عزيزي الله، أكتب لك الساعة الرابعة فجراً وحرارتي تقارب الأربعين، لكنني لست أهذي.
كل ما هنالك أن الوقت قد حان لأخبرك شيئاً: أعتقد أن الأمور بيني وبينك لم تعد على ما يرام، لم أعد خائفة منك... أقولها هكذا بشكل بسيط ومباشر دون أية مقدمات، فأنا كما تعلم لم أحتج يوماً إلى مقدمات في الحديث معك، لكنني أتساءل قليلاً إن كان سيقضّ مضجعك هذا الاعتراف في وقت متأخر كهذا.
لطالما أخبرونا أننا لو أخطأنا في هذه الحياة ستنتصر علينا أنت أخيراً بالموت، فتقبض أرواحنا وتجرّنا من نواصينا إلى عذابك الشديد مهما كنا أقوياء، فصار الخوف من الموت مرادفاً للخوف منك.
لكن منذ أن اختبأ الموت – أداتك المخيفة – في زوايا حيّنا ولعب معنا الطميمة، اعتدناه واعتادنا، ورحت أعتادك معه، وضعتك تحت اختبارات عديدة دون أن تدري.
هل تذكر المرّة التي اختبأتُ فيها ضمن بناء مهدّم مع طفل مدمّى جرّاء القصف؟ تضرّعت لك مراراً وتكراراً أن تحافظ على روحه ساعات أخرى داخل جسده ليتسنّى لي إنقاذه، لكنك لم تفعل. تركتني أبكي مع جثته الساخنة حتى الليل، ثم سلبت دفئها مني وتركتني أسلمها برداً قارساً يعضّ قلب أمه مدى الحياة.
عزيزي الله: هل تذكر المرّة التي اختبأتُ فيها ضمن بناء مهدّم مع طفل مدمّى جرّاء القصف؟ تضرّعت لك مراراً وتكراراً أن تحافظ على روحه ساعات أخرى داخل جسده ليتسنّى لي إنقاذه، لكنك لم تفعل
منذ زمن ليس ببعيد، تحديداً بعد بداية الحرب، كان يمكن لأي حدث عابر أن يثير فيّ الهلع، وأقصد الهلع حرفياً لا الخوف، نحن الذين اغتصَبَنا الموت مراراً وزرع فينا بذرته تنمو على مهل، نمشي بفطرة الخوف محاذاة الجدران وإن كانت مائلة، فحطامها، باعتقاد موتنا المتكرّر، أهون من سماء رحبة غادرة، نحن الذين نخاف على من تبقى من أحبتنا من ليل الشوارع وحمى الوحدة، ولا نملك إلا أن نحوطهم بأدعية لا حول لها ولا قوة. نحن الذين قُلبت علينا الطاولة في مقامرة لا ناقة لنا فيها ولا جمل، صار بردنا منا وفينا، لا نرى الأشجار إلا حطباً ولا نثق بالطاولات الخشب. نحن الجثث المتنقلة على هذه الأرض، لا نرفع أعيننا إلا لنستجدي بكل سذاجة فرحاً من فم الحياة فتغرقنا ببصاقها.
حسناً، دعك مني ومن ذاك الطفل، هل تذكر أخويَّ اللذين احتضنتُهما بحرقة وهما يلفظان أنفاسهما الأخيرة؟ هل تذكر كم تضرّعت وتذللت لك، وكم قايضتك حياتي بأن تترك لأمي أحدهما يرتق جرح غياب الآخر؟ لكنك، وبكل برود، أخذتهما معاً.
كانت تلك هي المرة الأولى التي اكتشفت فيها أن الموت يمكن أن يكون جميلاً، فقد استقبله أخي الأصغر بابتسامة، لم يكن عقلي يومها يعي كيف لجسده الغضّ أن يستقبل حدثاً مهولاً، كالموت، بابتسامة، كل من حظي بلحظة وداعه الأخيرة سيعي عمّ أتكلم، وسيتبادر إلى ذهنه بقوة ابتسامته النابضة بالحياة في حضرة الموت، وسيستذكر دفء روحه في عناقها لنا قبل ولوجنا في بردنا الأبدي.
كانت تلك تجربتي الأولى القاسية مع الموت الذي ابتلع نصف عائلتي وتركني أعاني فقداً لا أستطيع حصر حجمه، إلا أنه زرع في داخلي أفكاراً من قبيل أن الموت أخطأني مراراً وكم كان عليه أن يصيب، مئات من المفخّخات تركت بيني وبينها مسافة أمان مدروسة، آلاف من طلقات قناصات لم يحالفها الحظ لاصطيادي، موت يمرّ مرّات ومرّات بجانبي دون أن تثيره رائحتي. فاشلة أنا حتى في إثارة الموت.
