في إحدى الزيارات القليلة إلى بيت خالي، كنت مراهقاً أجلس في الزاوية وأحاول ألا أبدو هناك. دار حديث غريب بين الرجال، فيه كلمات لم أفهمها تماماً، لكن نبرة الصوت كانت كافيةً لتجمّدني.
قال أحدهم، وهو يضحك نصف ضحكة: "ليش لحتى نغلّب حالنا؟ ابن عمتي ضابط بالحويّة".
ضحك الجميع. أما أنا، فلم أضحك. حفظت الجملة كما هي، بنبرتها، بتسلسلها، كأنها كلمة سرّ لعالم لا أفهمه تماماً، لكنني أعرف أنه أكبر مني بكثير.
اليوم، بعد كل ما تغيّر، سمعت جملةً قريبةً منها… تختلف معها فقط بكلمة واحدة: "ليش لحتى نغلّب حالنا؟ ابن عمتي شيخ".
لم يكن “الضابط” مجرّد منصب، بل مفردة تنتمي إلى لغة الخوف اليومية، كلمة يُقال نصفها وتُفهم كلها؛ البزّة، الرتبة، المكتب، الهاتف الذي لا يرنّ إلا ليُربك، والنظرة التي لا تحتاج إلى توضيح.
قال أحدهم، وهو يضحك نصف ضحكة: "ليش لحتى نغلّب حالنا؟ ابن عمتي ضابط بالحويّة".ضحك الجميع. أما أنا، فلم أضحك. اليوم، بعد كل ما تغيّر، سمعت جملةً قريبةً منها… تختلف معها فقط بكلمة واحدة: "ليش لحتى نغلّب حالنا؟ ابن عمتي شيخ".
في ظلّ النظام السابق، كان الضابط هو وجه السلطة، وذراعها، وصورتها التي لا تتوارى. لم يكن عدوّاً نعرفه، بل كان تجسيداً يومياً للقمع والمساومات والفساد.
تصرّفاته لم تكن تُقرأ بوضوح، بل كانت تُخشى، لأنّ القوة لا تسعى إلى أن تُفهم، بل إلى أن تُطاع، ولأنّ مَن بيده السلطة لا يُفاوض، بل يُلوّح بها.
ثم تغيّر شيء.
مع سقوط النظام أواخر 2024، لم تختفِ السلطة، بل غيّرت شكلها فحسب. ظهر وجه جديد، لا يحمل البزّة ولا الرتبة، بل شيئاً آخر: عمامة، لحية، صوت منخفض يُحيلك إلى النص لا إلى القانون. وبدأت تتكرّر كلمة جديدة، غريبة في هذا السياق، مشبوهة بنظافتها الظاهرة: "الشيخ".
في البداية، لم آخذ الأمر بجدّية. ظننتها طريقةً أخرى للناس في التعامل مع فراغ السلطة.
لكن الكلمة ثبتت، وترسّخت، وراحت تترافق مع جمل أعرفها جيداً: "استدعوه"، "خدوه لعند الشيخ"، و"خلّيه يشرح حاله".
أنا لا أصلّي. لم تكن علاقتي بالدين يوماً معقّدةً. في زمن الضابط، لم يكن أحد يسألني عن صلاتي. أما اليوم، فهي أول ما يُسأل. غيابي عنها صار ملفّاً صغيراً في حقيبة أحدهم، يُفتح عند الحاجة، أو عند الشبهة.
كلما سمعت مفردة "الشيخ" في هذا السياق، يغلبني الضحك. لا أدري إن كانت أذني تخونني، أو أنني بتّ أتهجّاها على هواي. أسمعها أحياناً "شيف" لا "شيخ”، كأنّ عقلي يحاول أن يفرّ من وطأة الكلمة إلى ما هو ألطف، أو أقل تهديداً. كأنها محاولة لا واعية لتجريدها من رعبها، وإلباسها قبعة الطاهي بدل عمامة السلطان.
لكن الضحك لا يُخفي الحقيقة.
أنا لا أصلّي. لم تكن علاقتي بالدين يوماً معقّدةً. في زمن الضابط، لم يكن أحد يسألني عن صلاتي. أما اليوم، فهي أول ما يُسأل. غيابي عنها صار ملفّاً صغيراً في حقيبة أحدهم، يُفتح عند الحاجة، أو عند الشبهة.
فالضابط والشيخ ليسا على طرفَي نقيض، ولا أحدهما نقياً من قمع الآخر. كلاهما وجهان لعملة واحدة، اسمها غياب القانون.
