تتضافر الخيبات واحدة وراء الأخرى، إلى أن تصير وحشاً اسمه الهزيمة، تقتل صاحبها، وتُسقطه في شرك يسمّيه الناس موتاً طبيعياً، إلا أنه عمليّة قتل، من الداخل والخارج. حين نقرأ فهرس المجلد الثالث من أعمال ونوس الكاملة التي أصدرتها دار الأهالي، يمكن ملاحظة الخيبة التي تتصاعد، حتى في العناوين. يبدأ الفهرس ببيانات لمسرح عربي جديد، وثلاثة ملاحق للبيانات، أزمة المسرح القومي والرجعيّة في وجه أبي خليل القباني، ثمّ مأزق المسرح، هكذا وصولاً إلى "خاتمة: الحلم يتداعى". يقف هذا العنوان شوكةً في الحلق. بمثل هذه السهولة يتداعى الحلم؟ بعد اقتراح عقابٍ صغير للبرجوازيين، بوضع مرآة أمامهم على ستار المسرح، لمسرحٍ يتطهّر لا يطهّر، مسرحٍ يحقّق فعلاً، لا يبقى في إطار الكلمة.
تتضافر الخيبة إذن، فتصير غولاً هو الهزيمة، والهزيمة تقتل صاحبها، لكنّ الناس يسمّون ذلك موتاً طبيعياً. قرأ الكاتب حسن م يوسف في الذكرى الحادية والعشرين لوفاة فواز الساجر من قصاصة ورقية صغيرة وُجِدت في جيبه بعد وفاته، يجيء في الورقة: "إن عصرنا هذا هو عصر الضيق، أكلنا ضيق، شرابنا ضيق، زيُّناً ضيق، مسكننا ضيق، مرتبنا ضيق، تفكيرنا ضيق، قبرنا ضيق، مطمعنا ضيق، أفقنا ضيق، عدلنا ضيق، عالمنا ضيق، مصيرنا ضيق، موتنا ضيق، قبرنا ضيق، الضيق، الضيق! افتحوا الأبواب والنوافذ.. سيقتلنا الضيق! افتحوا الأرض والسماء.. سيقتلنا الضيق! افتحوا الكون.. سيقتلنا الضيق!".
هكذا، نعرف أنّ رجلَين رادا الحركة المسرحيّة في سوريا طوال سنوات، كانا في بلادٍ أضيق من أحلامهما ومشاريعهما.
إن عصرنا هذا هو عصر الضيق، أكلنا ضيق، شرابنا ضيق، زيُّناً ضيق، مسكننا ضيق، عالمنا ضيق، قبرنا ضيق! افتحوا الأبواب والنوافذ.. سيقتلنا الضيق! افتحوا الأرض والسماء.. سيقتلنا الضيق! افتحوا الكون.. سيقتلنا الضيق!
الكلمة: الفعل
حلم سعد الله ونوس بمسرحٍ جديد، وطمح إلى إنجاز الكلمة - الفعل، "التي يتلازم، ويندغم في سياقها، حلم الثورة وفعل الثورة معاً". كان هذا بحثه الدؤوب الذي استمرّ حتى آخر لحظة من حياته. لقد تقوّض البناء الرملي للبلاد في صباح الخامس من حزيران، الهزيمة، النكسة، فدخل ونوس في علاقة إشكاليّة مع الكلمة، حدّدها على أنها "الطموح العسير لأن أكشف ما في الكلمة، أي في الكتابة، شهادة على انهيارات الواقع، وفعلاً نضالياً مباشراً يغيّر هذا الواقع".
إنه رجلٌ مناضل، أو رجلٌ يريد أن يكون مناضلاً، ينحصر فعلُه في الكلمات، لأنه كاتب، هذا شرطه الوجودي، وهنا تكمن فاعليّته وألقه وأرقه. هذا الجوهر الصعب، لا يمكن تخطّيه إلا بالبحث عن لغة كتابة تدمج في سياقها الدورين "الكلمة - الفعل" وتحققهما معاً. أسئلة تشبه "ابتلاع حزمة من أمواس الحلاقة"، أسئلة جارحة، ثقيلة، لا جواب لها.
حفلة سمر من أجل ٥ حزيران
بدأ ونوس في كتابة المسرحيّة بعد الهزيمة، وتجلّت له المشكلة: لا تكفيه فعالية الشاهد على الزور والدجل، وإنما يريد أيضاً فعالية الذي يقاتل مادياً ويومياً ضد الزور والدجل. بدأ البحث عن الكلمة - الفعل، الكلمة العارية الكثيفة التي تكشف الواقع وتغيّره في الوقت ذاته.
هل تستطيع الكلمة أن تكون فعلاً حقيقياً؟ بدا ذلك ممكناً، بل ومحققاً: “كنتُ فقط أتصوّر، وغالباً بانفعالٍ حسّي حقيقي، أنني أعرّي واقع الهزيمة. أمزّق الأقنعة عن صانعيها في سياق هبّة جماهيرية، تبدأ مضطربة ومرتجلة، ثم تتّسق وتنمو حتى تضمّنا في فورة عمل فعلي، مظاهرة، أو انتفاضة شعبية حقيقية. كان الإيقاع يتصاعد، ويتحقق الفعل المؤكد”.
لكنّهم صنّفوا حفلة سمر من أجل ٥ حزيران مسرحيّة، أي عملاً فنياً لا أكثر. كان أدونيس أوّل من هزّ ونوس حين كتب له عن المسرحية: "إنها مدهشة، تكنيكياً بصفة خاصة". إذن، يقول ونوس بحسرةٍ كبيرة: هي كتابة فقط.. أو هي مجرّد بنيان من الكلمات. بدءاً من هذا التصنيف، اهتزّ الحلم، وترمّدت الصور المتّقدة التي اشتعلت في رأسه وهو يكتب.
تتضافر الخيبات واحدة وراء الأخرى، إلى أن تصير وحشاً اسمه الهزيمة، تقتل صاحبها، وتُسقطه في شرك يسمّيه الناس موتاً طبيعياً، إلا أنه عمليّة قتل، من الداخل والخارج. سعد الله ونوس وفواز الساجر قتلا
المسرح مرآة...
في إطار البحث نفسه، والحلم نفسه، كان ونوس يطمح إلى نزع القناع الذي لا يكترث بالهزيمة، وتطهيره، حتى يصير وجهاً جديداً؛ وجهاً ينضح غضباً، يتفجر. من أجل ذلك كتب في مقدمة بيانات لمسرح عربي جديد، "مشهد - مقدمة ... المسرح مرآة"، وهو اقتراح بمثابة تحذير أو إخطار، بضرورة نزع الوجه القابع فوق الوجه الخانع لواقعه الرديء، ووجوده الذليل.
كان العقاب أو الاقتراح المعنون بـ "المرآة – الوهم"، يدور على النحو التالي: "أن نضع بدلاً من المرآة – الوهم، مرآةً حقيقية وعلى مقاس الستار، ننصبها أمام الجمهور الكريم. أتصوّر المرآة مغسولة، تربض قبالة هؤلاء الذين يدخلون إلى الصالة المكسوّة بالأضواء، أيديهم تحمل البطاقات، وأرجو أن يكون ثمنها غالياً. المرآة واثقة من نفسها، تقبض عليهم فور دخولهم، في البداية قد يكون الأمر مسلياً، وعندما يغوصون في مقاعدهم، يستعجلون البحث عن وجوههم، ولكن لا تلبث الراحة أن تتحول اضطراباً حين يلمحون أنّ عيوناً أخرى تضبطهم باستمرار. يتعذر الإفلات، الوقت يمر بطيئاً، والأضواء تنسكب كالفضيحة. أما المرآة فهادئة ورابضة كالمصيدة، لا شكّ أنّ الجمهور الكريم سيبدأ بالتململ. ما نهاية هذه اللعبة؟ لا شيء إلا أن تمتد وقتاً أطول وأطول. إنّ المسرح المُتعَب من الخداع والكذب يريد هذه المرة أن يتطهر لا أن يُطهِّر، ويجب أن يمتد الوقت، يمتد ويمتد حتى يبلى وجه هذا المتفرج، أو يعوي خوفاً واضطراباً".
التصفيق: الهزيمة
أتخيّل الاقتراح السابق بمثابة عقاب لمَن يسمّيهم ونوس بالبرجوازيين الصغار، وكانوا يحضرون مسرحيّاته. عقاب حضّره مسبقاً للخيبة التي سيتلقّاها في المستقبل. حفلة سمر من أجل ٥ حزيران هي أوّل الحلم، وربّما كانت آخره، مع صوت التصفيق الذي يتعالى في الختام. هي كتابة فقط، أو مجرّد بنيان من الكلمات.
كان يحسّ مذاق المرارة يتجدّد كل مساء في داخله: "ينتهي تصفيق الختام، ثم يخرج الناس كما يخرجون من أيّ عرضٍ مسرحي، يتهامسون، أو يضحكون، أو ينثرون كلمات الإعجاب. ثم ماذا؟ لا شيء آخر، أبداً لا شيء. لا الصالة انفجرت في مظاهرة، ولا هؤلاء الذين يرتقون درجات المسرح ينوون أن يفعلوا شيئاً ما، إذ يلتقطهم هواء الليل البارد، حيث تعشش الهزيمة وتتولد".
خاتمة: الحلم يتداعى
كان حلم ونوس بالكلمة - الفعل، أقوى من السرطان، الحلم بالثورة التي تولد وتكبر في المسرح. انتشر الحلم كما الجرثومة عبر أنحاء الجسد. تمركز في القلب، في الدماغ، وكان الورم الذي يكبر معه، الورم المزروع زرعاً بالأيادي التي تصفّق ولا تهتف، والأقدام التي تخرج من المسرح ببطء، كما تخرج من أي عرض مسرحي، ولا تصطف الساق لصق الساق، لفعل شيءٍ ما.
ومع ذلك، ما يزال الناس يسمّون موته موتاً طبيعياً، هكذا بكلّ بساطة، ناسين التصريح الذي كان بمثابة قتل: "الكلمة كلمة، المسرح مسرح، وإنّ الكلمة ليست فعلاً، وإنّ المسرح ليس بؤرة انتفاضة. كان الاستنتاج مخيباً ومرّاً، وكان الحلم ينأى منطوياً في سرابٍ ووهم. نعم، تبدّد الحلم وانطوى".
ستانسلافسكي والمسرح العربي
رجع فواز الساجر عام 1972 إلى سوريا، خريجاً من معهد غيتس الحكومي للفنون المسرحية في الاتحاد السوفييتي (كلية الإخراج). وفواز درس هناك على أحدٍ غير عادي، "روح زهرة المثقفين الأنتلجنسيا، صاحب الثقافة الواسعة والجمالي للعظم" كما يصفه يعقوب الشدراوي. درس فواز على يوري زفادتسكي، وزفادتسكي كان يقرأ، وهذه من صفاته، كان يقرأ لطلابه بوشكين، وهو كبير مخرجي مسرح "موسسافييت". وحين جاء فواز صار تلميذه، هو الذي تتلمذ عليه كثيرون. وفواز بين يدي زفادتسكي الممثل عند ستانسلافسكي، وإذ عمل مع ستانسلافسكي، طلبه فاختانكوف، وحين عمل مع فاختانكوف قال الأخير إنه منذ الآن بات يعمل مع ممثل. فواز جاء من هناك. يقول يعقوب الشدراوي لعبيدو باشا، هو فواز، هو فواز.
مع مجيء فواز الساجر، يقول سعد الله ونوس، سيبدأ تاريخ جديد للإخراج المسرحي، ستظهر الرؤية الإخراجية، وسيكون عمل المخرج بمثابة إبداع جديد للنص
رجع فواز إلى سوريا إذن، إلى حلب، وعمل مع المسرح الجامعي في حلب، ثم بعدها بسنتين مع المسرح الجامعي في دمشق، قبل أن يؤسس مع سعد الله ونوس عام 1977 المسرح التجريبي.
لكنه ذات يوم من أيام 1982، سافر إلى موسكو لدراسة الدكتوراه، وعام 1986 دافع عن أطروحته حول إشكالية تدريب الممثل العربي على ضوء منهج ستانسلافسكي.هذا الكتاب الوحيد لفواز الساجر، وهو رسالة الدكتوراه التي قدمها، ترجمها د. فؤاد المرعي، ونُشِرت عام 1994، بعنوان "ستانسلافسكي والمسرح العربي".
هذا العمل، كما يذكر فواز في المقدمة "هو المحاولة الأولى التي تهدف إلى أن تؤسس علمياً إمكانية استخدام منهج ك. س. ستانسلافسكي وجدواه في إنشاء مدرسة جديدة مبدئياً لفن التمثيل في المسرح العربي.
أبو ستانسلافسكي
يُعرف فواز الساجر في البلاد على أنه أبو ستانسلافسكي، هو الذي أحضر منهجه إلى البلاد، وأسّس له. يُقسم الكتاب المُشار إليه إلى ثلاثة فصول: المراحل الأساسية في تكوين الممثل العربي، التقاليد القومية والمؤثرات الأجنبية - قضايا ترجمة أعمال ك. س. ستانيسلافسكي إلى اللغة العربية - القيمة العملية لمنهج ستانيسلافسكي في المعاهد المسرحية العربية.
ويُعرَف فواز كذلك على أنه نقل التمثيل من الذهنية التقليدية القديمة، منذ مارون النقاش والقباني وجورج أبيض ويوسف وهبي وغيرهم، إلى ذهنية جديدة، مناسبة للقرن العشرين. ألقى فواز الساجر كذلك مداخلة في الندوة الفكرية لمهرجان دمشق العاشر للفنون المسرحية، عام 1986، بعنوان "في عمل الممثل على النص المسرحي".
مع مجيء فواز، يقول سعد الله ونوس، سيبدأ تاريخ جديد للإخراج المسرحي، ستظهر الرؤية الإخراجية، وسيكون عمل المخرج بمثابة إبداع جديد للنص. انتهى عصر التنفيذ، ورصف عناصر العرض في عملية تلزيق ينقصها الترابط والوحدة، وبدأ ظهور العرض المسرحي ذي الوحدة العضوية، الذي تتساوق فيه كل العناصر بدءاً من تكوين الفضاء وحتى اللوحة الأخيرة مروراً بأداء الممثلين والإيقاع ومختلف المواد البصرية والسمعية.
إذا كان يمكن الإشارة إلى الإنسان للتعريف به بكلمة، يُشار إلى فواز الساجر "الحب" وسعد الله ونوس "الحريّة"
على الرغم من أنّ فواز لم يخفِ حماسه لستانيسلافسكي، لكنه لم يكن ميكانيكياً أو أصولياً متزمتاً، بل كان يجمع بين أكثر من اتجاه إذا أحسّ أنّ طبيعة النص تسمح بذلك. كما نقرأ مع د. نديم معلا محمد في كتابه "فواز الساجر، مسرح توهج ولم ينطفئ"، وربما يكون هذا الكتاب الوحيد عن فواز الساجر.
الحب هو السر
لفواز الساجر عروض نادرة، لا في عددها وحسب، بل في معناها ومضمونها، كما تقول الشهادات الواردة عنها، وهي عشرة عروض بدون عرض "توراندوت" بالشراكة مع ونوس، الذي منعته الرقابة، سنة 1978.
-ما هو المسرح؟
- الحب طبعاً. بدون الحب يكون الألم والخيبة، لا شيء غير الألم والخيبة، لا شيء آخر. أما مع الحب فهو الجمال والمشتهى
في بروشور مسرحية "سكان الكهف" وهي آخر مسرحية أخرجها فواز عام 1988، يكتب الرجل في سياق العرض:
"ما هو المسرح؟
- الحب طبعاً. بدون الحب يكون الألم والخيبة، لا شيء غير الألم والخيبة، لا شيء آخر. أما مع الحب فهو الجمال والمشتهى".
هكذا كان تفسير فواز للمسرح، وألحّ طوال عمله على مفهوم الحب، فيما ألحّ سعد الله على مفهوم الحريّة.
"كنا نفتّش عن جمال أو إمكانية جمال، كنا نتساءل عن تعريفنا الخاص للجمال في العمل الفني. وقد جرّبنا أن نبلور هذا التعريف سلبياً. استعرضنا ما خطر لنا من أكوام البشاعات التي يغص بها الواقع، ونحيناها جانباً. ثم شرعنا نحدد بالتلعثم والهمس، ما يمكن أن يكون حلمنا في المسرح، وفي الحياة".
إذا كان يمكن الإشارة إلى الإنسان للتعريف به بكلمة، يُشار إلى فواز "الحب" وسعد الله "الحريّة".
بهذا الحب أحدث فواز الساجر خلخلة في المسرح السوري، وقلب أوضاعه. لم يخرج فواز من معطف أحد، هكذا نقرأ عنوان فصل من نديم معلا محمد.
الطموحات
في صيف 1976 بدأ فواز الساجر وسعد الله ونوس العمل معاً، وبعدا بعام كانا قد أسسا "المسرح التجريبي"، وأخرج فواز "يوميات مجنون" عن نص نيكولاي غوغول. وغوغول شهير بقصة المعطف، وثمة قول شائع في الأدب الروسي يُنسَب مرة لدوستويفسكي ومرة لتورغينيف يقول: كلُّنا خرجنا من معطف غوغول.
يمكن القول، إنّ المسرح السوري، على صعيد الإخراج والعرض والتمثيل، يمتدّ ذلك إلى التمثيل في الدراما السورية، كلّ هذا قد خرج من معطف فواز الساجر. وحين تتم قراءة سيرته، يُظنّ أنها مليئة بالإنجازات التي أراد تحقيقها، بلا عراقيل، بلا رقابة، بلا مشاريع مؤجلة. إلا أنّ له خيبته، كما كان لسعد الله ونوس خيبته.
نقرأ في شهادة نعمان جود، السينوغراف المسرحي الشهير، والذي صمم ديكور أغلب مسرحيات الساجر، أنّ الأخير كان يحلم أن يخرّج دفعة الممثلين الأولى من المعهد العالي للفنون المسرحية عام ١٩٨١، بالشغل على نص ونوس "سهرة مع أبي خليل القباني"، لا في إطار خشبة مسرح تقليدية، بل في مكانٍ آخر. واهتدى إلى مكتب عنبر في دمشق، لكن التكاليف الباهظة منعته من العرض هناك، فعاد إلى مسرح الحمراء، وبنى خشبته التي يريدها فوق خشبة المسرح. هذه واحدة من التحايلات التي كان يجريها الساجر، من أجل الصورة التي يريدها.
في شهادة د. جواد الأسدي، وعنوانها "الساحر - المسحور" نقرأ مثلاً شبيهاً بمعطف غوغول، وهو "هذا ممثل على الطريقة الساجرية".
توراندوت، خيبة مشتركة
لفواز الساجر خيباته الفرديّة، مثلما كان لونوس خيباته الفردية. لكنهما، كذلك معاً، أحسّا ذلك الطعم المُر لها، بعد بحثٍ شامل وجهدٍ رهيب، لتقديم لوحة تاريخية ملحمية، "تضيء الواقع بكثير من الحقائق والوثائق والترميزات".
أعدّ ونوس نص "توراندوت" لبريخت، ليخرجه الساجر في المسرح القومي، وهي أول مرة كان الساجر سيعمل فيها مع المسرح القومي.
انهمك الرجلان في البحث، عن وثائق فساد الأنظمة وآليات الفساد وموقف المثقف منه.
نبش فواز الصحف والكتب والمجلات القديمة وكلّف آخرين بالبحث والتنقيب. يومها، "عرفنا كم ملياراً يملك ماركوس رئيس الفليبين، وعدد فساتين زوجته، عدد الموتى من الجوع في العالم كل دقيقة، وأطروحات ملتوس الرهيبة... ويومها أيضاً تنبهنا إلى المواقف اليمينية والانتهازية لبعض كبار مثقفينا. وتراكمت لدينا فقرات ومواقف وتصريحات".
تأهب الرجلان لاستقبال الجمهور، حين انتصبت الإدارة فجأة لتطلب إخلاء الخشبة.
جلسا في أحد المطاعم القريبة من المسرح:
- والآن! قالها - أي فواز - وهو يغص بالبكاء.
- ألن نعمل في التجريبي! أجاب ونوس.
- ومن يضمن أنّ عرضنا القادم لن يُطوى كما طويت توراندوت؟
- لا أحد.
- وإذن؟
- لا شيء... قدرنا أن نعمل بلا ضمانات.
ثم طُوي المسرح التجريبي كلّه، بعد سنوات قليلة. مرةً جديدة: الحلم يتداعى.
الخلود
ما يزال الناس يسمّون موت ونوس موتاً طبيعياً، وكذلك يقولون عن موت فواز الساجر في الأربعين من العمر. أتخيّلهما اليوم، كما تخيّل ميلان كونديرا كلاً من غوته وإرنست هيمنغواي، معاً في مكانٍ ما، في مطعم قربَ مسرح. يقول سعد الله: إننا محكومون بالأمل، ما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ. اشتقت إلى المسرح، الذي لا بد أن يصير مدرسة الشعب. ويقول فواز: مسرح يغيّر ولا يتغيّر.
ألا يمكن أنهما، في المكان الذي هما فيه، يؤسسان لمسرحٍ جديد؟ يكتب ونوس بيانات له، ويُخرج الساجر العرض الأول، في أي مكان يريده؟ مكان واسع، لا رقابة فيه، ولا طيّ، ولا فقر أو جوع أو خيبات. مكان، ليس من الضروري أن تكون أوسع من الحلم، بل يكفي أن تتّسعه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...