شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أهالي جزيرة الوراق الأعزاء… إلى متى سيتعاملون مع من لا يحترم وجودهم؟

أهالي جزيرة الوراق الأعزاء… إلى متى سيتعاملون مع من لا يحترم وجودهم؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والفئات المهمشة

الجمعة 7 أبريل 202308:50 ص

لا يتسنى لنا كثيراً في مجتمعاتنا العربية أن نسمع أو نشاهد خطاباً أو حدثاً له علاقة من قريب أو من بعيد بالعَيش المشترك، لأن سياستنا وتصوراتنا المتخبطة ليست مبنية على العدالة الاجتماعية. وكما كتب محمد نعيم في مقاله "وطن حر وشعب سعيد": "فالمجتمع، مهما هرب من كونه مجتمعاً، سيظل مجتمعاً..."، وإنكار هذه الحقيقة ينتج عنه تشوهات عدة، منها الأبعاد المختلفة لفكرة التفرقة على أساس "نحن" و"هم".

هناك وعي عام بأن كل مصادر الرخاء من حولنا تقع فقط تحت أيدي الكتل المتحكّمة في مصائر المجتمعات، من أصحاب رأس المال والسلطة والحالمين بهما، بشكلهما المعهود والمتعالي على كل من يقع خارج تلك الدوائر. نرى تلك الفِرَق دائماً ما تنزح بعيداً عن الباقيين خوفاً، وجزعاً، واشمئزازاً منهم. ففي كل عام تضاف العشرات من المشاريع السكنية المعزولة في الأراضي المحيطة بمحافظتي القاهرة والجيزة، حيث المساكن الفارهة والمساحات الخضراء الواسعة والخدمات المسخّرة للسكان التي تبعدهم عن الأنظار بالطرق السريعة والأسوار والبوابات من حولهم.

من كثرة تلك المشروعات، اعتاد ساكنو القاهرة والجيزة على ذلك النسق الذي بات مألوفاً لهم وبعيداً عنهم في نفس الوقت، لأنه جغرافياً لا يمس سكان المدينة، ولأنه يُحَوِّل تلك المجتمعات، يوماً بعد يوم، إلى واحات شبه مستقلة، سرعان ما تصبح قائمة بذاتها، لا تحتاج المدينة في شيء، إلا فيما يخصّ بعض الوظائف التي مازالت تقع داخل حيز القاهرة والجيزة.

هناك وعي عام بأن كل مصادر الرخاء من حولنا تقع فقط تحت أيدي الكتل المتحكّمة في مصائر المجتمعات، من أصحاب رأس المال والسلطة والحالمين بهما. نرى تلك الفِرَق دائماً ما تنزح بعيداً عن الباقيين خوفاً، وجزعاً، واشمئزازاً منهم

حكومات ما بعد 2013 أتتنا بموجات جديدة من المشاريع السكنية، اتخذت لنفسها مواقع داخل القاهرة والجيزة بشكل عدائي عنيد، يزيد من أعداد كارهيها من المقهورين/ات، مع أنه قد سبق وشهدت مصر تهجيراً لتجمّعات بشرية كبيرة تحت وطأة الحرب مثلاً، أو في "الحرب على الإرهاب"، أو الإطاحة بحشد من البشر بشكل غاشم لبناء مشاريع لإدارة الموارد مثل السد العالي، ولكن الجديد الذي أصبح ليس بجديد علينا في اللحظة الراهنة، هو الاستبدال القسري لسكان مناطق بأكملها داخل القاهرة والجيزة بسكان جدد، عن طريق العنف ونزع الملكية من أجل زبائن من طبقات وجنسيات بعينها، نظير طحن الفقراء من الطبقة المتوسطة وما أدناها.

وبشكل متكرّر، أصبحت تلك المشاريع الضخمة للاستهلاك العقاري تصوّب نظرها تجاه مساحات سكنها الفقراء على مر عقود وأجيال وامتلكوها بعقود مقننة حرّرتها لهم الدولة سابقاً.

الطرد والتهميش مسلك السلطة الوحيد

يعلم أهالي المناطق التي اكتشف ساكنوها في العقد الأخير بالذات أنها مطمع للدولة، أنهم محل احتقار السلطة ورأس المال (هذا ما دشّنه مبنى وزارة الخارجية المطل على النيل، في منطقة وسط البلد على كورنيش ماسبيرو الذي تم افتتاحه في 1994). تعاملت السلطة، في تلك الحالات، بنهج واحد مبني على العنف تجاه الفقراء (بأطيافهم) والتأكيد على فكرة أنهم لا يستحقون المساحات التي يشغلونها في الحاضر والماضي، ضمن أجيال متعاقبة داخل المدينة، كمسكن أو مكان للعمل، وجزيرة الوراق ضمن هذه الأمثلة.

لا يتسنى لنا كثيراً في مجتمعاتنا العربية أن نسمع أو نشاهد خطاباً أو حدثاً له علاقة من قريب أو من بعيد بالعَيش المشترك، لأن سياستنا وتصوراتنا المتخبطة ليست مبنية على العدالة الاجتماعية.

تأتي هذه الموجات العنيفة كتذكرة للتراتبية التي تتصوّرها مجتمعاتنا ومواقع السلطة فيها بشكل أساسي، وكما يذكرنا فرانز فانون كما استدعاه الفيلسوف الكاميروني أشيل مبيمبي، في كتابه "سياسات الموت"، أن قناعات المسيطر تحتاج دائماً لأساطير تبرّرها، وضمن هذه الأساطير أن ضحايا العنف هم المسؤولون عنه، وأنه لا يصح لمن خارج دوائر التمييز أن يتشبه بمن داخلها، مع قناعة غاضبة عكسية تجاه عدم رغبة (أو استحالة) "الرعاع" التشبه بالمتسلطين/ات.

ضرورة الاستماع للمتهضمين

إفلاس الدوائر المتسلطة لابد أن يوجّه انتباهنا لمساحات أخرى، ومنها مساحات الفقراء الكادحين، كما يذكرنا محمد نعيم بأننا نحيا "في بلد نعلم تمام اليقين أن نسبة الكادحين فيه هي الغالبة"، فلعل الأحرى بنا أن ننظر صوبهم لنتعرّف على نماذج بها ملامح للمواطنة وما تتضمنه من مفاهيم العَيش المشترك.

منصات الإعلام المستقلة التفتت لاستهداف جزيرة الوراق بشكل صريح في 2017. انقضَّت السلطة على سكان الجزيرة الفقراء المتبقين فيها بعد أن اشترت من ملاك الأراضي، غير ساكني الجزيرة، ما وصل إلى 888.6 فدان (71%). لجأت السلطة إلى العنف البوليسي لرفع مساحات الأرض المتبقية في الجزيرة، وفرض الحصار على السكان وإطلاق الرصاص الحي على أحدهم، وغمر الحشود بالغاز المسيل للدموع والكثير من الكر والفر والاعتقالات، ورفض الأهالي عرض الدولة بتعويض السكان المتبقين في الجزيرة بناء على عدد غرف النوم في كل وحدة، بقيمة 16 ألف جنية مصري للغرفة.

فتقدم السكان بحل كانوا يظنون أنه عادل وبسيط، ولكن خطأه الوحيد في نظر السلطة ورأس المال أنه لا يحتقرهم ويحافظ بشكل أساسي على شكل حياتهم الممتدة والسلمية على الجزيرة. صرّح أحد السكان سابقاً أن "البديل المقبول من السكان هو تخصيص مساحة من الأرض قدرها 200 فدان من أراضي الجزيرة يبني عليها الأهالي بيوتاً مناسبة لهم (تضم جيلين أو ثلاثة من أفراد العائلة الواحدة وذويهم) بناء على تصميمات تسمح بها الدولة، وتعويض السكان بناء على تقييم يسمح لهم بالبناء على هذه الأرض، وتقسيط باقي التكلفة، أي أن الحكومة ينبغي عليها أن تقدّر تكلفة الأرض في تلك المنطقة وتكلفة البناء عليها بناء على نفس التقييم الذي ستعوضنا به عن مساكننا الأصلية، وتقسيط أي مبالغ متبقية، بحيث لا تتربح من ورائنا."- (نشر على موقع مدى مصر في 20 أغسطس 2022 في مقال بعنوان "تهجير قسري أم رضائي؟").

