نشر الشاعر السوري محمد الماغوط في العدد الثاني من العام الثاني لمجلة شعر قصيدته "القتل" في عام 1958، التي قال الشاعر السوري أدونيس حينها بأنها مشابهة لشعر الفرنسي آرثر رامبو، فالماغوط القادم من السلمية في سوريا، أثار مخيلة الحاضرين، بوصفه يكتب شعراً صرفاً.
لا يهمنا من الحدث السابق القيمة الشعرية أو الآراء المتضاربة حول الماغوط وأدونيس، فالتركيز على "الحداثة" العربية وتلك الشعرية التي ما زالت محط جدل، فهل فهي فعلاً حرّرت الشعر العربي من تاريخه الصارم وشكله الواحد، أم أخذت الشعر إلى مساحةٍ مبهمةٍ جاعلة منه صنعةً جماليةً تصل حدّ العبث؟
مع ذلك، لا يمكن إنكار أهمية تلك الفترة من التاريخ العربي والتي احتضنتها بيروت، أو "مدينة البدايات" حسب عنوان الكتاب الصادر مؤخراً لروبين كريسول، الأستاذ المساعد للأدب المقارن في جامعة يال City of Beginnings: Poetic Modernism in Beirut.
تحاول الأبحاث في الكتاب اكتشاف مفاهيم الحداثة في الشعر العربي، كما يقدم كريسول تاريخ الشعر بالتوازي مع تاريخ بيروت، أثناء بدايات الحرب الباردة، وكأن المدينة خشبة للصراع الأيديولوجي، ويشير إلى أهمية ظهور المجلات الفكرية والأدبية، وأشهرها "شعر"، التي احتوت الحداثة الشعرية ونظّرت لها وخرج منها أبرز شعراء القرن العشرين العرب، ويعرّفنا على الحوارات بين "مثقفي" تلك الفترة وبين رموز العالم الغربي من شعراء ومفكرين، كإزرا باوند وأرتنونان أرتو، وكأن الشعر حينها تأريخ للحرية الفردية والسياسية، ودعوة إلى الثورة على القديم بكل أشكاله.
نتعرّف في بداية الكتاب على الأوضاع السياسية في المنطقة العربية، وكيف التفَّ المثقفون العرب حول مجلة "شِعر" لتكون منصةً ظهرت منها أسماء شعرية ونقدية، كيوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج، الذين سعوا للتنظير للحداثة الشعرية في ذات الوقت إنتاج الشعر، إذ يكتب الشاعر الأمريكي أرشبيلد ماكليش في مقدّمة العدد الأول :"ليس على أولئك الذين يمارسون فن الشعر في زمن كزمننا، كتابة الشعر السياسي، أو محاولة حل مشاكل عصرهم بقصائدهم، بل عليهم ممارسة فنهم لأجل أغراض فنهم، وبمستلزمات فنهم، مدركين أنه بواسطة فنهم، لامست الحياة البعض هنا في الماضي وقد تفعل ذلك أيضاً في المستقبل".
عودة لتلك الفترة من التاريخ العربي الحديث التي أنتجت مفاهيم الحداثة في الشعر العربي في بيئة ثقافية احتضنتها بيروت، أو "مدينة البدايات" حسب عنوان الكتاب الصادر مؤخراً لروبين كريسول
نقرأ في الكتاب الصادر حديثاً بعنوان "مدينة البدايات"، عن أصل قصيدة النثر العربية، والتي يرى "شعراء بيروت" أن حداثتها تأتي من إيقاعها الداخلي، الذي يعكس التقلبات السياسية الذي يصفه أدونيس بأنه "إيقاع حياتنا الجديدة، إيقاع يجدد نفسه في كل لحظة"
نقرأ في الكتاب أيضاً عن السيرة الذاتية لبعض شعراء مجلة شعر، كيوسف الخال الذي كان رئيس تحرير المجلة، وراسم خطوطها العامة، مع الإشارة إلى دور المؤسسات الحزبية، والجامعية، والمجلات الصغيرة في تكوينه الفكري، وكأن السيرة الذاتية لكل واحد من الشعراء تجعله بطلاً، فالحقيقة وراء شعرهم تكمن في تاريخهم النضالي ليبدو شعرهم أشبه بنشيد للحرية.
