شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
ماذا رأيت في عيون الغزيين على طابور الخبز؟

ماذا رأيت في عيون الغزيين على طابور الخبز؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

عندما يغزو الجوع أرضاً أتقنت الكرامة طويلاً، لا يمرّ دون أن يترك أثراً عميقاً على النفوس والسلوكيات والطباع. في غزة، كانت الولائم رمزاً لجود الناس، وطريقة للترحاب والتفاخر. لكن الآن، وخلال حرب الإبادة، أصبح الجوع معلّماً جديداً وتغير حال الناس، من مجتمعٍ يتشارك الخبز بنكهة الحب والمروءة والكرم، إلى أفراد يسابقون الزمن من أجل تحصيل الطحين. والشحوب والقلق والفتور غالبة على وجوههم. أجسادهم مستوحشة تحمل فوق أكتافها قانوناً جديداً، يبدو أقرب إلى قانون الغاب.

لطالما حملت غزة صفات كريمة، تعود لأصول راسخة من العادات، وطباعاً ودودة متعلقة بالمروءة لدى معظم سكانها. كان التكافل سلوك أهل المكان، فلا يُترك محتاج دون سند، ولا يجوّع أحد. عكف ميسورو الحال في غزة على أن يضعوا في حسبانهم عدداً من الأقرباء المحتاجين، يتفقدونهم ويطعمونهم ويعطونهم المال كمساعدة، لا سيما في المناسبات، كشهر رمضان والأعياد. فيأكل الجميع، ويفرح الأطفال والنساء في مدينة الكرم.

الرائحة

أذكر في طفولتي، كيف كانت أمي تعجن الدقيق؛ تضع ما يقارب ثلث ما تخبز في يد الصغار. وكنا نفرح "بالخبز الطازة" أكثر من فرحتنا بالحلوى. تلك الرائحة تحولت إلى ذكرى مؤلمة، ليس لأني فقدت أمي، بل لأننا فقدنا الدقيق اللازم لصناعة الخبز. والخبز في غزة هو ميزان الشبع، لا تمتلئ معدة الغزاوي دونه.

كان مخبز "العائلات" هو أشهر مخابز غزة، عند مفرق أبو طلال غرب غزة، وُضعت في واجهة المخبز يافطة "صُنعت بحبّ". يأتي إليه الناس من كل مكان، ليشتروا خبزه ومعجانته وحلوياته الشهية.

تضع ما يقارب ثلث ما تخبز في يد الصغار. وكنا نفرح "بالخبز الطازة" أكثر من فرحتنا بالحلوى. تلك الرائحة تحولت إلى ذكرى مؤلمة

كانت الساعة الثالثة عصراً تشهد ازدحاماً مرورياً بفعل وجود هذا المخبز. كنت أشهد الفرح في عيون الناس في ذلك المفرق. وكانت غزة تتزين بالحب والتكافل، فجميع الناس كانوا يأكلون "خير غزة"، دون استثناء. وكان الخبز مثل العجلة الدوارة بين البيوت، الجميع يهدي إلى من حوله خبزه، كأنه يهبه سر الحياة.

عيون الناس على طابور الخبز

أدى انقلاب الوضع الأمني في غزة لتذبذب حال أهلها اجتماعياً واقتصاديا. فقد تجد شخصاً كان مقتدراً قبل عشر سنين، وأصبح اليوم في أمس الحاجة لأساسيات الحياة، بسبب دمار ممتلكاته ومقدراته. ربما قصف متجره أو هُدمت بنايته، فيسنده أخوه أو ابن عمه، ويساعده كي يمر من النفق المظلم. وقد تتبدل الأدوار في وقت آخر، بسبب تقلبات جديدة.

جاءت حرب الإبادة. نزح الناس من بيوتهم، وخرج كثيرون منهم دون مالهم ومجوهراتهم، تحت القصف والتهديد وأهوال الجبروت الإسرائيلي. فانكشفت "سترة" المقتدرين واتجهوا للتسول من أجل تعويض الخسارات الثقيلة والبقاء على قيد الحياة.