يعلم الفقراء أن قمعهم مكسب للآخرين، أي للسلطة ورأس المال، فهم كما تعودوا يعيشون في عوالم موازية للنخبة ويعلمون بالأفعال قبل الأقوال أن هؤلاء يروجون باستمرار بأنهم لا يصلحون كشركاء حقيقين مؤثرين/ات في صنع القرار. كتب أستاذ الأنثروبولوجيا مايكل توسيج في كتابه "متحف الكوكايين الخاص بي" أن حشود الفقراء من العاملين في القرية النائية الفقيرة التي كانت محل بحثه في كولومبيا في التسعينيات، كانوا مكروهين/ات لأنهم لا يحتاجون الكثير كي يعيشوا راضين، مسالمين، بعيدين كل البعد عن أنماط الاستهلاك التي كثيراً ما تُعرَفَ على أنها علامات التقدم في السعي "للنجاح"، وذلك لأن ما يعينهم على الحياة والاستمتاع بها بسيط.

تساءل مايكل توسيج ما إذا كان كُره المتسلطين للفقراء نابع من أن ممارسات حياتهم البسيطة بمثابة "بصقة في وجه منطق التنوير وآلياته المفضلة للتأديب؟"

القلة المتسلطة لا تعبأ إلا بنفسها

في نهاية 2011 و بداية 2012، قاد مركز تأريخ الاقتصاد وإدارة الأعمال بالجامعة الأمريكية في القاهرة Economic and Business History Research Center مشروع عنوانه "الجامعة في الميدان University on the Square". كان المشروع معنياً بجمع الشهادات الشفوية من كل من يَقبَل عرض الباحثين في المركز بتسجيل شهاداتهم/ن عن ميدان التحرير في الـ18 يوم، بين 25 يناير 2011 إلى يوم تنحي حسني مبارك في 11 فبراير 2011.

سكان جزيرة الوراق عائلات ممتدة الأجيال، يزرعون الأرض الخصبة من حولهم ويسكنون بيوتاً بسيطة مقتصدة. تطرح أنماط حياتهم إجابات عملية لسؤال: ماذا يريد الفقراء حين يتحدثون عن أنفسهم وعن مشاكلهم؟

كنت من فريق البحث، وجلست مع شاب وقتها كانت له مداخلات في برامج تلفزيونية حينها، يعلق من خلالها على المشهد السياسي، وقوبل موقفه بتهديدات عنيفة من قِبَل السلطة. كان أحد همومه هو معرفة أن "المهمّشين" في العالم عددهم أكثر بكثير من القلة المتسلطة على أحوال الجميع وموارد الكوكب، كما وصفتهم حركة احتلال وول ستريت Occupy Wall Street الواحد بالمائة- the one percent.

تعودنا مؤخراً أن نبحث عن سرديات ومواقع للـ99% الآخرين من البشرية على مواقع التواصل الاجتماعي، لأن دونها لا يبدو أن أحداً يعبأ أو يتيح الفرصة لهم من أجل عرض مشاكلهم، وأهالي جزيرة الوراق نموذج من هؤلاء النماذج التي أعتقد أن منها الكثير في كل مكان ولكنها دائماً تحدث في محلات لا نعيرها أنظارنا.

عند الالتفات لقضايا الفقراء ومسالكهم/ن لإيجاد حلول منصفة نجد سبل ثرية بالمعرفة ولكنها لا تحظى بتغطية إعلامية أو اهتمام فعلي من السلطة. أسس أهالي جزيرة الوراق صفحة على فيسبوك اسمها "إدعم جزيرة الوراق" والمربوطة بهاشتاج بنفس العنوان.

سكان الجزيرة عائلات ممتدة الأجيال على نهج الأسر الريفية في مجتمعاتنا. يزرع أهالي الجزيرة الأرض الخصبة من حولهم ويسكنون بيوتاً بسيطة مقتصدة على قدر معيشتهم بمحاذاة الأرض الزراعية للاحتفاظ بحيز أكبر للمحاصيل. تطرح أنماط حياتهم إجابات عملية لسؤال: ماذا يريد الفقراء حين يتحدثون عن أنفسهم وعن مشاكلهم؟ يبدو أنهم يريدون أن يعيشوا تحت ظروف وقرارات وأقوال وأفعال تعترف بوجودهم واحترامه، فكما يفصحون كل يوم على صفحتهم على فيسبوك، مطالبهم عملية ومعقولة ولكن عيبها الوحيد هي أن تحقيقها يُحَتِم أن يعيشوا في جيرة الصفوة من المتسلطين، بشكل وأساليب حياتهم المستقلة البسيطة، وهو حل لا يرضى به إلا هم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard