شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
لا تلتفت لهن خطط الحكومة… كيف يهدد

لا تلتفت لهن خطط الحكومة… كيف يهدد "تطوير" القاهرة حيوات نسائها؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والنساء

الثلاثاء 23 أبريل 202406:32 م

في منتصف آذار/ مارس الماضي، قضت الشابة المصرية حبيبة الشماع بسبب النزيف الحاد في المخ، بعدما استمر أسابيع إثر إلقائها نفسها من سيارة "أوبر" على طريق مصر السويس في منطقة التجمع، إثر تعرضها لمحاولة اختطاف على يد السائق، ما دفعها للقفز من السيارة ونقلها للمستشفى في حالة حرجة، بحسب الشاهد الوحيد في القضية.

في المقابل، قُبض على السائق وحُكم عليه، في منتصف نيسان/ أبريل الجاري، بالسجن المشدد 15 عاماً، بتهمة الشروع في خطف حبيبة. هذا ما دفع مجلس النواب لمناقشة وسائل الأمان التي تتبعها شركات النقل الخاصة. لكن هذا الحادث الأليم يطرح أيضاً تخوفاً آخر له علاقة بأمان النساء في شوارع القاهرة، والمرتبط بالعديد من السياسات الحكومية العمرانية والخاصة بالطاقة.

القلق على الطرق في القاهرة بالنسبة لفرح الدسوقي (23 عاماً) يسبق حادث حبيبة، بل يعود لسكنها على أطراف القاهرة في منطقة السادس من أكتوبر. فالطرق التي تسلكها لعملها، وقبلها لجامعتها، إما طرق سريعة أو كباري. لكنها اعتادتها مع الوقت. المشكلة زادت مع التغيرات الكبرى المتسارعة في الطرق والكباري في السنوات الأخيرة. تقول فرح لرصيف22: "دائماً ما أُجري حواراً مع سائق الأوبر، أسأله أي طريق سنسلك؟ الـGPS لا يوضح لي أي كوبري سنسلك؟ إذا لم أكن أعرف المكان وأركب مع شخص لا أعرفه أشعر بالقلق الشديد. لو كان عندي لديّ مشوار يمكن أن أقوم به في مناطق سكنية أفضل ذلك بالطبع".

فقدان البوصلة العمرانية

هناك خطة حكومية كبرى لتطوير النقل في مصر، تسير على قدم وساق في إنشاء وتطوير الكباري والمحاور والطرق والأنفاق والقطار السريع (المونوريل) والقطارات الكهربائية وغيرها من المشاريع الضخمة. الخطة ممتدة بين 2014 و2024، بحسب ما ذكرته وزارة النقل، في بيان في حزيران/ يونيو الماضي، وتبلغ تكلفتها 2 تريليون جنيهاً مصرياً، تنفق بدرجة أكبر على مشروعات الطرق والكباري وعلى مشاريع أخرى في قطاعات النقل البري والبحري والنهري. الخطة الكبرى سوف تمتد حتى 2030، ومن المحتمل أن تصل ميزانيتها لـ3 تريليونات جنيه مصري، بحسب وزير النقل، كامل الوزير. 

و"تستهدف الهيئة العامة للطرق والكبارى مواصلة خطتها لأعمال الطرق والكباري حتى عام 2030 بإنشاء 3 آلاف كم طرق جديدة ليصبح طول الشبكة 33.5 ألف كم، وتطوير 4 آلاف كم من الشبكة الحالية ليصبح الإجمالي 24 ألف كم، وإنشاء 21 محوراً جديداً لتصبح المحاور 72 محوراً، وإنشاء 365 كوبري ليصبح عدد الكباري 2800 كوبري/ نفق"، بحسب حسام الدين مصطفى، رئيس هيئة الطرق والكباري المصرية، في حوار له، في كانون الأول/ ديسمبر الماضي. نفذت العديد من هذه الإنشاءات بالفعل في محافظات مصر، وفي القلب منها محافظتي القاهرة والجيزة

هذه الطرق والمحاور الجديدة، ربما تكون اختصرت الوقت بالفعل، لكنها في المقابل تسببت في الكثير من الأضرار. من هذه الأضرار فقدان الألفة وبالتالي الشعور بالأمان. تتحدث الأكاديمية والباحثة العمرانية أمنية خليل، مع رصيف22، عما تسميه "فقدان البوصلة العمرانية"، وهو الأمر الأساسي في التعرف على المحيط والمكان. تقول: "أستيقظ وأنا أعرف أين المطبخ وأين الحمام واسم الشارع الذي أعيش فيه. ما معنى أن أستيقظ ذات يوم وأجدني لا أعرف المكان الذي هو شيء ثابت! البوصلة المكانية والعمرانية حين تختفي أو تتغير يتسبب ذلك في شعور وكأني لا أقف على أرض صلبة. مثلاً، جميعنا لديه علامات في الشوارع تساعده على تحديد بوصلة المكان، حين تتغير، يرافق ذلك شعور الذعر حيث لا يعرف الفرد أين هو أو أي طريق عليه أن يسلك. وحين نعرف الطريق نستطيع توقع الخطر، وعمل خطة لتفاديه". 

تُقيم جدة فرح في منطقة الهرم. فوجئت فرح ذات يوم بكوبري جديد أمام منزل جدتها حيث عاشت طفولتها، فأصبحت تضيع في كل مرة تزورها فيها، ضياعاً امتد لمحل إقامتها مع إنشاء طريق جديد بالقرب من منزلها في السادس من أكتوبر، فوجئت به حين سلكه سائق السيارة الأجرة التي كانت تستقلها وهي عائدة إلى منزلها، فتوترت وارتبكت. 

الطرق والمحاور الجديدة، ربما تكون اختصرت الوقت، لكنها في المقابل تسببت في الكثير من الأضرار، أبرزها فقدان الألفة والشعور بالأمان و"فقدان البوصلة العمرانية"، لا سيّما بالنسبة للفتيات والنساء… كيف أثّرت خطط "التطوير" على حياة وتنقلات النساء في القاهرة وعلى شعورهن بـ"الأمان"؟

"تطوير/ تهجير" في كل مكان

خلال سنوات حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي الممتدة منذ 2014 حتى الآن، أصاب "التطوير" كل مكان في مصر، وفي القلب منها عاصمتها، القاهرة. أعمال الهدم والبناء في كل شارع. أينما تسير تجد الجرافات من حولك، وتجد بيوتاً مهدّمة أو نصف مهدّمة. الجميع مهدد، لا أحد آمن من ضريبة "التطوير". 

حتى المباني التراثية والمقابر الأثرية لم تسلم هي الأخرى من "بلدوزر التطوير". كل ما هو فوق أو تحت تراب القاهرة، أصبح مهدداً بالإزالة. والمقابل لهذا هو عدد كبير من الكباري والمحاور والطرق الجديدة التي تطوق القاهرة وتخترقها. خسائر مادية وبشرية ضخمة في سبيل ما يسمى بـ"تطوير القاهرة".

كل هذا يحدث وفق خطة إستراتيجية حكومية، يتكرر الحديث عنها، وإن تغيّرت تفاصيلها. ففي نيسان/ أبريل 2014، وافق مجلس الوزراء على مخطط إستراتيجي لتطوير القاهرة الكبرى 2050. ما تم إنجازه أو الإعلان عنه من مخطط تطوير القاهرة لا يختلف كثيراً عن خطة "القاهرة 2050" التي طرحها رئيس الوزراء الحالي مصطفى مدبولي نفسه حين كان رئيساً للهيئة العامة للتخطيط العمراني في 2011، قبل الثورة ولاقت اعتراضات كثيرة باعتبارها منحازة لرجال الأعمال وضد الطبقات الفقيرة والمتوسطة.

الخطة القديمة شملت الكثير من مشاريع التطوير الحالية، بما فيها تطوير المناطق التي تصنّفها الحكومة بأنها "غير آمنة" وتطوير "القاهرة الخديوية"، بما فيها إنشاء هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة وعاصمة إدارية جديدة. هذا بخلاف تطوير الطريق الدائري والكثير من المحاور والطرق التي جرى إنشائها بالفعل، أو مازالت قيد التنفيذ.

وكما هو الحال مع كل مشروع "تطوير" أو استثمار كبير تعلنه الحكومة، هناك أسر تُحرم من منازلها وممتلكاتها. الإستراتيجية التي أعلنتها الحكومة لتطوير القاهرة، أدخلها رئيس الوزراء، مدبولي، حيز التنفيذ في 2017، وفي 2019، قال إن الخطة تسير أسرع من الجدول الزمني الموضوع، لا سيّما في ما يخص شبكة الطرق.

على سبيل المثال، صفقة رأس الحكمة في الساحل الشمالي المصري، التي تشمل استثماراً إماراتياً بقيمة 35 مليار دولار لتطوير المنطقة على مساحة 170 مليون متر مربع، والتي يُروّج لها باعتبارها المنقذ للاقتصاد المصري، تشمل أيضاً تهجير أهالي المنطقة من بيوتهم وأراضيهم، مع وعود بتعويضهم. بالمثل الكثير من المشاريع العمرانية في القاهرة الكبرى مثل مثلث ماسبيرو ومشاريع التطوير على جزيرة الوراق، التي تتعرض منذ سنوات إلى حصار وصدامات مع الحكومة في مواجهة خطط "تطوير" و"نزع أراضي وبيوت" الأهالي بالجزيرة. ومنها أيضاً مشاريع جارية تهدد الآلاف من الأسر بالطرد مثل مشروع توسعة الطريق الدائري الذي دخل مرحلته الثانية، ومشروع تطوير/ توسعة كوبري الوراق. وبالرغم من تعهدات الدولة بتعويض المتضررين من خططها الكبرى، فإنّ كثير من الأهالي في مناطق مختلفة، يشكون عدم تعويضهم.

هذا بخلاف 40 ألف عقار مستهدف في خطة الحكومة لإزالة مناطق "خطرة وغير آمنة"، حسبما أعلنتمحافظة القاهرة في 2019. في حين أعلن مجلس الوزراء  في 2021 عن تطوير 31 منطقة "عشوائية" في محافظة القاهرة، و13 منطقة "عشوائية" في الجيزة. وفي تموز/ يوليو 2023، حدّدت المحافظة 109 منطقة "عشوائية" في القاهرة، ضمن حصر بـ357 منطقة "عشوائية" في كل المحافظات، تستهدف الحكومة تطويرها بحلول 2030، بحسب خالد صديق رئيس صندوق التنمية الحضرية. 

منى أحمد (اسم مستعار، 34 عاماً)، ربة منزل وأم لطفل عمره أربع سنوات وطفلة عمرها 12 سنة، هي إحدى ضحايا إزالات منطقة السيدة عائشة، التي جرت قبل ثلاث سنوات، في إطار "تطوير المناطق غير الآمنة". هذا "التطوير" المزعوم حوّل حياة منى وعائلتها إلى جحيم. كانت منى تسكن في شقة كبيرة، "إيجار قديم" مع زوجها وأولادها ووالدتها. كانت الشقة لوالدتها، ثم نقلت العقد باسمها، وسكنوا فيها جميعاً طوال 30 عاماً. فوجئت الأسرة في أحد الأيام بأشخاص من الحي يدقون بابهم في الصباح، يدونون أسماء أفرادها، ويطلبون منهم الذهاب لتقديم أوراقهم في الحي، بعدما أعلموهم بأن البيت سيُهدم لتوسعة الميدان. توقعت منى أن الأمر سيستغرق وقتاً إلا أنها فوجئت في خلال أيام بـ "بلدوزر وقوة من الداخلية ومن الحي" يخلونهم قسراً من البيت، دون تنبيه أو فرصة لجمع حاجاتهم.

تقول منى لرصيف22: "أنزلونا رغماً عنّا وألقوا بممتلكاتنا في الشارع. تضرر الأثاث حيث أحضروا لنا سيارة من سيارات جمع القمامة لنقل أشيائنا. على الفور، قاموا بهدم العمارة لئلا نعود إليها ثانيةً. انهارنا جميعاً وبكينا بحرقة. في البداية، قالوا لنا إنهم سيمنحوننا شققاً جديدة مع أثاث، لكنهم نبهوا أن زوجي الذي كان مسافراً حينذاك هو الذي ينبغي أن يتسلمهما، أو يمنحني توكيلاً للاستلام نيابةً عنه. بقينا أسبوعين في الشارع، أنا وأمي وطفليّ أصغرهما بعمر السنة. كنا في فصل الشتاء، عانينا كثيراً سيّما الأطفال".