هناك مثلث برمودا في غزة، لا يتم تفسيره حتى الآن، لكن من الواضح أن الاحتلال وتجار متعاونين معه، وآخرين مجهولين، يسرقون شاحنات الدقيق العابرة لغزة كل يوم. وهو ما أنتج أزمة خانقة في تزويد الناس بالطحين والخبز، حتى شارف وسط غزة وجنوبها المكتظ بما يقارب مليون وسبعمائة ألف غزاوي، على المجاعة.

وقبل أيام قتلت أربع نساء وطفلتان في حادثين منفصلين، على أبواب المخابز في غزة، منهن من قتلن برصاص أحد المصطفين في الطابور الهائل من أجل الحصول على الخبز، والأخريات قتلن بفعل التدافع.

أغلقت المخابز الرئيسية بعد الحادثتين، وارتفع سعر قطعة الخبز العراقي وسط غزة وجنوبها إلى دولار أمريكي. وهذا يعني أن عائلة مكونة من أربعة أفراد، تحتاج لدفع عشرين دولاراً يومياً، للوصول إلى الشبع، ضف على ذلك الأكل المرافق للخبز. ما يعني أن البقاء على قيد الحياة يقترب من المعجزة.

هل أشارك هذا القليل مع أخي أم أحتفظ به لعائلتي؟ في ظل هذا الشح، تولّد الصراع وانطلق ليعصف بتماسك النسيج الاجتماعي بين الخيام. أصبح المجتمع سوقاً مفتوحاً للطمع، حيث الأفضلية للأقوى، أو ربما للأكثر مهارة في الالتفاف على الأخلاق القديمة

صار الخبز في وسط وجنوب غزة، الرف العالي الذي لا يمكن الوصول إليه. وباتت الأمهات يخضن اختبارات صعبة أمام أطفالهن بفعل انقطاعه، فلا إجابات مقنعة لطفل بمعدة خاوية، ولا يتوقف البكاء دون طعام.

فجأة، صارت الحياة بخيلة على أهل غزة؛ جاع أهل الكرم، وغابت عن موائدهم الذبائح والخبز والمقبلات. وصار التقشف والجوع واشتهاء الطعام دون تلبية غريزية، جزءاً أساسياً من يوميات الغزاوي خلال حرب الإبادة.

كان الكرم الغزاوي علامةً. فلا ضيف في غزة يُطرد، ولا غريب يُهان. في البيوت، تجد صحون المقلوبة والفتة والمشاوي تكاد لا تنتهي، والولائم تفيض على الحي بأكمله. لكن عندما توقف شريان الغذاء، تغيّرت قواعد اللعبة.

أقف ثلاث ساعات في طابور الخبز، وفي جسدي حبة مسكن لآلام الظهر. جميع من حولي ينظرون بعيون باتت غريبة. لعل القلق والجوع غيرا شكلها ولونها، فلا ألمح سوى الشراسة، وكأنها محاطة بالشوك، بحيث تلغي أي قدرة على التواصل، وهو أمر مرعب أن يتم ترسيخه مستقبلاً بين الناس. أحصل على 12 قطعة خبز عراقي بعشرة دولارات، وألعن من تسبب لنا بهذا القهر.

في السوق، تضاعفت الأسعار بشكل جنوني. أكياس الدقيق أصبحت أحلاماً، وزيت الطبخ أغلى من قدرة الناس. حتى صار الرجل يسأل نفسه: هل أشارك هذا القليل مع أخي أم أحتفظ به لعائلتي؟ في ظل هذا الشح، تولّد الصراع وانطلق ليعصف بتماسك النسيج الاجتماعي بين الخيام. أصبح المجتمع سوقاً مفتوحاً للطمع، حيث الأفضلية للأقوى، أو ربما للأكثر مهارة في الالتفاف على الأخلاق القديمة.

الغريب أن جميع المواد الغذائية المتاحة للطبخ، تقتصر على المعلبات والخضار باهظة الثمن،. حتى وإن تمكننا من الطبخ، فإن الكمية قليلة ومكلفة جداً، ولا تشعرنا بالشبع. التكلفة الأقل للطبخة تبلغ قرابة 40 دولاراً. حتى لو كانت مصنوعة من العدس. ما يعني أن بقاء عائلة مكونة من أربعة أشخاص على قيد الحياة في غزة، يتطلب خمسين دولاراً كحد أدنى في اليوم.

البقاء للأقوى

صار الخوف يرافق الناس كظلهم، خوف من المستقبل، ومن أن يكون الغد دون طعام. خوف من عدم المقدرة على تلبية الرغبات الجسدية، التي تسد الجوع وتقيت الجسد.

