هذه النصوص القصيرة التي تتناول مواضيع متعلقةً بالصحة الجنسية والحقوق الجنسية والإنجابية وملكية الجسد، تندرج ضمن مشروع تعاون بين رصيف22 ومؤسسة "براح آمن"، وهي مؤسسة نسوية مصرية تناهض العنف الأسري. الهدف من هذا المشروع إفساح المجال أمام الأشخاص، وتحديداً النساء، للتعبير عن ذواتهنّ ومشاعرهنّ وجنسانيتهنّ وعلاقتهنّ بأجسادهنّ.
أسير في الشارع، أنظر في وجوه الناس من حولي، أتأمّلها جيداً. أبتعد عن الشوارع التي تعرفني. أسرع الخطى وأحسب خطواتي. أقول: "بعد مئة خطوة سأفعلها، بعد مئة خطوة سأنزعه، لنجعلها مئة وخمسين".
أعود لنفس الارتباك والتردّد: "هل عليّ فعل هذا؟ ربما عليّ العودة إلى البيت، إذا رآني أحد سأموت"، ولكن الموت بالنسبة لي ليس أسوأ ما في الأمر، بل إنني سأتألم كثيراً، إذا مت سأتحرّر بالتأكيد، وأنا أختار الموت على الشعور بالألم، ولكني أريد تجربة الحرية قبل الموت.
أعود وأشجّع نفسي: "افعليها الآن أو لن يحدث أبداً".
واحد...
اثنان...
ثلاثة...
مشهد لن يجلب العار
ها هي فتاة بجسد نحيل على أعتاب المراهقة، تخلع وشاح رأسها المُسمى "الحجاب"، في شارع جانبي لا يسير فيه الكثير من الناس. مشهد بسيط، هين، لا ولن يؤذي أحداً، والله العظيم لن يؤذي أحداً ولن يجلب العار ولن يمنع الرزق، وبالتأكيد يمتلك الله أموراً أهم لينظر إليها.
داخل رأسي كان يدور مشهد لوالدي، صاحب الوجه الصبوح والشخصية الهادئة، وملامحه تتغير بصورة أكثر بشاعة ووحشية وهو يطحن رأسي تحت عجلات أي سيارة مارّة بعد أن يكتشف أمري، بالتأكيد شكل الدماء المتناثرة ورأسي المهشم سيكون أهون ألف مرة من حجاب مخلوع.
أتقدّم خطوتين، وأعود مثلهم، واحد اثنين… واحد اثنين، أغضبنا الرب والأب، ولكن علينا فعل ذلك، لنتذوق كيف تكون الحرية ولو لمرة واحدة.
أستعيد تلك الذكرى بعد 7 سنوات من حدوثها، كنت أريد الكتابة عن "ذكرى أول مرة"، أول مرة في أي شيء، حب، جنس، دورة شهرية، اكتشاف، لكن رأسي لم يهدني إلا لتلك الذكرى، التي لا أعلم لماذا تأتيني في صورة مشوشة، غير واضحة وتجلب معها مشاعر حزن وخوف ومرارة في الحلق، رغم أنها المرة الأولى التي أختار فيها أن أكون الشخص الذي أريده.
"داخل رأسي كان يدور مشهد لوالدي، صاحب الوجه الصبوح والشخصية الهادئة، وملامحه تتغير بصورة أكثر بشاعة ووحشية وهو يطحن رأسي تحت عجلات أي سيارة مارّة بعد أن يكتشف أمري، بالتأكيد شكل الدماء المتناثرة ورأسي المهشم سيكون أهون ألف مرة من حجاب مخلوع"
ذكرى متعة السير في الشارع بلا حجاب فُرض عليّ منذ العاشرة، ولكنها أيضاً كانت ذكرى اكتشاف الخوف والهواجس، ولحظة انطلاق جميع المشاهد الدموية في رأسي. أب يهشّم رأسي في الحائط، أخ يطعنني بسكين أو ينحر عنقي، أو مجموعة من رجال العائلة يبرحوني ضرباً حتى الموت.
ربما لذلك لم تكن المرة الأولى لخلع الحجاب ذكرى أرويها بفخر، بل كان يغلبني الخوف والبكاء أحياناً، والشعور بالغربة حين تروي إحداهن أمامي كيف شعرت أنها حية أخيراً حين لامس الهواء شعرها لأول مرة منذ سنوات.