تلفت منى إلى أن الأسرة تنقلت بين منازل عدد من الأقارب حتى أنجزت الأوراق الحكومية المطلوبة لاستلام السكن البديل، واضطرت إلى التخلي عن قسم كبير من الأثاث "بالخسارة" لصعوبة التنقل بكامل محتويات المسكن القديم. 

خريطة حركة النساء داخل المدينة 

تأثير التغيرات العمرانية يختلف بحسب النوع الاجتماعي، مثلما توضح أمنية خليل. من خلال عملها مع النساء في مناطق مختلفة بالقاهرة، تبيّنت أمنية أن حركة النساء في المدينة عادة ما تختلف عن الرجال، وتختلف خريطة تنقلاتهن أيضاً عن الرجال. فالرجال بإمكانهم أن يسيروا في شوارع مظلمة أو مهجورة، بالرغم من احتمالات تعرضهم للسرقة. لكن هذا الأمر غير مطروح بالنسبة للنساء، اللاتي لا يمكنهن السير في المناطق المنزوية والمهجورة على سبيل المثال، كذلك الشوارع المظلمة. وعادة ما تُنصح الفتيات والنساء بتجنب السير في مثل هذه المناطق. الأمر لا يتعلق فقط بالأمان الجسدي في رأي أمنية، بل بانتشار المخدرات في مثل هذه الأماكن وغياب أفراد الأمن فيها. 

"بدل ما يعمل لنا 'حياة كريمة'... خلّانا تحت الصفر"... إنشاء الكباري والطرق السريعة، وقطع الكهرباء وتخفيف إنارة الشوارع، و"تطوير" الميادين جميعها خطط حكومية توسعت فيها حكومات الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ عام 2014، لكن العبء الأكبر لها تتحمله الفتيات والنساء

الخوف من السرقة من أسباب اختلاف خريطة تحرك النساء عن الرجال في العاصمة أيضاً. فالنساء كثيراً ما يتعرضن لسرقة حقائبهن. تكثر السرقات في أيام صرف الرواتب والمعاشات. بالتالي، تضطر بعض النساء في هذه الأيام إلى وضع خطة للعودة إلى المنزل بالراتب كاملاً بسلام. توضح أمنية: "تفكر الواحدة منّا كيف ستقطع المسافة… مشياً في الشارع أو بالمواصلات الجماعية، أو بمواصلة خاصة، أيها أأمن؟". 

خريطة سير النساء في القاهرة يجب أن تكون مدروسة، بحسب الباحثة العمرانية التي تقول إنها لاحظت أن النساء عادة ما يفضلن المشي في شوارع لا مخابئ بها، فالشوارع التي تمتلئ بالسيارات المركونة لا يعدونها آمنة، فقد يظهر أحد فجأة من حيث لا تتوقع. وهن يفضلن أيضاً السير بجوار أسوار أو حوائط كبيرة، للاحتماء بها عند اللزوم. تضيف أمنية: "'نتش' الشنط والاعتداءات الجنسية هما الهاجسين الكبيرين لدى النساء في هكذا موقف". مع خطط التطوير الضخمة منذ 2017، ساء الوضع كثيراً. خلّف هدم المنازل الكثير من الأبنية المهجورة والشوارع المعزولة، بخلاف من هدمت منازلهم ولم يحصلوا على منازل بديلة، وشردوا في الشوارع. 

بشكل عام، تتعرض النساء في مصر لأشكال مختلفة من العنف، فنحو 8 ملايين امرأة وفتاة في مصر تتعرض للعنف سنوياً، بحسب أرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الصادر في عام 2023. 

وقبل سنوات، خلصت دراسة أجرتها هيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة إلى أن نحو 99% من النساء المصريات قد تعرضن لصورة من صور التحرش الجنسي فيما أعربت 86% من المبحوثات عن عدم شعورهن بالأمان. وبالرغم من غياب التقديرات الرسمية الحديثة للعنف القائم على النوع الاجتماعي، تتفاقم المشكلة. 