ثمة حاجز ما بين الغزيين والراحة، منذ أكثر من عام، يكبر ويتعزز كلما تم منع الطعام من المرور عبر معابر القطاع، ويزيد من عزل الإنسان عن الحياة، مع استمرار الغلاء والعجز عن شراء الحاجات الأساسية.

كان التماسك الأسري في غزة منتجاً يمكن تصديره للعالم، لكن الروابط تقطعت بفعل التهجير، وانزوت عائلات كثيرة، مفككة، متشظية، منقسمة، بفعل قسري من الاحتلال. هذا ما أخل بالنظام الاجتماعي، وعقّد الحال بتركيبة جديدة قائمة على الفردانية.

تعززت فكرة تفضيل النفس بفعل هذا التشتت، وبفعل شح الطعام. إذ غابت الصورة الجميلة للإيثار، والتفقد المعتاد من أفراد العائلات الغزية لبعضهم البعض، وانهار التلاحم الحميمي، وباتت الغربة والعوز منتشرة بكثرة.

كان التماسك الأسري في غزة منتجاً يمكن تصديره للعالم، لكن الروابط تقطعت بفعل التهجير، وانزوت عائلات كثيرة، مفككة، متشظية، منقسمة، بفعل قسري من الاحتلال

حتى العائلات التي تمسكت بالسلوك القديم، واجهت إشكاليات جديدة بفعل انقطاع وشح الغذاء. فلا طعام يكفي للجميع، ومن يحصل على طرد غذائي، أو جزءاً من القمح، أو المواد الغذائية، يستأثر بها لنفسه، تاركاً الآخرين، لأنه يعلم بأن المتوفر لا يكفي لسد رمق الجميع، ولأنه يتخوف من عدم حصوله على الطعام مرة أخرى.

هكذا، بدأت غزة تتحول تدريجياً نحو القاعدة الدارونية: البقاء للأقوى. وصار سلم الغرائز بين الناس أكثر وضوحاً، فمن يستطيع تلبية حاجة الطعام الغريزية قبل الآخر، يكون الأقوى والأقرب للنجاة من الإبادة.

لقد دخلت غزة الطريق المرعب في البحث عن الطعام، وصار الإنسان فيها وحيداً، مائلاً للعزلة، لا يثق بأحد، خاصة بعد تزايد السرقات وعمليات السطو. وصار لا يشعر بالشبع، نظراً للنقص الشديد في إمدادات التموين والمساعدات. تلك البشاعة الكثيفة التي حدثت بحق الناس الأبرياء، أعادت ترتيب سلم الأولويات لديهم، حتى صارت الأنانية أمراً مُلحاً على المرء، من أجل نجاته من النهر الحزين.

قد يستغرق التخلص من هذا وقتاً طويلاً. وستكون غزة، مستقبلاً، مختبراً للحاجات والغرائز. فعندما يفقد الإنسان كل ما يملك، وكل ما يجعله داخل حيز الحياة،لا يفكر عندها إلا بالموت، وفلسفة المقابر. فلا يقتصر الجوع على فراغ المعدة، وإنما يعيد تشكيل الإنسان وفقاً لدرجة جوعه، ودرجة تقبله للوضع الجديد. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نفكر بالأطفال من أجل اليوم والغد

"هيك متعودين. هيك كانوا يعاملونا أهلنا"، وغيرها من الإجابات الجاهزة، تؤدي إلى تفادي التغيير.

المستقبل المشرق، هو أن يعيشوا في أيامنا هذه حياةً سليمةً.

كيف؟

عبر تسليط الضوء على قصصهم، وما يؤثر في حيواتهم، والمطالبة بحقوقهم وحسن تربيتهم.

من خلال التقارير والمقالات والحوارات، يمكن للإعلام أن يدفع نحو تغييرات في السياسات التربوية، وأن يعزز الحوار الاجتماعي حول قضايا الأطفال.

معاً نطرح القضايا الحساسة المتعلقة بسلامتهم النفسية والجسدية والبيئية والمجتمعية.

حين نرفع أطفالنا على أكتافنا، نرى الغد بعيونهم كما لو يكون الآن.

Website by WhiteBeard
Popup Image