تنغّص عليّ حياتي. صدفة جعلتني أشاهد أهلي وأصدقائي يموتون على التلفاز والهاتف، وأنا لا أستطيع إنقاذهم، حتى إنني أمارس حياتي العادية وكأنّ شيئاً لا يحدث. وهذا بالضبط ما حوّل نجاتي إلى ذنبٍ لا يُحتمل.

لماذا أشعر أنني خنتُهم؟

لستُ خائناً، ولم أتوقف طوال عامين عن الكتابة عنهم، وعن نشر معاناتهم والحديث عن مآسيهم أمام الناس هنا وهناك. كما أنني بكيتُ على كلّ شهيدٍ سقط، وكلّ بيتٍ تهدّم، وكلّ شارعٍ لم يعد يُعرف أوله من آخره. وحاولتُ بكلّ ما فيّ من طاقة أن أواسيهم بالقول والفعل. صحيحٌ أنني في كثير من الأحيان لم أجد ما أقوله أو أفعله أمام موتهم وجوعهم وخوفهم، ولكنني على الأقل كنتُ أحاول فعل شيء، أيّ شيء.

عندما خرجتُ من غزة عام 2021، غمرتني سعادة النجاة، فأكبر سجنٍ مفتوحٍ في العالم أصبح خلفي. ولكن لم يمرّ وقتٌ طويل، حتى اكتشفتُ أن هذه النجاة ليست خلاصاً... يبدأ الأمر منذ اللحظة الأولى التي أستيقظ فيها من النوم، حيث أسأل نفسي: تُرى مَن منهم لن يستيقظ بعد اليوم؟

فلماذا إذن أشعر أنني خنتُهم؟ وأنّ حياتي استمرت على حساب حياتهم؟ ولماذا تحوّلت نجاتي التي فرحتُ بها يوماً إلى ذنبٍ شرس لا يتوقف عن ملاحقتي في كلّ لحظة؟ حتى إن كل ما أكتبه وأقوله، وكل محاولة مواساة قمتُ بها، لم تعد كافيةً لهزيمة هذا الذنب. وكأنّ النجاة ذاتها تحوّلت إلى عبءٍ يومي لا يمكنني التخلص منه.

يبدأ الأمر منذ اللحظة الأولى التي أستيقظ فيها من النوم، حيث أسأل نفسي: تُرى مَن منهم لن يستيقظ بعد اليوم؟ مَن منهم كانت هذه نومته الأخيرة؟ وعندما أعدّ فطوري، أفكّر في كلّ أولئك الذين لن يجدوا كسرة خبزٍ واحدة يسدّون بها جوعهم. أما وأنا أراقب الناس من نافذة الباص، أبكيهم كلّهم، فقد كانوا يستحقون حياةً عادية مثل هذه، حياةً يذهبون فيها إلى أعمالهم في الصباح بدلاً من الذهاب إلى المقابر، ينشغلون فيها بمناكفات الزملاء بدلاً من البحث عن الجثث أسفل الركام. وسرعان ما أسأل نفسي: لماذا لا يكون أحدهم مكاني؟

وهكذا، تتحوّل تفاصيل يومي البسيطة إلى امتحانٍ أخلاقي لا ينتهي، وإلى شعورٍ دائم بأنني ربما لا أستحق هذه الحياة التي أعيشها، لا أستحق هذا الهدوء ولا هذا الروتين، فهناك الكثير من أهلي أحقّ مني بهذه الحياة. ومع كلّ محاولة مني للاندماج في اليومي والعادي، أشعر أنني أخونهم مرةً أخرى، أخونهم مع كلّ ضحكة عابرة، وكلّ جلسة هادئة، أخونهم بصمتٍ كما لو أنني أرتكب جريمةً متكاملة.

صامتٌ لو تكلّما…

لقد أعادت النجاة تشكيلي بطريقةٍ لم أفهمها إلا متأخراً. حيث صنعت مني نسخة مختلفة تماماً، نسخة أقل صلابة وأكثر صمتاً، وكأنّ الكلام لم يعد مفيداً، والقول لا يفضي إلى نتيجة، بل إلى وجعٍ إضافي. ما جعلني صامتاً في جلسات الغربة الطويلة، وأمسكُ نفسي متلبساً كلّ يومٍ في مقارنة الوجوه التي أراها بوجوه أصدقائي الذين رحلوا إلى الأبد. أقارن البيوت بالبيوت، والشوارع بالشوارع، والذكريات بالذكريات، وهكذا صرتُ أبدو هادئاً تماماً من الخارج، ولكن في داخلي كانت دائماً هناك معركة أخسر فيها باستمرار.

