تحقّق الانتصار أخيراً. دُحرت قوى الطغيان وتفكّكت خرسانات الاستبداد التي أحاطت وشيّدت حكم آل الأسد طوال 53 عاماً، والتي بلغ صيت تماسكها، بعد دعم الحلفاء للنظام المخلوع، حد الاعتقاد بعدم وجود قوة عسكرية، أو حتى إلهية، قادرة على تخليص السوريين من صرح الطغيان القائم على دماء وصرخات الشعب السوري، صاحب الأرض والسيادة.
حدث جلل كهذا بات واقعاً مشهوداً الآن، وذلك بعد أن كان منذ بضعة أيام ضرباً من الخيال، يواجه فيه من تمسّك بحلم انتصار الثورة، التي انطلقت في آذار/مارس 2011، شتّى ضروب التهكّم والاستخفاف من المراقبين، ويُنْعَتُ بالجنون والهذيان، نظراً لما كان يبديه الجالس على كرسي الدم من تعنّت وتجبّر فاشي غير مسبوق، ولتجذّره عميقاً في تربة الطين والتعفّن والفساد.
حدث جلل كهذا لابد وأن يخلّف الآلاف من ردود الفعل المتباينة، والتحليلات المتناقضة، والقائمة الطويلة من المسبّات والشتائم واللعنات السورية على نظام ضرب بأبسط المعايير الإنسانية عرض الحائط، معلناً لحظة سقوطه نهاية لأسوأ أنظمة الحكم الشمولية التي شهدها العالم، منذُ أبصرت الإنسانية ما يسمى بالتنظيم السياسي قبل قرون خلت.
وليكشف بسقوطه أيضاً عن ثمار تلك التربة، والتي بَدَتْ سوداء، قاتمة، متعفّنة، طعمها مرّ، يتحلّل كالسمّ في أجسادنا، وليتركنا مرضى سقيمي الجسد والروح أمام ما تكشفه تربة الدم من خبايا وأسرار أقل ما يمكن أن يُقال إنها شيطانية، ثم إن وصف الشيطانية ليس بالمعبّر، فخبايا تربة الدم وصلت بالسوريين إلى محاولات وصف عقيمة تعبيرياً، معلنةً عجز لغتنا العظيمة عن إيجاد مجاز لها.
الأسد فرّ وخلّف وراءه هذه الألبومات، التي سرعان ما بدأ السوريون بتناقلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتهكّم عليها تهكّماً مبالغاً به، وصل إلى حد إنشاء حسابات وصفحات خاصة بصور "كلاسين" الأسد الرئاسية
سجون مفتوحة ومغلقة بطبقات لا نهائية
ما إن سقط النظام، حتى توجّهت عيون الجميع من القصر الجمهوري الفارغ في الأعلى إلى سراديب الزنازين المظلمة الكائنة أسفل القاع السوري؛ تم تداول عشرات الصور والفيديوهات لتحرير المعتقلين، ورواية قصصهم ومعاناتهم ومعاناة ذويهم، ظروف الاعتقال وأدوات التعذيب، الوجوه الفاقدة لأي معنى من معاني الحياة، عيون تنظر إلى العدم، كلام متلعثم حُرِم التلاحم مع الحنجرة عشرات السنين، ذاكرة مفقودة وعقول غابت حتى انصهرت تلافيفها مع بقايا أرواح أصحابها، لتخرج جوفاء خالية إلّا من الخوف والرهبة والعقد النفسية.
مئات بل الآلاف من الذكريات المؤلمة مع عناصر النظام البائد والتصورات المرعبة لجلّاديه في تلك السراديب المغلقة، وعن البيادق الذين كانوا يعشّشون في كل زاوية وشارع ورصيف من بلادنا. خرج أصحاب هذه الذكريات يتحدثون بها على العلن لأوّل مرة، يصفون مرارة ذلّ الكتمان والخوف، لئلا يصبحوا "تحت سابع أرض" على حد تعبيرهم المجازي، الذي كشفت الأيام القليلة الماضية أنه حقيقة واقعة، يعيشها آلاف المعتقلين يومياً في جحيم "سوريا الأسد"، تفصلهم مئات الأمتار عمّن هم فوق الأرض، يمارسون حياتهم اليومية، ويظنون أن ما يسمعونه من أصوات، هي أصوات أشباح من العالم الآخر تحاول إثبات وجودها.
