شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
بعيداً عن سيف الرقيب… حيدر حيدر على

بعيداً عن سيف الرقيب… حيدر حيدر على "شط اسكندرية"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 13 مايو 202302:06 م

 كان يغافلني وينظر إلى عمق الأفق الأسود الملاصق لنا، كأنه يرى في البحر شيئاً لا نراه أو يتحدث إلى كائناته الخاصة. وبين حين وآخر يتذكر وجودي لإجراء حوار صحافي معه، فتخرج الكلمات بطيئة متزنة محملة بالمعاني التي تعكس أملاً لا يزال في تغيير العالم يتخطاه عادة من تجاوزوا الستين.

كانت تلك الجلسة هي لقائي الأول بالروائي السوري البارز حيدر حيدر (1936 – 2023) في الإسكندرية عام 2009، أثناء مشاركته في مؤتمر موسع عن الرقابة وحرية التعبير في الوطن العربي. استرجعت تفاصيلها التي لا تغيب عني في لقاء جميعني بالشاعر الفسطيني موسى حوامدة قبل يومين اثنين من خبر رحيل حيدر، في صباح الجمعة 5 مايو/ أيار الجاري عن عمر ناهز 87 عاماً.

ضم المؤتمر الذي استضافته مكتبة الإسكندرية في 2009، كثير من المبدعين العرب الذين تعرضوا لاتهامات بالتكفير بسبب أعمالهم الإبداعية، منهم الشاعر المصري حلمي سالم (1951 – 2012 ) الذي تعرض للملاحقة والتحريض على الاغتيال بسبب قصيدته "شرفة ليلى مراد"، والموسيقار مارسيل خليفة الذي تعرض في ذاك العام لعواصف من الاتهامات والتكفير بسبب تلحينه وغنائه لقصيدة "أنا يوسف يا أبي" للشاعر محمود درويش.

كما استضاف المؤتمر أيضاً الشاعر الفلسطيني موسى حوامدة الذي تعرض لاتهامات بالكفر بسبب ديوانه "شجري أعلى"، إلى جانب عديدين من أصحاب القضايا الفنية التي يدخل الرقيب طرفاً فيها، سواء كانت رقابة السلطة الدينية أو السياسية أو الاجتماعية.

اللقاء الأول الذي لا أنساه مع الروائي السوري حيدر حيدر كان خلال هذا المؤتمر، حيث كان الجميع مدعوين لجلسة سمر على شاطئ مدينة الإسكندرية في مقهى بلدي ملاصق للشاطئ، وقريب من مكتبة الإسكندرية التي ينعقد فيها المؤتمر.

جاء إلى مصر بعد ثماني سنوات من حملة شرسة قادها إسلاميو تلك الدولة ضده، وشهدت شوارعها مظاهرات صاخبة تطالب بتكفيره ومنع كتبه، جاء لأنه رأى أن عليه أن يمشي بين الناس ليفهم لماذا يفكرون بهذه الطريقة؟ ولماذا يحملون داخلهم كل هذا العنف ضد الإبداع؟

كان حيدر حيدر بصحبة نجله الدكتور مجد حيدر صاحب "دار ورد"، وبدا عليه حماساً لم يبد الكثير منه أثناء الجلسات الرسمية للمؤتمر، فالرجل يحب الحرية ويكتب بحرية، وكان "شط اسكندرية" بالنسبة له ملاذاً آمناً للتفكير والتنفس بحرية. كما أنه جاء إلى مصر بعد ثماني سنوات من حملة شرسة قادها إسلاميو تلك الدولة ضده، وشهدت شوارعها مظاهرات صاخبة تطالب بتكفيره ومنع كتبه من التداول، ومن ثم كان عليه أن يمشي وسط الناس ليفهم لماذا يفكرون بهذه الطريقة؟ ولماذا يحملون داخلهم كل هذا العنف ضد الإبداع؟

في هذه الجلسة، وبعد انتهاء تسجيل حواري معه الذي أجريته لصالح الصحيفة التي أعمل بها "المصري اليوم"، تحدث حيدر بصراحة بعيداً عن التسجيلات عن مرارته من الحملة الشرسة التي نظمت ضده في مصر بالذات "بسبب رأي رجعي". قال لي الروائي السوري الراحل "اعتدت المنع والمصادرة، لكن لم يصل الأمر أبداً لإباحة الدم، هذا يخرج عن إطار النقد؛ حتى غير الموضوعي منه، للإبداع".

كان حيدر حريصاً على ألا يتناول المؤسسات التي هاجمته بأسمائها، وكذلك التيارات الأصولية التي أحلت دمه، واعتبرهم يمثلون آليات للسلطة يمكن استخدامها وقت الحاجة لتأليب الجماهير وتحريكها والسيطرة عليها.

يومها، قال لي الروائي السوري الراحل "اعتدت المنع والمصادرة، لكن لم يصل الأمر أبداً لإباحة الدم، هذا يخرج عن إطار النقد؛ حتى غير الموضوعي منه، للإبداع"

وحين أسررت له بإعجابي بجرأته على الحضور إلى بلد ثارت فيها مظاهرات تطالب بدمه، كان رده بسيطاً: "أنا قادم إلى مصر ذات الميراث التنويري الكبير، وسط مجموعة من المثقفين والتنويريين، وبعيداً تماماً عن الأصوليين والموتورين الذين لا يعرفون قيمة الحرية أو الإبداع، ولكنهم يتحركون وفق أفهام مغلوطة لمن يعتقدون أنهم يمتلكون السلطة المطلقة والحقيقة المطلقة، وهذا أمر يجب أن يتوقعه المثقفون والمبدعون، وتكون لديهم آلياتهم الإبداعية للقيام بدورهم التنويري في مواجهة القوى الرجعية".

كانت جلسة ليلية صاخبة، قادها بروحه المرحة وحسه الساخر الأصيل الشاعر الراحل حلمي سالم، الذي كان وقتها يعاني من التكفير ودعوات إهدار الدماء التي واجهها حيدجر قبل سنوات بعد اندلاع أزمة بسبب بيت في قصيدته "شرفة ليلى مراد". لكن كانت الجلسة فرصة للتنفيس عن كل يدور في صدور 4 من الممنوعين العرب. حتى اليوم يتملكني شعور بالزهو كلما تذكرت هذه الجلسة على الشاطئ والكلام بحرية، ومناقشة كل قضايا وأمراض مجتمعاتنا العربية من دون مانع أو رقيب.

كانت الجلسة على شاطئ الإسكندرية بعد تسع سنوات من الأزمة التي اشتعلت في مصر بسبب رواية "وليمة لأعشاب البحر"، إثر نشر مقال تحريضي في  صحيفة يمينية مثلت عند نشأتها - للعجب- لسان حال أحد تيارات اليسار المصري

كانت الجلسة على شاطئ الإسكندرية بعد تسع سنوات من الأزمة التي اشتعلت في مصر بسبب رواية "وليمة لأعشاب البحر"، إثر نشر مقال تحريضي في  صحيفة يمينية مثلت عند نشأتها - للعجب- لسان حال أحد تيارات اليسار المصري، ما تسبب في اندلاع مظاهرات نظمها طلاب في جامعة الأزهر، التي اتهم بعض من أساتذتها المتشددين مؤلفها حيدر حيدر بـ"التطاول على الذات الإلهية"، ما يعتبر تكفيراً ضمنياً له، ومن ثم استباح سيف الرقيب هذه الرواية، ونصبت محاكم التفتيش مرة أخرى ضد مطبوعات الدولة في مصر، وتم منع أكثر من كتاب على هامش ما بات يعرف في الوسط الثقافي المصري بـ"أزمة الوليمة".

رغم كل ذلك كان حيدر حيدر هادئاً بسيطاً، وودوداً جداً مع الجميع خلال الأيام القليلة التي قضاها في مصر وقت المؤتمر، ولم يتوان عن طرح خارطة عمل لحماية المبدعين من سيف الرقيب الذي تعرض له ربما منذ عمله الأول "حكايا النورس المهاجر" (1968).

كان النقاش على شاطئ الإسكندرية يدور حول نقطة جوهرية في مسيرة التنوير العربي، مسؤولية التنوير عن المد السلفي والديني الذي يقف حائلاً دون حرية الإبداع، عن دور المثقف في المجتمع وهل عليه أن يلتزم بعادات المجتمع وتقاليده ومفرداته وقواعده، أم يتمرد على كل ذلك ويجذب معه أكبر عدد ممكن إلى طريق التمرد والتغيير؟ هل المثقف العضوي بتعبير غرامشي مازال موجوداً ومؤثراً في المجتمع؟ أم أنه أصبح أثراً بعد عين؟

الجميل في تلك الجلسة أنها كانت تنطلق من أرضية الاتفاق على أن الجمهور المتلقي، هو فرس الرهان الذي يمكن أن يكون مؤثراً في معادلة التغيير والتنوير.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image