هذا المقال جزء من ملفّ "بين الأسئلة المهنية والشخصية... رصيف22 في 2024"، بمناسبة نهاية العام 2024.
شعرت بخجل شديد وأنا أفكر في توجيه سؤال- ألحّ عليّ كثيراً في الأيام الأخيرة- إلى كتّابنا وكاتباتنا في غزة: "ماذا أكلتم اليوم؟". فقد لا يتبادر إلى ذهن أيّ محرر في العالم أن يُحيّد الأسئلة التي تقبع في جوهر العمل الصحافيّ مع الكتاب، كأسئلة الموضوع والأسلوب والابتكار، لمصلحة الحاجة الإنسانية الأولى: الطعام والدفء والأمان. بدا السؤال على قدر كبير من تجاوز الخصوصية. "صنعنا كفتا دون لحمة. استبدلنا اللحمة بعلبة سردين"، قال حسام معروف مطمئناً.
ولم يلحّ هذا السؤال بهذه القوة، إلا بعد نحو شهرين من الحصار المطبق على مداخل غزّة التي تُدخل الطعام، ومن السرقة العلنية والفاضحة للمساعدات، التي كتبنا عنها في رصيف22. ذلك حين بدا التجويع أكثر إيلاماً من الخوف، وأعظم إذلالاً من الموت: كيف سيكتبون تقاريرهم وهم جوعى؟ وكنت قبل بضع سنين قد تحدثت مع أصدقاء شعراء عن الجوع والركض كأساليب جسديّة- شعريّة لرفع منسوب التركيز لأجل الكتابة. لكن الذين جوّعوا أنفسهم، دلّلوها بعد الكتابة بوجبة ساخنة لذيذة. ومن ركضوا، مثل هاروكي موراكامي، كي يفرّغوا أذهانهم من فضلات الأفكار، دلّلوا أنفسهم بأريكة مريحة، وليس بأرضية رملية في خيمة باردة، تحت صوت الزنانة والموت العشوائيّ المتربّص بقماشها المهترئ والأجساد المتوجّسة تحتها.
شعرت بخجل شديد وأنا أفكر في توجيه سؤال- ألحّ عليّ كثيراً في الأيام الأخيرة- إلى كتّابنا وكاتباتنا في غزة: "ماذا أكلتم اليوم؟"
لكن الصحافيين في فلسطين لا يقتلهم القصف العشوائيّ، بل الأسلحة الدقيقة والقتل المتعمّد للصوت والصورة التي تُجنّ إسرائيل، وهي تراها تنتشر في كلّ بقاع الأرض، فيراها القاصي والداني، إلا الإسرائيليّ الذي لا يريد سوى مشاهدة قنواته الدوغمائيّة، وهي تستضيف جنوداً اغتصبوا أسرى فلسطينيين في "سديه تيمان"، ومسؤولين إباديين يدعون إلى قتل الأطفال الذين سيكبرون ويتحوّلون إلى "إرهابيين".
ومن الصحافيين الـ196 الذين اغتالتهم إسرائيل حتّى اللحظة في قطاع غزة، قُتل الصحافي في رصيف22، محمد عطا الله، مطلع عام 2024، تزامناً مع بداية عملي محرّرةً لقسم فلسطين في الموقع. لم أعرف محمد. ولم أعرف، إلا لاحقاً، أنه استشهد مع طفليه، تاركاً زوجته الحامل وراءه، لتُنجب بعد استشهاده بشهرين. لكنّ خوفي من اختبار التجربة صار يتعاظم، ويتعاظم معه السؤال حول الطريقة التي تستطيع فيها مؤسّسة إعلاميّة أن تحمي صحافييها تحت الإبادة والاحتلال، في اللحظة التي تتقزّم فيها معاني حماية حريّة الرأي، وتتحوّل القوانين الدولية إلى مجرد نكتة، وسلامة الصحافيين البدنيّة إلى مجرّد أمنية وليس حقّاً يُحفظ أو يُنتزع.
تتردّد دعاء شاهين يومياً إلى خيمة الصحافيين مقابل مستشفى شهداء الأقصى. هذا المكان لم يُقصف، هو الآخر، بشكل عشوائيّ. هذه بقعة يتجمّع فيها صحافيو المنطقة الوسطى والصحافيّون النازحون من رفح بعد اجتياحها. بعد كّل مرّة يُقصف المكان، تنتهي قدرتي على العمل، حتّى أتأكد أن دعاء نجت، كما نجت حين خرجت من تحت ركام المنزل الذي نزحت إليه للمرة التاسعة، وفقدت إثر قصفه عدداً من أفراد عائلتها. ذلك بعد أيّام معدودة من كتابتها تقريراً عن معاناة الصحافيين مع النزوح والحرب.
