استفاقت زيدل (قرية في محافظة حمص تبعد عن مركز مدينتها 5 كيلومترات سرقاً)، صبيحة 23 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، على رجل وزوجته ينتميان إلى عشيرة بني خالد، مقتولَين في منزلهما، وأشيع أنّ عبارات طائفيةً كُتبت على جدران المنزل، ليبدأ مسلسل التحشيد والتحريض على الأحياء العلوية في حمص؛ حرق وتخريب وتكسير وترويع واعتداءات على السكان، في سياق ليس بجديد منذ 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، وتعلن بعدها وزارة الداخلية السورية أنّ جريمة زيدل جنائية وليست طائفية.
أثارت الحادثة استياءً لدى الكثير من السوريين، وتمت الدعوة إلى اعتصامات سلمية في عموم مناطق العلويين يوم الثلاثاء 25 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري. وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، خرج عشرات الآلاف في أكثر من 42 منطقةً في سوريا في مظاهرات احتجاجية متفرّقة.
من جهتها، أكدت وزارة الداخلية السورية أنها أمّنت الاحتجاجات لمنع أيّ حوادث طارئة، وأنّ بعض الاحتجاجات بدأت بغطاء سلمي لكنها تحولت إلى "تحريض طائفي ممنهج"، بحسب قائد الأمن الداخلي في اللاذقية، هلال الأحمد، الذي أشار إلى رصد خلايا إجرامية تابعة لفلول النظام البائد، أشعلت الفوضى واعتدت على القوات الحكومية وآلياتها الرسمية.
في السياق، تكلم المتحدث الرسمي باسم وزارة الداخلية السورية، نور الدين البابا، مع المحتجين في مدينة حمص، واستمع إلى مطالبهم، ومن جملة ما ورد في معرض ردّه على إحدى السيدات التي طالبت بحلّ مشكلة العسكريين المعتقلين منذ هروب الأسد: "لو بدنا نقتلهم كنا قتلناهم... ولكن طالما في أسرى بالسجون يعني في عدالة".
دعوة أو سياق؟
وبرغم أنّ دعوة الاعتصام كان قد أطلقها رئيس المجلس الإسلامي العلوي الأعلى، الشيخ غزال غزال، لكنّ كثيراً ممن استطلعهم آراءهم رصيف22، كانوا مصرّين على أنّ الخروج هو للمطالبة بوقف المجازر المتزايدة وخطف النساء والفلتان الأمني وخطاب التحريض والكراهية الذي أدى إلى استباحة حيوات مواطنين سوريين تبعاً لانتمائهم الطائفي.
"بدنا نرجع لحياتنا الطبيعية. نريد إرسال أولادنا وبناتنا إلى المدارس دون أن نقلق على مصيرهم، وإعادة المخطوفات ووقف خطف النساء وإخراج الفصائل من الساحل، والأمن والأمان والعدالة"
كذلك استطلعنا آراء عدد من المتظاهرين في اللاذقية عند دوار الزراعة ودوار الأزهري، وفي مدينة طرطوس عند دوار السعدي، وأجمعت الشهادات على أنّ الأمن العام كان متواجداً بكثافة، ولم يزعج أحداً من المتظاهرين، وكان غرضه الحماية، وهو تطور لافت عن أول مظاهرة بعد سقوط الأسد أمام مبنى محافظة طرطوس مطلع العام الحالي، حين حصل اعتداء على المعتصمين من قبل شبّيحة السلطة أمام أعين الأمن العام الذي اكتفى بالمراقبة، بحسب سامر (31 عاماً)، وهو خرّيج كلية الاقتصاد ومن طرطوس.
وبحسب حسان (27 عاماً)، من مدينة طرطوس، فقد خرج الناس برغم الخوف والتهديدات، وبرغم اختلافهم في الكثير من النقاط مع الشيخ غزال غزال، لكنّ "منسوب القهر المرتفع دفع العلويين للنزول إلى الساحات، وكانت المشاركة أكثر من المتوقع، برغم أنّ توقيت الواحدة ظهراً يعني أنّ الطلاب في المدارس والموظفين في دوائرهم الرسمية، ناهيك عن هطول المطر...". ويؤكد حسان، عدم تسجيل أيّ اعتداء على المتظاهرين في طرطوس.
في الجانب الآخر، كانت هناك عند دوار النجمة في طرطوس، تجمعات تمجّد رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، "الأمر الذي ذكّرنا بالهتافات المؤيدة لبشار الأسد"، يقول حسان.