أصبح الخوف رفيقاً لي، يجلس معي في الليالي الطويلة، ويرافقني في الطرقات والشوارع والمطارات. على الرغم من ذلك، لم يمضِ وقتٌ طويل على خوفي هذا، حتى أصبحت أراه خيانة أيضاً. فكيف أخاف وأنا بعيد عن الصواريخ والمدافع والجثث المتفحمة؟

ولأنني أعتبر الكتابة شكلاً من أشكال الكلام، صرتُ أتجنبها كأنني أراوغ وحشاً يريد إقناعي أنني نجوت، وأنّ عليّ عيش الحياة والانعزال قليلاً عمّا يحدث هناك… في قلبي/غزة. فصوتٌ ما في داخلي كان يقول دائماً: هل يحقّ للناجي أن يتكلم؟ رغم ذلك، لم يمضِ وقتٌ طويل حتى صرتُ أرى صمتي خيانة، فكيف أصمت بينما أهلي يموتون؟

منذ بدء الإبادة، عرفتُ نوعاً مختلفاً من الخوف، ليس الخوف من الطائرات والدبابات والرصاص، ولكنه ذلك الخوف الذي يولد من النجاة نفسها، الخوف من الاستمرار في الحياة بينما الآخرون توقفت حياتهم إلى الأبد، خوفٌ من الأشياء وعكسها. أخاف من الصمت والقول، ومن الهدوء والضجيج، من الشعور بالذنب ومن عدم الشعور به، حتى أصبح الخوف رفيقاً لي، يجلس معي في الليالي الطويلة، ويرافقني في الطرقات والشوارع والمطارات.

على الرغم من ذلك، لم يمضِ وقتٌ طويل على خوفي هذا، حتى أصبحت أراه خيانة أيضاً. فكيف أخاف وأنا بعيد عن الصواريخ والمدافع والجثث المتفحمة؟ كيف أخاف وأنا لديّ ما آكله اليوم وغداً وبعد غد؟ وهل يُقارن خوفي هذا بخوف أهلي هناك؟ أليس خوفي هذا ترفاً مقارنةً بخوفهم؟ أليسوا هم الأحقّ بهذا الخوف وبالحديث عنه؟ ولكنني أواسي نفسي دائماً فأقول: ربما ينبع خوفي منهم، من الذي يحدث لهم، ومن ألم قلبي الذي ظلّ عالقاً هناك بعيداً عن جسدي، فبينما أمشي بقدميّ خارج المذبحة، يمشي قلبي في أزقتها.

لستُ مذنباً لكنني أشعر بالذنب

لستُ أنا مَن أطلق النار، ومَن قتل أهلي وأصدقائي وأحبّتي. لستُ أنا مَن هدم الشجر واقتلع الحجر، وحوّل غزة إلى كومة من ذكريات. وليس ذنبي أنني خرجتُ قبل المذبحة، فلم أُصب بقذيفة ولم أذق مرارة النزوح ولم أشعر بالجوع ولم أرتجف من البرد في خيمة مهترئة. رغم ذلك، أشعر بذنبٍ لا يُطاق لأنني لم أبقَ هناك، لم أعش كلّ ذلك معهم، ولم أشاركهم خوفهم وجوعهم وموتهم. ولهذا أحوّل – دون دراية – كلّ فرحٍ في حياتي إلى حزن، كأنني أعاقب نفسي على فعلٍ لم أقترفه وعلى نجاةٍ جاءت صدفة، واستمرت أيضاً صدفة.

وقد جاء كلّ ذلك بعدما ظننتُ أن النجاة هي نهاية الحكاية، فقد اكتشفتُ أنها ليست سوى بداية، بل إنها أيضاً عبءٌ يكبر كلّ يوم، وثمناً لا يُدفع مرة واحدة، بل مراراً على مدار الأيام. وربما شعوري بالذنب والخيانة هو نتيجة عبء الحكاية، حكايتهم التي أوصى بها الشهيد الدكتور رفعت العرعير حين قال: "إذا كان لا بدّ أن أموت، فلا بدّ أن تعيش أنت لتروي حكايتي".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

لعلّ تعريفنا شعوباً ناطقةً بالعربية لم يعد يستقيم من دون الانتباه إلى أننا صرنا شعوباً متفلّتةً من الجغرافيا. الحروب الدائرة في منطقتنا والنزاعات الأهلية والقمع، حوّلتنا إلى مشردين، بين لاجئين ونازحين، وأي تفكير في مستقبلنا لم يعد ممكناً من دون متابعة تفاصيل حياة الجميع، أينما كانوا، وهو ما نحرص عليه في رصيف22. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image