وعلى الرغم من أنّ دعاء تقول إنّها لم تنجُ. لكنّ نجاتها أمامي، في الأقلّ، تتبدّى في عملها، وعمل زملائنا الكتّاب في غزّة والقدس والضفّة الغربيّة والداخل، وفي التواصل النشط والأفكار الحيّة التي نتبادلها يومياً، والتي أشعر معها بأنّ مساحة رصيف22 هي مساحة لجذب الكتابة عن هذه النجاة، وعن الحياة المتمسّكة باللبنة الأخيرة من البيوت والأحلام المعلّقة. وأنّ الكتابة الصحافيّة، في زمن الإبادة، لا تعود أداةً توثيقيّة وحسب، بل تتحوّل إلى تجسّد للوجود أمام المحو، وللفعل أمام الشلل، وللمستقبل أمام قتل طرقه وآفاقه.
وقد تكون هذه المساحة هي الأداة الفعلية، في يد المؤسسة الإعلامية، للحفاظ على صحافييها. المساحة التي نُغذيها بفتح قناة بين الجغرافيا المحاصرة في فلسطين والجغرافيا العربية الممتدة التي تقرأ رصيف22، وبالانفتاح على نقد ما يبدو، لكثيرين، شأناً ثانوياً في زمن الحرب، كنقد السلطة أو مساءلة صورة الانتصارات الوهمية أو كتابة قصص الحيض في الخيمة، وبفضح المظلومية الواقعة على الصحافيين كجزء من أبناء شعبهم. فهم الشخصيات الرئيسة غير المرئية في تقاريرهم، وتجاربهم الشخصية تكاد تتطابق مع التجارب التي يكتبون عنها.
بعد ساعات من تبادل رسائل "الواتس أب" مع محمد أبو دون، حول كيفية تغطيتنا حملة القتل والحصار المسعورة التي شنها الجيش الإسرائيلي على شمال القطاع، حوصر محمد في جباليا. ثمّ استطاع بعد أيّام النزوح إلى أقرب نقطة في مدينة غزّة من جباليا. لكن بين حصاره ونزوحه وفقدانه الاتصال بخطيبته وعائلتها، ثمّ نزوحها وقتل أخيها، كنت أفقد الاتّصال بمحمد.
الكتابة الصحافيّة، في زمن الإبادة، لا تعود أداةً توثيقيّة وحسب، بل تتحوّل إلى تجسّد للوجود أمام المحو، وللفعل أمام الشلل، وللمستقبل أمام قتل طرقه وآفاقه
منذ ذلك الحين، لم يكتب شيئاً، كما لم يكتُب عن حصاره الشّخصيّ. بعدما كان من المواظبين على إيقاع كتابة دائم، وتواصل مستمر بشأن الأفكار والمواضيع. يختفي محمد، ثمّ يردّ على رسالتي القلقة، محمّلاً بأخبار عن الكوادكابتر المتربّصة ببيته، وبأمنياته بالخلاص القريب. تتناءى علاقتي به كمحررة، فلا أعود أسأله عن المواضيع المؤجلة. أطمئن على حاله بالرسائل وأصمت. ثمّ يتقزّم مع هذه الرسائل معنى العمل الصحافيّ، ليعاود الحضور في تفكيري بقصته، على أحد أن يكتبها، لأن على أحد أن يقرأها. لكن من يكتب قصة محمد؟ وما هي لحظة الكتابة المواتية عند إنسان مُحاصر بالنار والتجويع والخوف؟
لم يَغِبْ محمّد فقط، بل غابت هلا الزهيري لبعض الوقت أيضاً. ولم أفهم سبب غيابها إلا بعدما أخبرتني أنّها كانت تنتظر، مع عائلتها، خروج أخويها اللذين اعتقلتهما إسرائيل بعد بدء حرب الإبادة على غزة. لكنّ أمل العائلة في لقائهما خاب بعدما جدّدت إسرائيل اعتقال إبراهيم، الأخ الأكبر، وأبقت على الاعتقال الإداري للأخ الأصغر حمودة، الطالب في جامعة بيرزيت، قضاء رام الله.
أتحدث أنا وهلا في مواضيع تخصّ الأسرى الفلسطينيين. هذه منطقة اهتمامها، دون أن نقول ذلك جهاراً. تواصلنا بعد غيابها، لكنّنا لم نجدّد العمل حتى اللحظة، التي يبدو فيها هذا الاهتمام بشأن عام لصيقاً بقصتها الشخصيّة، ورديفاً لألمها، الذي ربّما يمنعها عن الكتابة.
ثمّ غابت ظريفة، الكاتبة الجديدة في رصيف22، فور تسليمها تقريراً عن الناجين الوحيدين من مجازر غزة. لا أعرف ملمحاً أو تفصيلاً صغيراً عن حياتها. لم نتبادل بعدُ أطراف أيّ حديث. لكن تحرير تقريرها- التي جمعت فيه قصص أطفال ونساء ورجال فقدوا كلّ عائلاتهم وظلّوا وحيدين يقارعون حياتهم وحياة مدينتهم المتهالكة- تماهى مع غيابها، فحضرت ظريفة فيه تماماً كما حضرت القصص التي جمعتها. هل نجت ظريفة بالقصص قبل أن ترحل؟ أم أنها ستنجو فعلاً، كما نجا أبطال قصصها، فتُعاود الكتابة؟ كانت هذه الأسئلة التي كنت أصحو عليها، قبل أن تلتقط ظريفة شارات الإنترنت وتكتب لي من جديد.
أرى في هذا الغياب المؤقت للكتّاب- عن حياتهم المهنية، والذي يُدفعون إليه دفعاً بفعل التوحّش الذي يُمارس عليهم- محاولة لتغييبهم، صحافيين وبشراً، عن حياتهم الطبيعيّة وعن مستقبلهم المهنيّ الآمن والمُضيء. والتغييب جرمٌ إسرائيليّ متعمّد، وفعل واقع ليس على الفرد الصحافيّ وحسب، بل على مكانه ومجتمعه ومؤسّساته وثقافته. كما أنّه ليس فعلاً عسكريّاً فقط، متجسّداً في القتل والتدمير، بل هو فعل سياسيّ تتفرّع أشكاله، فنراه موجّهاً، أيضاً، صوب عزل فلسطينيي الداخل عن الجسد الفلسطينيّ، وكتم الصّوت والنصّ، ومحو الهويّة الناطقة فيهما.
لكن أمام آلة السحق هذه، التي تعمل ليل نهار، يرفض الفلسطيني، والصحافي، على نحو فطري وغريزيّ، أن يُمحى. لقد أنتج رصيف22 خلال عام متسارع من الإبادة والقتل والتطهير والإسكات وقوننة التوحّش، رفقة كتّابه وكاتباته، كماً كبيراً من التقارير والمقالات والمواد المصوّرة التي يتجسّد فيها هذا الرّفض، كفعل مقاومة أمام التغييب، من خلال توثيق قصص الناس على الأرض، وتشبيك الأخبار التي تتوالى ضمن قراءة معمقة لها، ومن خلال إضاءة ما يتعتم في هذا الجرف المتسارع للقضايا، التي يُهرس تحتها الإنسان وتُنزع عنه إنسانيته.
وآلة السحق لا يمكنها أن تستمرّ وتنمو، إلا عبر تغذيتها بإلغاء مستمر للآخر؛ إلغاء الفلسطينيين كبشر، وحرمانهم من إنسانيتهم. وفي حين يصمت العالم أمام مسؤوليته إيقاف محرك هذه الآلة ومساءلة إسرائيل، تصير الكتابة أكثر إلحاحاً من ذي قبل. وحماية الأصوات التي تصنع هذه الكتابة، تغدو أولويّة ومفتاحاً للظفر بسردية حقيقية، مقابل الزيف والفبركة والقوة.
أمام فلسطين عام قاس كسابقه، وأمام قسم فلسطين في رصيف22 عام من مجابهة المحو الإسرائيليّ بالتوثيق والتحليل الذكي والشجاع، عام من مجابهة البروباغندا والسلطة. ينتظره عام من انتزاع الأسئلة من فكّي الإجابات الجاهزة، ومن النقد الذاتيّ الذي لا يتلعثم. هو عام من إعلاء شأن من هُمّشوا ونُزعت حقوقهم، شأن الإنسان وقصّته الشخصيّة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...