إسكات الخطابات الطائفية
في اللاذقية، يقول الصحافي والباحث السوري كمال شاهين، لرصيف22، إنّ الأمن العام في نقطتَي التظاهر في دوار الزراعة ودوار الأزهري حيث كان حاضراً، كان متعاوناً مع المعتصمين الذين تولّوا تنظيم السير، وبقوا لمدة ساعتين: "حاول أحد الأفراد استفزاز المعتصمين بحمل راية التوحيد والاحتشار بينهم، لكنّ الأمن العام أبعده. حصل ذلك أمامي، كذلك قدمت عربتان BTF واقتربتا من الجمهور، لكنّ الأخير امتصّ الأمر واستقبلهما بعبارة 'واحد واحد واحد... الشعب السوري واحد'، والعبارة واضحة؛ السوري وليس العلوي".
كانت الشعارات متنوعةً، بين المطالبة بوقف الانتهاكات بحق أبناء الطائفة العلوية، ووقف عمليات خطف النساء والفتيات وإعادتهنّ والكشف عن مصير العسكريين الموقوفين الذي سيكملون عاماً كاملاً دون عرضهم على أي محكمة. يضيف حسان: "لم تكن هناك أي خطابات طائفية باستثناء قول 'يا علي'، وهو شعار لا يحمل أي معنى إقصائي أو عدائي ضد أي طرف، برغم عدم موافقة الكثير من المتظاهرين على طرح هذا الشعار في الاعتصام".
في هذا السياق، تقول جوليا (40 عاماً)، وكانت متواجدةً لمدة ساعتين في المظاهرة عند دوار الأزهري في مدينة اللاذقية: "حمل بعض الأولاد لافتات طائفيةً كُتب عليها 'لبيك يا علي'، لكنّ بقية المعتصمين اقتربوا منهم قائلين لهم: 'قولوا هتافات للوطن ومطالبكم... ممنوع شعارات طائفية'". وتستطرد: "لم يخلُ الأمر من بعض الهتافات الطائفية، لكن في كل مرة كان هناك من يسكتهم".
طالبت بعض المظاهرات بإقامة نظام فيدرالي لا مركزي، وركزت وسائل الإعلام على هذا الشعار ووضعته بالخط العريض، وهو شعار غير منطقي وغير ممكن على أرض الواقع.
تضيف جوليا أنّ الهتافات كانت متركزةً حول "بدنا نرجع لحياتنا الطبيعية. نريد إرسال أولادنا وبناتنا دون أن نقلق على مصيرهم، وإعادة المخطوفات ووقف خطف النساء وإخراج الفصائل من الساحل، والأمن والأمان والعدالة".
فيدرالية... غير ناضجة
طالبت بعض المظاهرات بإقامة نظام فيدرالي لا مركزي، وركزت وسائل الإعلام على هذا الشعار ووضعته بالخط العريض بحسب سامر، الذي شارك في اعتصام طرطوس، ويؤكد أنه كان ضد هذا الشعار باعتباره غير منطقي وغير ممكن على أرض الواقع، ويشرح: "المشكلة أنّ جمهور السلطة يرى أنه صاحب فضل على أفراد الطائفة العلوية لأنه تركهم على قيد الحياة، وسيتم استغلال الأمر إعلامياً للتحريض وتخوين المظاهرات على أنها دعوات تقسيم وانفصال، كذلك أيّ كلمة طائفية سيجري اصطيادها والتركيز عليها للتعمية على أي مطالب أخرى محقّة مثل ضبط السلاح المنفلت والتحريض الطائفي وإيقاف خطف النساء. لقد دار هذا الحديث قبل اعتصام الثلاثاء وهذا ما حصل". ويشدد سامر على أنّ حساسية العلويين من التعامل معهم كطائفة لا تزال موجودةً، وبرغم وجود رغبة في الخروج من واقع القتل والخطف والإذلال بأي طريقة حتى بـ"فيدرالية"، فكثيرون لا يتفقون مع الطرح ولا يرونه حلّاً.
يتجسد ذلك في شهادة رهام، وهي كاتبة تعيش في طرطوس، تقول إنّ المظاهرات قد لا تمثّلها بالضرورة، وتشرح لرصيف22: "لأنّ دوافعها في كثير من الأحيان ليست نابعةً من وعي مدني أو شعور بالمواطنة، ولا من فهم واضح للحقوق والواجبات. جزء كبير مما حدث يبدو مدفوعاً باعتبارات طائفية، أو نتيجة تحريض ظرفي، أو بسبب تراكم أزمات معيشية خانقة جعلت الناس تنفجر. وهذا لا يقلل من وجعهم، لكنه يجعل الحركة ذاتها غير ناضجة بما يكفي لتعكس تطلعات وطنيةً حقيقيةً أو مشروعاً واضحاً للتغيير. السبب قد يكون محدوداً أو منحازاً، لكن النتيجة –أي خروج الناس- تبقى ذات دلالة مهمة، وهذا ما يجعل الموقف الداخلي تجاهها متناقضاً".