أنا لم أشعر بهذا، بل شعرت أن الهواء اختفى من حولي، أنني لا أستطيع التنفّس من شدّة كتم أنفاسي. كان خوفي أن يراني أحدهم هو الشعور الأكبر الذي طمس كل شعور سواه.
أحاول استعادة ما حدث بعد تلك المرة، لا أتذكر سوى أنني أعدت وضع الحجاب سريعاً على رأسي بعد دقائق من خلعه، ولكن شعور الخوف والتربّص ظل منذ ذلك الوقت يذكرني كيف أن قراراً واحداً، غير مؤذ، غير هام، بسيطاً كإنزال الحجاب وكشف شعري، يمكن أن يتسبب في ذبحي، أو سحلي على الأسفلت في أقل تقدير.
لا زلت أذكر تهديد أخي الذي يصغرني بخمسة أعوام، أنه إذا علم باستمرار رغبتي في خلع الحجاب سيذبحني حينها. قالها بهدوء وإصرار غريب. أخي لا زال طفلاً، يخطو خطواته ناحية المراهقة، كيف ومتى أصبح مقتنعاً أن قتلي أو أذيتي سيكون أهون عليه من رؤيتي كاشفة شعري؟
لسبب ما شعرت وقتها بمرارة أكبر من كل المرات التي عُنّفت فيها، لأني أخبرته برغبتي بالتوقف عن ارتداء الحجاب.
أردت الذهاب إليه، وأن أسرد له كيف أن الأمر مؤلم، وأنني لست عدوته، وأنني لا أشكل خطراً عليه، وأنني لم أحصل على ذكريات طفولة بسيطة مثله، أو بفتيات في مثل سني، لم أحظ بتلك الفرص، لأن الحجاب الذي يخشى عليه من دنسي كان يقيدني من الشعور بكوني طبيعية وأتحرّك بحرية مثلهن.
النعم... ليست كاملة
والآن، بعد أن صار عمري 20 عاماً، لا زال الحجاب ملفوفاً حول عنقي كقيد من النار والحديد، لم يزل الخوف، تعلّمت فقط كيف أتماهى معه، كيف أتحايل عليه في النهار كي لا يخنقني في الليل.
لم تخفت التساؤلات، ولم يقلّ تعجبي في كل مرة أنظر في المرآة وأنا أضع الحجاب فلا أعرفني. لا تقل المرارة أو الحزن أو الغضب في كل مرة أضطرّ فيها إلى إخفاء ما أريده أن يظهر للعلن دون خجل.
أشعر بالقهر أن حتى أبسط شيء- شعري وجسدي- لا أملكهما، ولا أملك حق التصرّف بهما.
"لا أتذكر سوى أنني أعدت وضع الحجاب سريعاً على رأسي بعد دقائق من خلعه، ولكن شعور الخوف والتربّص ظل منذ ذلك الوقت يذكرني كيف أن قراراً واحداً، غير مؤذ، غير هام، بسيطاً كإنزال الحجاب وكشف شعري، يمكن أن يتسبب في ذبحي، أو سحلي على الأسفلت في أقل تقدير"
تقول أمي إن عليّ أن أحمد الله لأنني أمتلك جسداً معافى وفراشاً وثيراً وطعاماً يسد جوعي، وأنني إن أعددت النعم فلن أحصيها.
حسنا. عزيزي الله، ربما عليّ عدّ النعم التي أعطيتني إياها، رغم أنها ليست كاملة!
أعطيتني أماً ولم تعطني أذرعها الحانية تلتف حولي.
أعطيتني منزلاً ولكني حتى الآن لم أذق طعم الدفء به.
أعطيتني عائلة ولم أعلم حتى معنى كلمة انتماء لها.
أعطيتني جسداً ولم تعطني حرية التصرّف به.
أحرجني العطاء، ربما، لكنه مثل أن تهدي مسافراً تائهاً في الصحراء مجدافين بدلاً من شربة ماء.
عزيزي الله، يقولون إنك نور السماوات والأرض، لم يدركني نورك حتى الآن.
ولكن في النهاية، فإن الشيء الوحيد الذي تأكدت من امتلاكي له، هو وسيلتي الوحيدة في الانتقام، والتعافي، أن أروي ما حدث، أحكي عنه لأنه ما زال حيّاً بداخلي، مازال قابلاً لأن يُحكى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...