البعض منّا عبء على الحياة برمتها، عبء على الفرح، عبء على ضحكات أحبته، يزحف كنقطة سوداء في منتصف مشهد أبيض، نحن الذين يليق بنا صمت المقابر، نسدّ جوع الموت من ألفه إلى تائه، والموت وحش غبي لا يلتهم إلا من تليق بهم الحياة.
عزيزي الله: كن بخير، أو دعنا بخير، نزحف إلى موتنا القريب بسلام
ومع ذلك بقيت طوال سنوات الحرب والموت والفقر والجوع، أستعير من الأطفال سذاجتهم لأتمنى أن تمدّ يدك وتنتشلنا من كل هذا البؤس، لكنك أيضاً لم تفعل.
انتهت الحرب، وأكملت حياتي بعدها محاولة أن أقبض على أي لون آخر سوى الأسود، لكن جميع الألوان كانت تفرّ مني، حاولت كثيراً أن أستعير ابتسامات على مقاس وجهي، لكن أن يسلب منك الفقد حياتك يعني أن تستعير لوجهك ابتسامة لا تشبه إلا موتهم.
فاز الموت – أداتك التي لم تعد مخيفة – بعدها علينا في جميع الجولات، وترك لنا سؤالاً مثيراً: ما السرّ في دمائنا تثير شهية الموت أينما حللنا؟
تعجبني فكرة الموت بعد المرض، فهي تسمح للذكي أن يستمتع بمراوغة الموت القادم قريباً، كما تسمح له بقضاء ما تبقى له من وقت بالطريقة الأحب إلى قلبه، كقريبي الذي مات إثر مرض عضال، لكنه مات سعيداً لأنه عاش الحياة كما ينبغي لها أن تعاش، وأسعد جميع من حوله في سنواته الأخيرة بكل ما أوتي من حب.
المحظوظ منا – باعتقاد شخصي – من يمتلك معرفة الوقت والطريقة التي سيرحل بها، ليرتب لنفسه رحيلاً يليق بكل الحب المحمول داخله، المحظوظ منّا من يفوز بموت عادل كهذا.
عزيزي الله الذي لم أعد أخشاه، سأخبرك سراً صغيراً: اللحظة الفاصلة التي جرّدتني من شعور الخوف تماماً كانت عندما غسلتُ قريبتي الميتة. أن تجد نفسك دون تخطيط مسبق مع جثة منتفخة على خشبة التغسيل، تنتظر أن نغسل عنها أدرانها لتلاقيك نظيفة طاهرة كما يزعمون، يجعلك ذلك في مواجهة مباشرة مع شكل الموت.
اسمها "هيا"، وقد أوصت بألعابها وخمس وأربعين شيكل وزعتها بالتساوي على أقربائها وصديقاتها، أرجوك لا تخبرني أنك لا تعلم، فقد دارت وصيتها العالم كله وشلّعت قلوب الملايين، ألا تملك قلباً عزيزي؟
تساءلت يومها لماذا أنا؟ في الحقيقة لا أعلم، لقد هربوا جميعاً وتركوني وحدي مع المرأة التي تغسل الموتى، فاضطررت لمساعدتها، تفاجأت بأن الأمر كان أخفّ وطأة مما توقعت، لم أخف وأنا أقلب الجثة على جانبيها، وأسكب الماء الفاتر على جسدها الذي بدا كقطعة مكملة للطاولة الخشبية تحتها.
كنت أعتقد أنني سأشعر بروحها التي ينبغي أن تطوف حولنا وتتذمّر من برودة الماء أو سخونته، لكن لم يحدث شيء من ذلك. اكتشفت يومها أن كل ما أخبرونا به عن الموت وعذابه غير صحيح. حسناً، حسناً، انس كل هؤلاء وانظر إلى تلك الطفلة الغزاوية، هل يعقل أنك لم تقرأ وصيتها؟ ألم يحملها لك آلاف من ماتوا البارحة في غزة؟
إن كنت لا تعلم فاسمها "هيا"، وقد أوصت بألعابها وخمس وأربعين شيكل وزعتها بالتساوي على أقربائها وصديقاتها، أرجوك لا تخبرني أنك لا تعلم، فقد دارت وصيتها العالم كله وشلّعت قلوب الملايين، ألا تملك قلباً عزيزي؟
سأخبرك شيئاً أخيراً لأنني أعتقد أننا لن نتحدث بعد الآن، ما أريد قوله هو أن أؤمن بعدم وجودك وبأنك كذبة كبرى خير لي من اعتقادي بأنك تجلس على عرشك متفرجاً على هذا الظلم الواقع على البشر ولا تحرك ساكناً.
ختاماً...
عزيزي الله كن بخير، أو دعنا بخير نزحف إلى موتنا القريب بسلام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...