"تركني وترك ألوانه وهرب. لحقته فوجدته ينبش بالرمال. وإذا بجده يخبرني بأنّ هذه هي حالة محمد منذ أن نجا وحده من مجزرة لم تبقِ له لا أماً ولا أباً ولا أخاً"، تقول الاختصاصية النفسية إسراء الأخرس لرصيف22، عن طفل وجدته مصادفةً في أثناء لعبة جماعية للأطفال.
محمد ذو السنوات الستّ ليس سوى واحد من أعداد كبيرة من الأطفال الذين نجوا من مجازر الجيش الإسرائيلي منذ بدء حرب الإبادة على قطاع غزة. صحيح أنّه لم يُصب جسدياً، لكن الإصابة النفسية محتمة لدى أولئك الذين فقدوا كل شيء يُشعرهم بالأمان. ومن هذه الحرب الوحشية، ظهرت ظاهرة "الطفل المُصاب المتبقي الوحيد من عائلته". لكنها لم تتوقف عند الأطفال فقط.
فقد أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية عن نحو 2،271 ناجياً في غزة حتى نهاية تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم، وهم من الأطفال والشباب وكبار السن.
هكذا نجت… معلقة على شجرة
بلغة تحاول التشبث بالأمل، تروي حنين الخضري (25 عاماً) حكاية نجاتها وحيدة من عائلتها التي استُشهد جميع أفرادها بعد قصف بيت العائلة في منطقة النصر في غزة. وكان قد استُهدف بيت مُجاور لبيتها قُتل على إثره ابن أخ لحنين وعمها وزوجته ويصاب أخوها وزوجته وابنتهم بإصابات خطرة.
تقول حنين لرصيف22: "بالنظر إلى وضعنا الجديد بعد استهداف البيت المجاور، ومعنا مصابون من العائلة، أصبح من المستحيل النزوح إلى الجنوب، فنزحنا من منطقة إلى أخرى داخل غزة، حتى وصلنا إلى شارع يافا عند جدي لأمي".
أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية عن نحو 2،271 ناجياً في غزة حتى نهاية تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم، وهم من الأطفال والشباب وكبار السن
تعود ذاكرة حنين إلى اليوم الذي انتهت فيه الهدنة الإنسانية عند حلول الساعة السادسة صباحاً. استيقظت لتكتشف أن أختها لم تنم بسبب سهرها على زوجة أخيها المصابة. حينها قررت حنين أن تعد الحليب لابن أخيها، الحليب الذي سيشربها هذا الرضيع لآخر مرة قبل سقوط صاروخ على البيت، سيُلقي بحنين خارجاً وتكون معلقة على شجرة زيتون بجوار المنزل.
"استيقظت في المشفى، الشظايا تملأ ظهري والغرز في رأسي. وجسدي مشوّه. لم أر بجانبي سوى ابن خالتي. سألته أين أهلي؟ فأجابني أنهم بخير وصار يبكي. لم أفهم الأمر وعدت إلى غيبوبتي"، تقول حنين.
وبعد غيبوبة دامت 14 يوماً متواصلاً، تركت المشفى ونزحت عند خالتها، وقد أخبرها الأقرباء أن أهلها مصابون في المشفى المعمداني ولا أحد يستطيع الذهاب إليهم لخطورة التنقل.
تضيف حنين: "طيلة هذه المدة، كنت أجهز لأمي وأبي وإخوتي وأولادهم كل شيء، أشتري كل ما يحبونه ويتوفر في السوق، فأحتفظ به لحين لقائي بهم". لكن بعد 35 يوماً على هذا الحال، قرر الأقرباء مصارحتها. "صرحت بأعلى صوتي: بقيت وحدي يا الله".
كانت حنين لا تزال مصابة، والشظايا عالقة في ظهرها، حين أدركت أن اسمها قد يُدرج في لائحة الخارجين للعلاج في مصر، شريطة أن تنزح نحو الجنوب وتغادر من معبر رفح. فنزحت وحيدة، واجتازت حاجر "نتساريم" المرعب الذي يفصل شمال غزة عن جنوبها.
"عندما وصلت رفح، أدركت أني تُركت وحدي، وشعرت أنني أدخل في اضطراب ما بعد الصدمة الذي كنت قد درست عنه حين كنت طالبة علم نفس في جامعة الأزهر في غزة"، تقول حنين.
وتردف: "منذ ذلك الحين، لا آكل ولا أنام بشكل طبيعي. أعيش في عزلة دائمة. الشيء الوحيد الذي أفعله هو الانتظار؛ انتظار فتح معبر رفح وسفري للعلاج".
عقدة الناجي تلاحقهم
تقول حنين إنّ أولاد أخيها هم السبب الذي يبقيها متوازنة. تتذكر عملها التطوعي في مؤسسات وفرق مسرح الدمى، وتعود مرة أخرى لتمسك بدمية وتحركها، فترسم البسمة على شفاه الأطفال. "أحب أبناء أخي كثيراً. حين أجالس الأطفال أشعر بأنهم حولي".
ووسط هذا الحزن، تعبر حنين عن امتنانها للأعمال التطوعية التي تمارسها، لاعتقادها أنها تحجب عنها الأفكار السلبية وتريح عقلها من التفكير.
"أنا ميت قيد التنفيذ"، يقول إبراهيم عودة (27 عاماً) متنهداً. بعد أن فقد كل أفراد أسرته ونجا من إصابة بالجمجمة. استيقظ من إصابته فوجد أن أهله صاروا مدفونين. ثم نزح من الشمال من بيت دبابات الجيش الإسرائيلي عبر حاجز "نتساريم"، ليعيش في خيمة في الجنوب، وحيداً.