عبء التطوير وتخفيف الأحمال يقع أكثر على النساء

 منذ تموز/ يوليو الماضي، تطبق الحكومة المصرية ما تسميه خطة "تخفيف الأحمال على الكهرباء"، والتي تشمل القطع اليومي للتيار لمدة ساعتين، يختلف توقيتهما من منطقة لأخرى لكنها مواعيد ثابتة ومعروفة لأهل المنطقة. تشمل الخطة أيضاً خفض الإنارة في الشوارع بنسبة 75% ما يزيد ظلام الطرق. وعدت الحكومة في البداية أن "التخفيف" سيستمر فترة الصيف فقط، لكنه يوشك أن يكمل العام دون ملامح لنهاية "الخطة". علماً أنه جرى استثناء شهر رمضان وأيام عيد الفطر من ذلك.

مع بداية تطبيق خطة "تخفيف الأحمال"، تموز/ يوليو الماضي، تعرضت صانعة المحتوى آلاء العطار للتحرش في بنايتها بالقاهرة، أثناء صعودها لشقتها على السلالم بسبب انقطاع التيار. بالرغم من القبض على جارها المتحرش، إلا أنه خرج بكفالة على ذمة التحقيقات، وبسبب علاقات أسرته القوية ومناصب بعض أفرادها في وزارة الداخلية تعرضت آلاء وأسرتها لـ"التهديد"، ما دفعهم لترك منزلهم، على حد قولها. 

ومع تطبيق خطة "تخفيف الأحمال"، قررت مريم مصطفى (18 عاماً)، طالبة في السنة الأولى بكلية الحاسبات والمعلومات في جامعة القاهرة، مقيمة بين منطقتي شبرا والشروق، تجنب النزول من بيتها مساءً. تقول لرصيف22 إنها لو اضطرت لغير ذلك، عادة ما تستغرق وقتاً أطول للبحث عن شوارع مضيئة كي تسير فيها، وإن يأست تماماً، يكون لديها "خطة أمان". تضيف مريم: "أعتمد على فلاش الموبايل، وأمشي على جانب الطريق، وأتصل بوالدتي لتظل معي على الهاتف، وأمشي بسرعة"، مستدركةً "الظلام عموماً يقلّل من عدد الناس في الشارع وبالتالي يقلّل شعور الأمان". 

بالعودة إلى أمنية خليل، هناك عوامل كثيرة تساهم في فقدان البوصلة المكانية أو العمرانية، منها تغيير طبيعة المناطق ديموغرافياً عبر الإزالات والتطوير. يفقد هذا الناس قدرتهم على التعرف على المناطق التي يمرون بها وتمييزها، وبالتالي يفقدهم الطريقة الملائمة للتصرف. من ناحية أخرى، أي موقع إنشاء، في تقدير أمنية، هو مكان خطر، سيّما على النساء، وأي منطقة مظلمة هي أيضاً مصدر خطورة. فهذه العوامل - برأيها - تُزيد من خطورة الشوارع والطرق على النساء، ولا يختلف الحال إن كانت تسير علي قدميها أو في سيارتها أو في سيارة أجرة حيث لن تجد أحداً "تستنجد بيه"، على حد قولها. 

ظلمة الشوارع والتوسعات الضخمة في حارات الطرق التي أغفلت حق المشاة وأمانهم، تسببا في ارتفاع حوادث الطرق بشكل ملحوظ، في الآونة الأخيرة. لكن أكثر ما يخيف مريم في الظلام هو تجمعات الشباب "الذين يتناولون المخدرات" والكلاب. مريم معتادة منذ صغرها على تجنب الشوارع الجانبية الخالية من الناس والمحال، لكن الوضع الآن مختلف، لأنه "زاد عن حده".

أما فرح، فتصف الطرق بين العاصمة والمحافظات الأخرى بأنها مرعبة، خصوصاً في الليل. فهي مظلمة والسيارات عليها سريعة للغاية. تقول: "كنت في زيارة للفيوم قريباً، اضطررت للعودة ليلاً. لم نكن نرى شيئاً وبقيت أدعو طيلة الطريق أن نعود سالمين". 

لا تلتفت خطط "التطوير" ولا سياسات الحكومة التي تتعلق بالكهرباء لمنى أو فرح أو مريم أو غيرهن من المواطنات والمواطنين. مناطق كاملة لم يعد لها وجود، تمت تسويتها بالتراب تمهيداً لـ"تطويرها/ استثمارها"، وأخرى تتغير معالمها بالكامل. هذا القلق الدائم على السلامة الجسدية والتوتر الدائم الذي تشعر به النساء، والذي يتزايد مع التغيرات العمرانية الكبرى الحالية، بحسب وصف أمنية "يستهلك طاقة الناس ويرهقهم" كما يشكّل عبئاً نفسياً واقتصادياً عليهن.

ظلمة الشوارع والتوسعات الضخمة في حارات الطرق التي أغفلت حق المشاة وأمانهم، تسببا في ارتفاع حوادث الطرق بشكل ملحوظ، في الآونة الأخيرة. لكن أكثر ما يخيف مريم في الظلام هو تجمعات الشباب "الذين يتناولون المخدرات" والكلاب. مريم معتادة منذ صغرها على تجنب الشوارع الجانبية الخالية من الناس والمحال، لكن الوضع الآن مختلف، لأنه "زاد عن حده"

أثر طويل الأمد للتطوير

بعد أن انقلبت حياتها فجأة وخسرت كل شيء، دخلت منى في معاناة جديدة، مستمرة إلى الآن بالرغم من مرور أكثر من ثلاث سنوات على طردها من منزلها. فبعد أن سلّمتها الحكومة شقة في "منطقة الأسمرات"، اكتشفت منى أن الشقة مساحتها صغيرة جداً، لا تصلح للأم والجدة والأطفال، والأثاث حالته سيئة للغاية "يشبه السجن"، كما وصفته، ولا تملك عقداً للشقة. حين انتقلت إليها لم يكن زوجها معهم، وكانت المنطقة خاوية، فكانت منى تقضي جميع مشاويرها خلال النهار. بالتدريج، ملأت الحكومة المنطقة بالكثير من المُهَجَّرين من بيوتهم من مناطق مختلفة هدمتها، فانتشرت "العشوائية" في المنطقة، بحسب وصف منى.

كثُرت المشاجرات، بعضها بالأسلحة، وتعرضت منى نفسها لبعض المضايقات من جيران وتكررت الاحتكاكات. تردف منى: "أغلقت بابي علينا وكنت أربي أولادي بطريقة معينة، و'عشان في حالي' ولا أحتك بأحد 'حطوني في دماغهم'. والدتي كانت حالتها النفسية سيئة. لم أكن أشعر بالأمان على نفسي وعلى طفليّ. لم أتركهم يغادرون المنزل بمفردهم".

لا تلتفت خطط "التطوير" ولا سياسات الحكومة التي تتعلق بالكهرباء لمنى أو فرح أو مريم أو غيرهن من المواطنات والمواطنين. مناطق كاملة لم يعد لها وجود، تمت تسويتها بالتراب تمهيداً لـ"تطويرها/ استثمارها"، وأخرى تتغير معالمها بالكامل، والقلق الدائم على السلامة الجسدية والتوتر الدائم الذي تشعر به النساء يتزايد...

تفسر أمنية خليل الاحتكاكات بين المُهَجَّرين الجدد من مناطق مختلفة بأن هناك بعداً طبقياً في الموضوع يقسم المناطق الشعبية، بحسب درجة الازدحام ودرجة البلطجة، ما يخلق الضغائن بين الأهالي. وتقسم أمنية نقل السكان إلى نوعين: النقل من منطقة شعبية لأخرى، مثل نقل سكان "مثلث ماسبيرو" لمنطقة بولاق الدكرور، وفي هذه الحالة والحالات المشابهة، يعاني المستجدين في المنطقة مضايقات من السكان القدامى، فالمستجدين لا يعرفهم أحد، وبالتالي لا حماية لهم بالمنطقة. تشدد على أن الوضع يكون صعباً، خاصةً في البداية.

النوع الثاني، والكلام ما يزال لأمنية، هو النقل من قلب القاهرة لأطرافها، مثل النقل للأسمرات ومثيلاتها، وهو "الأكثر وحشية"، بحسب أمنية حيث البعد الطبقي بين المناطق الشعبية ينتقل أيضاً إلى هذه المناطق، ويؤثر على الجميع. في رأي أمنية، ما يزيد الطين بلة أن السكان المنقولين حديثاً، يكونون تحت تأثير الصدمة، بعد كل ما مروا به من هدم وتهجير، وهو ما تسميه "صراع طبقي بأحكام أخلاقية". 

بخلاف المشاحنات بين السكان، هناك مشكلات أخرى يعانيها الأهالي تتعلق بطبيعة الأسمرات وغيرها من المناطق السكنية الحكومية التي ينقل إليها المُهَجَّرون. توضح أمنية، محددةً حديثها على الأسمرات، أن تصميم المناطق لا يساعد على المشي فيها. وتضيف: "إنها واسعة وخالية من الناس ولا حماية فيها من الشمس، والحدائق بها ليس واضحاً من المسموح له اللعب فيها، خاصة أن الأطفال لا يُتركون للتجوال بمفردهم. شارع واحد في الأسمرات فيه كنيسة وجامع ومجمع استهلاكي، ولا توجد وسيلة مواصلات داخل المنطقة، جميعها ممنوعة من الدخول. فيضطر أغلب الناس إلى شراء سيارات خاصة وتشغيلها كسيارات أجرة داخلها نظراً لاتساعها وحاجة الناس لوسيلة تنقل داخلية. المنطقة مصممة كأن الناس يجب أن تُحبس في بيوتها أو كأن جميعهم يمتلكون سيارات خاصة". 

النساء أيضاً يتحملن العبء الأكبر في هذه المناطق. توضح أمنية: "توصيل الأبناء للمدارس مهمة شاقة جداً لبعدها عن حيز المساكن، وحركة الأمهات في مناطق مثل الأسمرات تتحول إلى مأساة وعبء اقتصادي. كما تتعرض النساء لخطر أكبر من الرجال في هذه المناطق لأنهن المسؤولات عن أدوار الرعاية الأسرية مثل إيصال الأطفال من المدارس وإليها وتحضير الطعام وشراء لوازمه، رغم الخطر الأكبر الذي يواجهنه هن وأطفالهن".

قدّمت منى بلاغات وشكاوى ضد من ضايقوها في المنطقة لكنها لم يُنظر فيها، تشك أن ذلك مقصود حيث تقول: "هم (السلطات الأمنية) سايبين الدنيا كدة، لو عايزين يلموا الدنيا هيلموها". أمام غياب الأمان والاستقرار، ترك زوجها عمله في الخارج وعاد إلى مصر، قبل أن تُضطر الأسرة للانتقال من الأسمرات إلى بيت آخر. علماً أن والدة منى ظلّت في الأسمرات.

 كانت أسرة منى تدفع إيجاراً قيمته 350 جنيهاً مصرياً (نحو 8 دولارات) في الأسمرات، وتدفع خدمات الكهرباء والمياه بكروت الشحن المسبق، وكثيراً ما كانت هذه الخدمات تنقطع عن المنطقة. "في حال لم ندفع الإيجار، تتراكم علينا الفوائد وقد نتعرض للطرد. كثير من جيراننا كانت بيوتهم ملكاً لهم، ونُقلوا إلى الأسمرات، وحالتهم كحالتنا. عانى كبار السن كثيراً، أحد جيراننا مات حسرة على محالّه التي انتُزعت منه". 

منذ طردها من بيتها، تنقّلت منى وأسرتها بين أكثر من منطقة، يضطرون الآن إلى دفع إيجار كبير، بخلاف فواتير المياه والكهرباء. "بعت كل ما أملك من ذهب وظروف المعيشة تزداد صعوبة، وزوجي يعمل ليل نهار والراتب لا يكفي… أصبحنا 'على الحديدة'... كل هذا لأجل 'تطوير ميدان'!".

تتذكر منى بحسرة: "كنا في منطقتنا القديمة نعرف بعضنا بعضاً. لا يجمعنا سوى الاحترام ومراعاة الآخر والتكاتف وقت الشدة. أكثر من 30 عاماً عشناها هناك في أمان وحياة كريمة نفتقر إليهما منذ اضطررنا للمغادرة". وتختم: "فقدنا عنصر الأمان وأيضاً الاستقرار. لا أستطيع نقل ابنتي من مدرستها لأننا نتنقل باستمرار بسبب غلاء إيجار المسكن. بدل ما يعمل لنا (تقصد الرئيس السيسي) 'حياة كريمة'، خلّانا تحت الصفر"، في إشارة إلى المبادرة الرئاسية لتنمية المناطق الفقيرة ومساعدة الفئات المهمشة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image