الضابط كان يدّعي تمثيل الدولة، والشيخ يدّعي تمثيل الله. وكلاهما، في النهاية، يمارس سلطته على الفرد باسم كيان أعلى لا يمكن الوصول إليه، ولا سؤاله.
الضابط كان يعذّب باسم الوطن، والشيخ يحاكم باسم الشريعة. الأول يلوّح بمذكّرة توقيف، والثاني يلوّح بنصّ مقدّس.
وفي غياب منظومة قضائية مستقلّة، يصبح الفرق بينهما شكلياً فقط، لا جوهرياً.
الأدوات اختلفت، أما المبدأ فواحد: سلطة لا تُحاسب.
ما يجعل "الشيخ" أخطر، ربما، هو أنّ صورته لا تزال نقيّةً في أذهان البعض؛ يظهر كصاحب حكمة، أو صاحب ضمير، أو رجل يسعى إلى التهدئة لا البطش.
لكن التجربة أثبتت أن هذا القناع لا يصمد طويلاً.
حين تُمنح السلطة لشخص واحد دون رقيب، سواء أكان ضابطاً أو شيخاً، فإنّ النتيجة متوقّعة. لا شيء أكثر فتكاً من صاحب سلطة يعتقد أنه على حق.
حتى اللغة تغيّرت.
لم تعد الأوامر تصدر على شكل استدعاءات مطبوعة ومختومة. صارت تأتي بصيغة نصيحة، أو فتوى، أو "طلب أخوي".
لكن خلف هذه النعومة الظاهرة، تقف سلطة حادّة لا تقلّ بطشاً عن سابقتها.
قال لي أحدهم مرةً: "الشيخ ما بيقسى عليك، بس بيخاف عليك من نفسك".
فكّرت طويلاً في هذه الجملة. بدا لي أنّ الخوف الأكبر ليس من الضابط الذي يعذّبك لأنه يشكّ فيك، بل من الشيخ الذي يعاقبك لأنه يظن أنه يحبّك.
في زمن الضابط، كنت تعرف من هو خصمك، أمّا في زمن الشيخ، فالخصم غير مرئي، ناعم اللغة، وغامض النوايا. الصمت الذي كان ملاذاً آمناً، صار يُقرأ على أنه تمرّد. والحياد الذي كان سلوك النجاة، صار موقفاً مشبوهاً.
في زمن الضابط، كنت تعرف من هو خصمك، أمّا في زمن الشيخ، فالخصم غير مرئي، ناعم اللغة، وغامض النوايا. الصمت الذي كان ملاذاً آمناً، صار يُقرأ على أنه تمرّد. والحياد الذي كان سلوك النجاة، صار موقفاً مشبوهاً.
الجلوس في الزاوية لم يعد كافياً.
لم تعد المسافة تُنجيك، ولا الصمت يمرّ بسلام.
في زمن الضابط، كان الصمت حيلةً. في زمن الشيخ، الصمت قد يكون دليل إدانة.
تسألك السلطة الجديدة: لماذا لا تتكلّم؟
ثم تجيب عنك: لأنه يخفي شيئاً.
ما حدث في سوريا لم يكن انتقالاً من قمع إلى عدل، بل من قمع إلى قمع بلغة أخرى،
من بزّة إلى عمامة، من أوامر إلى فتاوى، ومن استجواب إلى استتابة.
الخوف لم يختفِ، بل غيّر نبرته فحسب.
"رحلتي من الضابط إلى الشيخ" لم تكن رحلةً شخصيةً فحسب، بل صورة مصغّرة لما حدث في البلد.
موجة تلو أخرى، يحمل كل وجه جديد لغة خلاصه الخاصة، ثم يتحوّل إلى نسخة أخرى من القديم، لكن بلون مختلف.
وربما لأنّ هذا الشكل من الحكم ما زال غضّاً، طريّ العظام، لم يتجذّر بعد بما يكفي ليبقى؛
ستة أشهر فقط، وهذا وقت لا يكفي لتثبيت الخوف كجزء من الروتين.
ما زالت السلطة الجديدة ترتّب لغتها، وتختبر هيبتها، وما زال الناس يراقبون، يتعلّمون، وربما يستعدّون لقول "لا" بشكلٍ آخر، حين تحين اللحظة.
الخوف نفسه ليس قدراً، طالما لم نمنحه عمراً طويلاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.