قررت حنين أن تعد الحليب لابن أخيها، الحليب الذي سيشربها هذا الرضيع لآخر مرة قبل سقوط صاروخ على البيت، سيُلقي بحنين خارجاً وتكون معلقة على شجرة زيتون بجوار المنزل
تعلق الاختصاصية النفسية إسراء الأخرس على هذه الحالة: "من الممكن أن ينتاب الناجي شعور بالذنب تجاه الحدث. ولدى إدراكه بأنه غير قادر على تغيير الواقع، يروح يُعاني بشكل كبير من الذنب والشعور بعدم الاستحقاق والقلق والاكتئاب والكوابيس. وهذا ما يُعرف بعقدة الناجي".
وقد شاهدنا عبر مواقع التواصل شهادات كثيرة لناجين تمنّوا لو أنهم ماتوا مع أسرهم، أو تمنوا اللحاق بهم إلى الموت، أو تمنوا أنهم لم يجدوا أحداً ينقذهم.
"فور وصول الحالة إليّ أبدأ بالعمل على ما نسميه "إدارة الحالة". وهي عبارة عن استبيان يتم تعبئته ورفعه للجهة الداعمة، التي قد توفر للطفل الناجي مأكلاً وملبساً واحتياجات مادية"، تقول الأخرس.
وتتابع: "أما الخطوة التالية فتتمثل بتقييم وضعه وأعراضه النفسية، فإذا كانت الأعراض السلوكية ظاهرة، كقلة الكلام أو غيرها، تتم معالجته بشكل فردي. الأطفال نعالجهم باللعب أو الرسم".
وبعد التعامل الفردي تبدأ رحلة الدمج في المجموعات، بحسب الأخرس. وهي عبارة عن أنشطة وألعاب لمجموعة من الأطفال أو جلسات للكبار يجتمعون فيها في مكان ما. في غزة، يجتمعون في خيمة، خلال لقاء يهدف إلى إعادة البناء الاجتماعي للناجي.
يقول إبراهيم: "فقدت الذاكرة لفترة بسيطة. ثمة أمور لا أستطيع تذكّرها حتى اللحظة. أشعر أني أحمل الاسم نفسه لكني شخص آخر". وهذا ما أكدته الأخرس حين اختصرت حالة الناجي الوحيد بعبارة: "ما كان قبل الحادث ليس كما بعده".
ناجون لم ينجوا تحت الحطام
يعدد المسعف أشرف الشنطي عدد الناجين الذين انتشلهم من تحت الحطام. "كثيرون"، يقول لرصيف22. "وكثيرون كان الموت حليفهم ليتحولوا من ناجين وحيدين إلى أفراد عائلة مُسحت من السجل المدني بفعل عدم القدرة على إسعاف المصاب.
يتتبع المسعف رحلة الإنقاذ، التي تبدأ منذ لحظة وصول إشارة إلى فرق الإسعاف بالتحرك نحو المكان المستهدف، ومن ثم التعاون مع أجهزة الدفاع المدني لإزالة الركام بالأيدي، ثم إخراج الجثث والإصابات التي يجدونها في طريقهم وهم ينادون: "هل من أحد هنا؟". وأحياناً يصلون إلى مرحلة لا مُجيب فيها.
في هذه اللحظة تسأل فرق الدفاع المدني أحداً من الجيران أو الأقارب عن عدد الأفراد الموجودين في البيت، ثم يُقارن العدد بعدد الإصابات الجثث التي انتشلوها. ومن لم يستطيعوا إخراجه سيبقي تحت الحطام حياً أو ميتاً. وبهذا، تكون احتمالية وجود ناجي سيفارق الحياة تحت الركام كبيرة جداً.
فقدت الذاكرة لفترة بسيطة. ثمة أمور لا أستطيع تذكّرها حتى اللحظة. أشعر أني أحمل الاسم نفسه لكني شخص آخر
ولا ينسى أشرف القصص المؤثرة التي واجهها لناجين وحيدين من أسرهم. في إحداها، انتهى هو ورفاقه من انتشال جثامين جميع أفراد العائلة، وهموا بالمغادرة. ليجدوا صدفة طفلة تبلغ من العمر ثمانية أشهر على قيد الحياة.
أثر الحالات على العاملون في المجال الإنساني
لم تتمالك إسراء نفسها حين تذكرت لحظة هروب الطفل محمد، ونبشه بالرمال، كأنه يبحث عن والده ووالدته وأخيه. معتبرةً أن هذا الموقف قد يكون الأقسى في مسيرتها المهنية، فهي لم تستطع حتى الآن تجاوز هذا الحادث الأليم.
أما الطبيبة المتطوعة في مشفى ناصر براء صبح، فاضطرت بعد أن خاطت رأس شاب يبلغ 17 عاماً، أن تخبره بأنه عليه أن يكابد الحياة وحده، بعد أن لحقت أمه وأخاه بأبيهما الذي استشهد قبل أعوام.
تقول براء لرصيف22: "أعيش حالة من جلد الذات على ما تسببته حين رد الشاب على كلامي. فقد بدأ بالبكاء والصراخ بصورة مؤلمة". وتضيف: "جئت إلى مهنة كي أخدم الناس بعد أن تخرجت من جامعة في السودان. هذه الحرب الأولى التي أختبرها كطبيبة، كيف لي أن أحتمل هذا أمامي؟"
الأمر مشابه لدى أشرف الشنطي، "أعمل منذ 24 عاماً مسعفاً في خدمة أبناء شعبي. لكني لم أعش كهذه الحرب من قبل".
ويختم: "انتشلت نحو سبعة أطفال، نجوا وحيدين دون عائلة أو حماية أو أمان. وهذا يشكل عندي مصدر خوف رهيب على أبنائي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نايف السيف الصقيل -
منذ يوملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف