بصفتي إيرانياً يعيش في طهران، أسعى إلى منح أصدقائي، الذين أستضيفهم من دول أخرى، تجربة مباشرة وحيّة عن ثقافة شعب بلدي. لذلك، من واجبي، في المقام الأول، أن أحاول أن أكون مضيافاً كمعظم الشعب الإيراني. إن الأطعمة والمأكولات الإيرانية هي أهم وسيلة أستخدمها في الضيافة. عندما يتناول أصدقائي الأطعمة الإيرانية، نتحدث لساعات عن مذاق الطعام، باحثين عن تاريخه، وأصل نشأته. وفي هذا المجال، تحتل أطعمة الشارع مكانة فريدة من نوعها دائماً. فهي تمنح المرء فرصة لإجراء محادثة ودية مع المارة ورواد المطعم الآخرين، أهناك أفضل من هذا لصديق أجنبي فضولي؟
من بين أطعمة الشارع، أكلة واحدة أوصي بها أصدقائي دائماً، ولطالما تحدثت عنها أو سمعت عنها من أصدقائي الأجانب حتى أصبحت أعتبر نفسي موسوعة متنقلة خاصة بها. في الحقيقة، إنها ليست أكلة إيرانية، ولكن تم تحويلها إلى إيرانية، وأنا عاشق لمذاقها جداً، إنها الفلافل!
على الرغم من أن الحمص كان في عداد الحبوب الثمانية التي اهتم بها آباؤنا خلال الثورة الزراعية، ثم استخدموها لاحقاً في الأطعمة المختلفة مع سائر الحبوب، أعتقد أن الحمص لم يكتسب أهميته بالشكل المطلوب إلا مع ظهور الفلافل، فهي التي جعلت منه شائعاً ومطلوباً. فربما قبل الفلافل لم يكن أحد يعطي هذه المكانة للحمص.
من بين أطعمة الشارع، أكلة واحدة أوصي بها أصدقائي دائماً، ولطالما تحدثت عنها أو سمعت عنها من أصدقائي الأجانب حتى أصبحت أعتبر نفسي موسوعة متنقلة خاصة بها. في الحقيقة، إنها ليست أكلة إيرانية، ولكن تم تحويلها إلى إيرانية، وأنا عاشق لمذاقها جداً، إنها الفلافل!
وراء معظم الأطعمة القديمة قصة. وهنا تختلف الآراء حول أصل تسمية الفلافل، وهذا يعود إلى طريقة نطق كلمة فلافل. فَلافِل أم فِلافِل؟ يعتقد الكثير من الناس أن الفلافل نشأت في مصر، وأن أصولها تعود إلى الأقباط المسيحيين الذين كانوا يستعيضون بالفول عن اللحم في أوقات الصيام، ويحضّرون الفلافل من الفول. آخرون يعتقدون أن اسم الفلافل مشتق من الفلفل، نظراً لأنه يقدم مع أنواع مختلفة من الصوصات والتوابل الحارة، كما جاء في كتاب "المستطاب في الطبخ من الثوم إلى البصل"، إذ يعتبر مؤلفه نجف دريابندري أن الفلافل جمع تكسير لفلفل. (وبالنسبة لنا نحن الإيرانيين، يعتبر كتاب المستطاب في الطبخ - بصرف النظر عن الوصفات التي يحتوي عليها - قاموساً للطعام، ومؤلفه من أهم الكتاب والمترجمين في إيران).
ظهر اسم الفلافل مكتوباً لأول مرة عام 1882 في مذكرات رجل إنجليزي، فأثناء استعمار البريطانيين لمصر، تم إرسال ضباط وجنود بريطانيين من الهند إلى مصر. وكان هؤلاء قد اعتادوا مذاق الطعام الهندي، لذلك كانوا يقدمون وصفات الطعام الهندي للطهاة المصريين ليطبخوها لهم. "هذة الأكلة تشبه الفلافل جداً، ولكنها محضّرة من العدس". بهذه الطريقة شقت الفلافل طريقها في حياة البريطانيين بوصفها أحد الأطعمة المفضلة لديهم.
على أي حال، يعتقد الجميع اليوم أن الفلافل طعام شرق أوسطي، ومع انتشاره حل الحمص محل الفول أو العدس، ونحن الآن نعتبر الحمص المكون الرئيسي للفلافل. وبصرف النظر عن نشأة الفلافل في لبنان وبغداد أو في شوارع طهران، فإن سؤالنا هو: كيف وصلت الفلافل إلى شوارع طهران؟
في كل عام في 12 حزيران/ يونيو، يتجمع محبو الفلافل. يحتفلون في اليوم العالمي للفلافل ويرشحون الفلافل لمن لم يذقها
قبل أن تصبح الفلافل أحد أهم الأطعمة في طهران، وصلت أولاً عبر العراق إلى جنوب إيران كمدن عبادان والأهواز وبندر عباس. تقع عبادان بالقرب من الحدود الإيرانية العراقية، وربما من خلال ذهاب الناس وإيابهم على جانبي الحدود، وقعت أعين سكان عبادان على جمال الفلافل. إلا أن سكان هذه المدينة، الذين يتحدث بعضهم العربية، يعتقدون أن مدينتهم هي مسقط رأس الفلافل في إيران، ولديهم قصة فريدة أخرى في هذا المجال، فهم يعتقدون أنه في أوائل الستينيات، عاد رجل عباداني الأصل إلى عبادان مع زوجته اللبنانية بعد سنوات عديدة من الغربة. وكان يتطلع إلى بدء عمل تجاري فيها، فافتتح مطعماً لبيع الفلافل بناءً على طلب زوجته. وكانت الزوجة تصنع العجينة الخاصة بالفلافل على طريقة جدتها اللبنانية، وكان الرجل يدير العمل. وهكذا تعرفت أفواه سكان عبادان على الفلافل، وامتلأت المدينة بالمطاعم والأكشاك التي تبيعها. ولا يزال سكان هذه المدينة إلى يومنا هذا لا يرضون بالفلافل التي يتم تحضيرها في مناطق أخرى من إيران، ويحبون فقط الفلافل الخاصة بهم.
قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، كانت عبادان مدينة سياحية وحديثة تحتوي أكبر مصفاة نفط في العالم. لذلك تعرف العمال والناس خلال ترددهم على عبادان من جميع أنحاء إيران على طعم "الفلافل العبادانية". فالفلافل العبادانية هي نفس "الفلافل اللبنانية" التي سجلوها باسمهم: حارّة ومليئة بالتوابل مع صوص المانغا أو صوص الطماطم الحار.
في عام 1980، عندما هاجم العراق حدود إيران، كانت عبادان في الخط الأمامي للمواجهة، لذلك ترك المنكوبون منازلهم وحياتهم، وذهبوا إلى مدن إيرانية أخرى، لكنهم أخذوا معهم أيضاً الفلافل. وشيئاً فشيئاً، افتتح العبادانيون أكشاك الفلافل والسمبوسة في باقي أنحاء إيران.
قضيت فترة مراهقتي في مدن غرب إيران، اشتريت أول سندويش فلافل من أحد الكشكات وكان صاحبه من عبادان ذا لهجة مميزة وأسمر. كان يتكلم بحماس ويصف لنا عبادان قبل الحرب حتى ظنّنا أنها منافسة باريس دون منازع.
كانت الدكاكين التي تبيع الفلافل قليلة في طهران. إذا أردت تناول فلافل حقيقية كان عليك الذهاب إلى منطقة "دولت آباد" أو أطراف البازار القديم. تقع منطقة دولت آباد جنوب شرقي طهران، منطقة العرب وقسم منهم إيرانيون معاودون كانوا في السابق يقيمون في العراق وفي زمن صدام حسين، رُحلّوا إلى إيران. (حرب صدام مع الشيعة والإيرانيين قديمة). وإن كانوا فقراء ولكنهم استخدموا ثقافة الغذاء، إذ أعدّوا الفلافل. بعد الحرب في سوريا ولبنان، سكن المنطقة السوريون واللبنانيون والعراقيون، وباتت أصالة الطعام مضمونة. كأنّ قصة الحروب مربوطة برحلة الفلافل!
دخل الإيرانيون في الأعوام الأخيرة من أجل العقوبات حرباً جديدة. الحرب الاقتصادية. هبطت العملة الإيرانية وأصبح تناول الوجبات السريعة وشراء اللحوم صعباً على الطبقة العاملة. ولكن في مثل هذه الظروف اشتعل سوق الفلافل في شوارع العاصمة، ليس فقط في المناطق الفقيرة بل حتى في شمال العاصمة حيث المناطق الراقية.
ليست الفلافل فقط طيبة بل رخيصة. يمكن بدولار ملء البطن إلى جانب الباعة في الشوارع. بالنسبة للأثرياء هو تنوع في الأكل بين أطعمة الاستيك والكباب والبتيزا. لذلك فإن الفلافل صديق الغني والفقير، وفي هذه الأيام مع التضخم النجومي، يوجد في كل شارع عدّة دكاكين لبيع الفلافل.
لأنّ ثمة دائماً حاجة إلى إيجاد إبداع في طرائق البيع، وجدت مؤخراً مطاعم يقدمون الفلافل بصورة بوفيه. ما يعني حين تشتري الفلافل يمكنك ملء شطيرتك بما تحب من سلطات ومخللات. لا ينظر إليك شزراً ولست مجبراً على دفع المزيد، إذا أحببت إضافة مخللات وخيار مملح وطماطم وخس وفلفل وصلصلة وكاري...
نسيتُ أن أُضيف أن أغلب الإيرانيين يأكلون الفلافل في الرغيف الفرنسي إلا في المناطق التي يسكنها العرب والقريبة من العراق فيأكلون الفلافل مع الصمون.
من إبداعات الإيرانيين الأخرى هو الفلافل المركبة. مثلا فلاسيس، الفلافل مع النقانق إلى جانب الفلا برغر (فلافل مع برغر) وفلاميكس (فلافل مع نقانق حارة) أو كافل (مرتدلا وفلافل). ويخدع البعض الناسَ بأسماء أجنبية لأخذ المزيد من المال. بالطبع لا أحب ولا وحداة منها. أعتقد أنها إهانة لأصالة الفلافل.
في هذه الأيام التي زاد فيها أكلة الفلافل في إيران دخلت الصناعة فيها. قامت شركة بصناعة جهاز يمكنه إعداد ألف حبة فلافل في ساعة. الأكثر مبيعاً لإحدى شركات الوجبات السريعة هو الفلافل. يقول مدير الشركة إنهم يريدون في المستقبل تقديم فلافل بالباذنجان بدل الحمص. لو أضفنا إلى هذه الإحصائية سلسلة المطاعم التي تبيع الفلافل فقط، لوجدنا أن عدد المحبين لها في إيران ليس بقليل.
الفلافل، الطعام الوطني
مرة دعوت صديقي من أهل نيويورك على فلافل في طهران. كان من المدهش أنه تناول ذات مرة نفس الوجبة في نيويورك. حسب ما قاله في الكثير من مدن أمريكا الشمالية يعدون الفلافل الشرق أوسطيون وخاصة العرب.
بعيداً عن حرب من أين جاءت الفلافل أو من يمتلكها، أنا متأكد أنها توحد الناس، الفقير والغني، المسلم والمسيحي واليهودي، في طهران ونيويورك وبيروت
يحتمل من أجل ذلك وضعوا له يوماً عالمياً. في كل عام في 12 حزيران/ يونيو، يتجمع محبو الفلافل. يحتفلون في اليوم العالمي للفلافل ويرشحون الفلافل لمن لم يذقها. بيد أن ليس جميع محبي الفلافل أصدقاء وأحبة إلى درجة أن أصبح موضوع الفلافل من أكثر الموضوعات الثقافية جدلاً بين إسرائيل وفلسطين. يرجع الأمر إلى عام 1948، في فترة تشكّل إسرائيل حين بُدئ العمل على مشروع جعل الفلافل وطنية لهذا البلد الجديد. كانت الفلافل بداية عامل مشترك لفتح علاقة مع الفلسطينيين. ولكن مع الوقت أصبح ذلك أمراً لكسب هوية للإسرائيليين، حين أعلنوا في كتب الطبخ أنها طعام وطني. أنشد الشعراء القصائد فيها وأدخلها المغنون كرمز إسرائيلي في الأغاني. يعتقد الكثير من الفلسطينيين أنّ الإسرائيليين خطفوا الفلافل، طعامهم التراثي ووضعوه في بطاقات المعايدة والسياحة باسم (الوجبة الوطنية الإسرائلية الخفيفة).
كانت رحلة الفلافل في العالم عن طريق البشر، وإن كان السبب أحياناً الهجرة والحرب أو النزاعات السياسية. الفلافل طعام بسيط، رخيص وفي متناول اليد، شطب على الحدود وإن ولد بين العرب، لكنه الآن متعلق بكلّ من يستلذ به. طابق الفلافل نفسه في الدول والثقافات وقاوم. كأنه يمتلك ذكاء اجتماعياً كبيراً وإلا لكان انقرض مثل الديناصورات. بعيداً عن حرب من أين جاءت الفلافل أو من يمتلكها، أنا متأكد أنها توحد الناس، الفقير والغني، المسلم والمسيحي واليهودي، في طهران ونيويورك وبيروت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 16 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 16 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت