بين مجزرة الدويلعة ومجازر الساحل … هل التضامن السوري انتقائي؟ 

بين مجزرة الدويلعة ومجازر الساحل … هل التضامن السوري انتقائي؟ 

رأي نحن والفئات المهمشة

الجمعة 27 يونيو 202511:24 ص

في مدينتي طرطوس، كان يوم 25 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، يوم احتفال جماعي. الجميع علّق الشجرة وزيّنها، والجميع طلب بابا نويل لأطفاله. تسقط في هذا اليوم طوائفنا ودياناتنا ونصبح كلنا مسيحيين في مدينة صغيرة تتعايش فيها مجموعة من الطوائف والأديان بسلام. 

في مدينتي لم يكن المسيحيون فقراء. كان الانطباع السائد أنّ المسيحيين كلهم أغنياء، فرانكوفونيون، لهم أسماء وأشكال مميزة، مدارسهم مشهورة بحسن التعليم فيها وانفتاح طلابها بسبب تجمعاتهم في الكنيسة والكشافة. كانت لهم هالة خاصة لطالما سببت قليلاً من الغيرة لدى بنات وأبناء الطوائف الأخرى. وربما تجاوزت هذه الغيرة جيل الأبناء والبنات إلى جيل الآباء، حيث حرص جيل آباء الطبقة المتوسطة وفوق المتوسطة في المدينة من غير المسيحيين على تقليد المسيحيين في العادات والكلام والهيئة. كان المسيحيون يجسّدون المثال الأقرب للّباقة والأنفة البيروتيتين اللتين لطالما لفتتا السوريات والسوريين. تبدو الصورة كما أرويها برّاقةً: مدينة هادئة، شجر ميلاد وبابا نويل وأصوات الأجراس في خلفية المشهد... كل شيء مثالي…

في مدينتي لم يكن المسيحيون فقراء. كان الانطباع السائد أنّ المسيحيين كلهم أغنياء، لهم أسماء وأشكال مميزة، مدارسهم مشهورة بحسن التعليم فيها وانفتاح طلابها بسبب تجمعاتهم في الكنيسة والكشافة. كانت لهم هالة خاصة لطالما سببت قليلاً من الغيرة لدى بنات وأبناء الطوائف الأخرى

في الثالث والعشرين من شهر حزيران/ يونيو 2025، تعرضت كنيسة مار الياس في منطقة الدويلعة في دمشق لتفجير إرهابي في أثناء القداس. ارتقى عشرات الضحايا وأصيب العشرات، وسط تخبط الحكومة في الإعلان عن المنفّذ، بعد أن أعلنت وزارة الداخلية أنّ المجموعة المسلحة المسؤولة عن التفجير تنتمي إلى تنظيم داعش، بينما أعلن تنظيم يُدعى "أنصار السنّة" عن مسؤوليته عن الهجوم. انتشرت بعض الأخبار التي تفيد بتعرّف أهالي المنطقة إلى منفّذ الهجوم، وهو أجنبي سبق أن دخل إلى الحيّ بسيارة دعوية، وتشاجر وقتها مع شباب ورجال من الحي بكل طوائفه، قبل أن يتوعد بالعودة.

هل للمسيحيين السوريين مكانة خاصة عند المسلمين السنّة في سوريا؟

الصورة البرّاقة المثالية عادت للمشهد: سوريون بمختلف أعمارهم وطوائفهم سارعوا إلى المستشفيات للتبرع بالدم للمصابين، مظاهرات رُفع فيها الصليب بجانب القرآن، والتراتيل بجانب التلاوات. مشهد آخر برّاق لأبناء بلد يتعافون من سنوات الحرب الأهلية بإبراز التضامن العابر للانتماءات الدينية. جميل حقاً أليس كذلك؟

لنعد قليلاً إلى الوراء، قليلاً جداً، إلى السادس من آذار/ مارس 2025، حيث بدأت ما عُرفت بالأيام الخمسة السوداء والتي تعرّض فيها أبناء مدن وقرى الساحل السوري من الطائفة العلوية لمجازر طائفية مروعة، قضى فيها عشرات المدنيين على يد متشددين إسلاميين. لم تكن المجزرة صامتةً، بل انتشرت فيها الصور والفيديوهات المباشرة لعمليات القتل. الكل رأى، الكل سمع، والكل عرف.

بعدها بأيام قليلة أيضاً، هجم متشددون إسلاميون على المناطق التي يقطنها الدروز في دمشق، وعلى الطلاب الدروز في المدن الجامعية والجامعات، وعلى السكان من الدروز في مدينة السويداء. وقتها أيضاً، الكل شاهد المجزرة وعلم بها.

في كلا المجزرتين، لم يكن التضامن محدوداً فحسب، ولم تكن العدالة غائبةً كعادتها، بل إن تبريرات المجازر انطلقت حتى من أفواه مثقفين ونخب سياسية واجتماعية سورية، هي الآن، ويا للعجب، تدين وتستنكر الهجوم الإرهابي الذي طال سوريين أبرياء والذي يهدف إلى زرع الفتنة بين أبناء الشعب الواحد. وكأنّ الفتنة كانت في غيبوبة طوال المجازر السابقة واستيقظت فقط حين سمعت أصوات أجراس الكنائس.

عدا عن الفئات الأكثر تشدداً وتطرفاً، ليس للمسيحيين أعداء حقيقيون في البلاد. على عكس العلويين الذين اختاروا بمعظمهم الانحياز إلى النظام السابق والذين تورط قسم كبير منهم في الدماء المهدورة في سنوات الحرب. ربما هذا ما يجعل غالبية طائفة المسلمين السنّة تتضامن مع المسيحيين في مصابهم.

هل يمكن القول إنّ هذا تضامن انتقائي؟ أو إنّ للمسيحيين فعلاً مساحةً خاصةً في سوريا؟

يسكن معظم مسيحيي سوريا في مدنها الكبيرة، ويجاورون في قراهم وبلداتهم طوائف وأدياناً أخرى، كل هذا سمح لهم بالاندماج التام في مجتمعاتهم، محافظين على علاقة ودية مع جميع الأطراف، ويحظون باحترام معظم الشرائح المدينية وأبناء الطبقات المتوسطة فما فوق. وفي سنوات الحرب الأهلية، لم يمتلك المسيحيون كباقي الطوائف السلاح الذي يمكّنهم من خوض المعركة، ففضلوا وجودهم على الصراع. لم يتورطوا بشكل فاضح في الدم مع أحد، ولم ينحازوا بشكل مباشر إلى أحد. وعدا عن الفئات الأكثر تشدداً وتطرفاً، ليس لهم أعداء حقيقيون في البلاد. على عكس العلويين الذين اختاروا بمعظمهم الانحياز إلى النظام السابق والذين تورط قسم كبير منهم في الدماء المهدورة في سنوات الحرب. ربما هذا ما يجعل غالبية طائفة المسلمين السنّة تتضامن مع المسيحيين في مصابهم. لكن هذا الشرط ينطبق على الدروز أيضاً، فهم لم يجمعهم دم واحد مع باقي أطياف الشعب، لم نرَ في سنوات الحرب السورية صراعاً قائماً بينهم وبين أحد إلا حين هاجم تنظيم داعش قراهم وبلداتهم. وقضوا آخر سنتين من عمر النظام السابق في الشوارع والساحات معتصمين وثائرين ضده، فلماذا لم تتحرك "بديهية التضامن" مع ضحاياهم؟

لنُعِد السؤال بصيغة ثانية: هل للمسيحيين السوريين مكانة خاصة عند المسلمين السنّة في سوريا؟

كل هذا الكلام يفسر ولا يبرّر، فعلى أرض الواقع، ساهم شركاء حلم وثورة في تعزيز الخطاب الطائفي ضد العلويين والدروز مقابل استنكار تامّ لأي جريمة تطال المسيحيين.

تقارب المسيحيين مع المسلمين السنّة قد يعزى إلى كون المسيحيين مدينيين قريبين إلى المجتمع السنّي المديني كما في دمشق أو حلب أو حمص، وارتباط المصالح الاقتصادية بين أبناء الدينين في المدينة الواحدة. إذ برع سكان هذه المدن في التجارة، وقد برع في التجارة المسيحيون بجانب المسلمين فيها. كما قد يعزى هذا التقارب إلى عدم خوض أي صراع بين الدينين في العصر الحديث. بينما يتقوقع العلويون والدروز على أنفسهم في مدنهم وأماكنهم الخاصة، مثقلين بتاريخ من الصراعات مع المسلمين السنّة. لا تبدو الظروف بشكلها الحالي ملائمةً أبداً لأي حسن نيّة في العلاقات بين هذه الطوائف.

كل هذا الكلام يفسر ولا يبرّر، فعلى أرض الواقع، ساهم شركاء حلم وثورة في تعزيز الخطاب الطائفي ضد العلويين والدروز مقابل استنكار تامّ لأي جريمة تطال المسيحيين. انتشر خطاب تبرير المجازر بين شرائح النخب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، مثقفين، وناشطين، وحقوقيين… خطاب أقلّ ما يقال فيه إنه مخيّب للآمال، إذ من المعيب أن نعيد شرح بديهيات قيم الإنسان ومناصرة الحق لأجل الحق فقط، وأن نعيد شرحها لرفاق يدّعون أنهم يحملونها. 

على أرض الواقع، بقي الدم العلوي والدرزي المراق من غير تضامن من الأكثرية المسلمة السنّية، التي تبدو وكأنها تتحكم بكل مفاصل البلاد الآن، من السياسة حتى طقوس العزاء والولادة وطريقة اللباس.

ما أحلم به، ما نحلم به كلنا، حتى أولئك الذين ينكرون، هو وطن نبنيه بالحق والعدالة، وطن نكون فيه مواطنين على درجة واحدة، كلنا، يتضامن كلنا مع كلنا، حيث كلنا بلا انتماءات أمام انتمائنا الوحيد الذي نريد: انتماؤنا السوري الجامع.

ما أحلم به، ما نحلم به كلنا، حتى أولئك الذين ينكرون، هو وطن نبنيه بالحق والعدالة، وطن نكون فيه مواطنين على درجة واحدة، كلنا، يتضامن كلنا مع كلنا، حيث كلنا بلا انتماءات أمام انتمائنا الوحيد الذي نريد: انتماؤنا السوري الجامع. ما أتمناه حقاً هي الرحمة… الرحمة للضحايا، لكل الضحايا، لضحايا كنيسة مار الياس، لضحايا مجازر الساحل، ولضحايا مجازر السويداء وجرمانا، ولضحايا جرائم آل الأسد. والرحمة لقلوب رفاق تاهوا عن الدرب. والرحمة لنا يا الله، الرحمة لنا من كل هذا الجحيم الذي نسمّيه وطناً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image