لا ندري بدقة مدى صحة الادعاءات التي يحويها الكتاب، خصوصاً مفهوم "البطولة" الشخصية التي يمكن أن تنسب للشعراء كوسيلةٍ لقراءة شعرهم، فهناك الكثير من الأقاويل والإشاعات حول نشاط بعضهم وعلاقتهم بمؤسسات حزبية بل أن بعضهم، كمحمد الماغوط انتهى به الأمر كرئيس تحرير لمجلة الشرطة السورية، وهو واحد من منتقدي النظام السوري.
يخصص الكتاب فصلاً لديوان أدونيس "أغاني مهيار الدمشقي" الصادر عام 1961، ليقدم قراءةً نقدية له، بوصفه واحد من دعائم الحداثة العربية، شارحاً كيف تركت الهزائم أثرها على تجربة أدونيس، ليظهر مهيار بطلاً أسطورياً، و"جهه نار"، وانعطافاً نحو الخارج لتحدي العالم بأكمله، ليبدو مهيار فارساً يواجه العالم والعصر، فـ"كل ما يلمسه مهيار نار"، هو دعوة حتى لإعادة التفكير في القصيدة نفسها، ومفهومها فهو :"ليس نجماً/ ليس نجماً ليس إيحاء نبي/ ليس وجهاً خاشعاً للقمر/ هو ذا يأتي كرمح وثني غازياً أرض الحروف/ نازفاً - يرفع للشمس نزيفه/ هو ذا يلبس عري الحجر/ ويصلي للكهوف/ هو ذا يحتضن الأرض الخفيفة".
نقرأ في الكتاب أيضاً عن أصل قصيدة النثر العربية، والتي يرى "شعراء بيروت" أن حداثتها تأتي من إيقاعها الداخلي، الذي يعكس التقلبات السياسية والذي يصفه أدونيس بأنه "إيقاع حياتنا الجديدة، إيقاع يجدد نفسه في كل لحظة"، وهنا تظهر التساؤلات عن مصدر قصيدة النثر وجمالياتها، وهل هي غربية ظهرت نتيجة الترجمة، أم لها جذر تاريخي، فهل يمكن اعتبار ديوان سوريال لأورخان ميسر المنشور عام 1948، قبل تأسيس مجلة شعر جزءاً من هذه الحداثة.
يركز الكتاب على تجربة أدونيس و"ديوان الشعر العربي" الذي أنجزه، وأعاد ضمنه النظر في تاريخ الشعر العربي وتصنيفاته، ويرى الكاتب أن أدونيس بالرغم من سعيه لإعادة أصوات شعرية منسية إلى الساحة العامة، إلا أنه اعتمد معايير الحاضر في تقييمه و"اختياره" للنصوص والقصائد.
يستمر الكتاب في تحليل "أدونيس" حتى عام 2011، مروراً بعلاقته بالثورة الإسلامية في إيران، وموقفه من الثورة السورية، ويحاول قراءة مستقبل الحداثة العربية الشعرية في ظل التغيرات الحالية.
و هل هناك فعلاً مستقبل لها، خصوصاً في ظل التغيرات السياسية الجذرية التي تمرّ بها المنطقة العربية، والتي انعكست على التجربة الشعرية، حتى أننا نجد دواوين شعر أصلها منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، فإن كانت المجلات هي محرك الحداثة العربية، هل يمكن اعتبار وسائل التواصل الاجتماعي مساحة بديلة للصراع الفكري والإيديولوجي، مساحات تتجاوز الحدود الجغرافية والقيود نحو عوالمٍ تطفو وتتراكم في كل لحظة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...