اعتقالات وتكسير وتحريض
تلت المظاهرات اعتداءات بالحجارة والعصي من قبل مؤيّدي السلطة على المتظاهرين في اللاذقية وحمص، وليلاً تم اقتحام الأحياء التي تقطنها الطائفة العلوية وتخلله تكسير سيارات ومحال وشتائم طائفية كما في شارع بنت الشاويش في اللاذقية، وشارعَي عكرمة والحضارة في حمص، ومنعت المسيرات الجوّالة الليلية الأهالي من النوم خشية تكرار ما حدث في آذار/ مارس الأسود.
وفي اليوم التالي، نُشرت أخبار عن استدعاء الأمن العام مخاتير القرى على خلفية الاحتجاجات، وتنفيذ حملة مداهات واعتقالات، ونشر أقارب أحد المتظاهرين في جبلة "وليد حماد"، عن اعتقاله من قبل الأمن العام: "داهمته ثلاث سيارات واختفت سيارة وليد الخاصة بعدها"، فيما نفت الشرطة وجوده لديها، كما تواردت أنباء مشابهة عن اعتقالات متفرقة.
تشويه الحراك
من جهة أخرى، يرى سامر في محاولة جمهور السلطة تشويه صورة الاحتجاج، تقليداً أسدياً أصيلاً، عبر التركيز على الهتاف الطائفي وتجاهل رايات وخطابات وشتائم طائفية باتت يومية على الجانب الآخر، "وإظهار السلطة بصورة صاحبة الفضل على المتظاهرين لأنها لم تقتلهم كما فعل الأسد.. وأنهم يحسدون العلويين على ظروف التظاهر هذه، محاولين إظهار الموضوع على أنه إنجاز للسلطة على حساب الجوهر الأساسي للاحتجاج ويدلّ على وقف الانتهاكات".
الواقع السوري عموماً معقّد لدرجة تجعل من الصعب اتخاذ موقف واضح وصريح من أي حدث: "كل خطوة في هذا البلد، مهما بدت بسيطةً، تحمل وراءها طبقات من الألم والذاكرة والخوف والانقسام والشك"
وبرغم تعامل الأمن "الممتاز" وفق تعبيره، لكنه يجد نقاطاً مثيرةً للقلق، فقد حاول بعض الأشخاص تخريب النصب التذكاري للشيخ صالح العلي أمام مبنى محافظة طرطوس، ليمنعهم الأمن بعدها، وتنشر السلطة بياناً تنفي فيه شائعات تحطيم النصب، دون كتابة جملة تدلّ على التوصيف التاريخي بأنه أحد رموز الثورة السورية ضد الاستعمار الفرنسي.
يتقاطع ما سبق مع حديث مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، رامي عبد الرحمن، عن محاولة العديد من القنوات العربية القول إنّ احتجاجات الساحل تطالب بإخراج فلول النظام من السجن.
تعقيد طبقات الخوف والألم
في حين تقرّ رهام، كاتبة من طرطوس في حديثها إلى رصيف22، بأنّ الواقع السوري عموماً معقّد لدرجة تجعل من الصعب اتخاذ موقف واضح وصريح من أي حدث: "كل خطوة في هذا البلد، مهما بدت بسيطةً، تحمل وراءها طبقات من الألم والذاكرة والخوف والانقسام والشك. لذلك، حين أشاهد المظاهرات، أشعر بمزيج من المشاعر: بفرح لأن الناس نطقت أخيراً، وخوف من أن يتم استغلالهم أو جرّهم إلى صراع جديد، وقلق من أن تطغى العصبيات على المطالب، ووعي بأنّ الطريق إلى التغيير ليس مجرد تجمّع في شارع، بل يحتاج إلى وعي وحرية ومسؤولية وتشارك حقيقي بين جميع السوريين".
وتختم رهام، بأنّ المظاهرات في الساحل مؤشر على شيء يتحرك في العمق، "لكنها ليست بعد التعبير الناضج الذي يمكنني أن أرى نفسي فيه. وربما هذا هو جوهر الموقف السوري اليوم: خليط من الأمل والحذر، من الفرح والريبة، ومن الرغبة في التغيير والخوف من نتائجه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