مجلّدات وملفّات حُشر بداخلها جموع السوريين بتصنيفات لا تخطر على بال إنسان، كل تلك التندّرات الهامسة الخائفة، والكوميديا السوداء التي عرضتها العديد من المسلسلات الناقدة، بل والحقائق السوداوية الجادة التي عرضت في مسلسلات أخرى، لم تكن لتوازي حجم الواقع وما كشفه من خبايا وجنون ومرض، أوقع السواد الأعظم من السوريين بدهشة وحيرة ودوامة من التساؤلات حول إمكانية وجود نموذج كنموذج عائلة الأسد على أرض الواقع تعيش معهم في العالم الحقيقي.
وبذلك عاش السوريون 53 عاماً في طبقات مختلفة من السجون، ربما يبدو أقساها وأظلمها سجون سمعتم بها في الآونة الأخيرة، كسجن صيدنايا، وسجن فرع فلسطين، وسجن المزة، وغيرها الكثير من السجون التي وصفت على كثرتها كأنها مدينة تحت الأرض، ولكن واقع الأمر أن السوريين في مناطق سيطرة النظام البائد كانوا يعيشون في عدد لا متناهي من السجون متفاوتة الطبقات، يُزِجّون بأرواحهم وكيانهم فيها بحسب جرأتهم.
فمن منع نفسه من الانخراط والتفكير، احتفظ لنفسه داخل سجنه ببعض الكهرباء والطعام وحد أدنى من الرفاهية ومستوى أجور بالكاد يكفيه قوت يومه وعائلته، ومن لم يستطع كبح مشاعر الكراهية والحقد، ظلّ حبيس سجن أفكاره وشعوره بقلة الحيلة وحسرة الذلّ والطموح للعيش بكرامة وحرية، ومن اعتزم الحراك والتغيير إما بالقول أو الفعل، لمن أستطاع إليه سبيلاً، كان ينام وعيونه مفتوحة، شعور الخطر ألتصق به ومشاعر الخوف تملكت منه، ينظر إلى باب بيته بانتظار أن يأتيه السجان في أية لحظة، يضع القيد في يديه ويأخذه ليلاقي مصيره المعروف.
السر حول هذا الغموض، وهو أنه لا يوجد سرّ أصلاً، لا يوجد معنى، لا توجد إجابات، لا يوجد معنى خلف تلك العائلة الهلامية الخاوية الّلهم إلا من الأمراض والسادية والعقد النفسية
سقوط صورة الطاغية
وسط هذا الكم من الرعب والضغط النفسي الكبير، تدعونا عشرات الصور التي تمّ التقاطها من قصور الأسد الرئاسية لمخلفات ألبومات الصور العائلية، له ولأسماء وغيرها من رموز السلطة ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، وما أثارته لاحقاً من تفاعل يكاد يطغى على صور وفيديوهات نصر الثورة ذاتها، تدعونا إلى التساؤل حول سبب هذه الظاهرة، ورمزية هذه الصور لدى السوريين.
فما حدث هو أن الأسد قد فرّ وخلّف وراءه هذه الألبومات، التي سرعان ما بدأ السوريون بتناقلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتهكّم عليها تهكّماً مبالغاً به، وصل إلى حد إنشاء حسابات وصفحات خاصة بصور "كلاسين" الأسد الرئاسية.
ولا شكّ في أن السبب وراء سلوك السوريين هذا يعود بالأساس إلى السرّية والتكتّم التي أحاطت عائلة الأسد نفسها به، منذ تولي الأسد الأب وإلى آخر لحظة من سقوط الأسد الابن، فقد أحاطت العائلة نفسها بجدران سميكة من القداسة والألوهية التي خلقت تعطّشاً وفضولاً وافراً لدى السوريين لمعرفة خبايا الحياة العائلية الحميمية لـ "القائد" الهارب، وتفاصيل معيشته حتى ولو كان خبراً كاذباً.
إن المقاربة البديهية لهذه الظاهرة ربما يعزوها البعض إلى فجوة معرفية نحسّها عندما نواجه تساؤلاً ولا نجد إجابته، فيخلق هالة من الغموض تربك العقل وترهقه، وكلما اتسعت هذه الفجوة وفقدنا سيطرتنا على تحجيمها أو وضع حدّ لها، تولَّدت لدينا حالة من اللايقين، تضغط بكل ثقلها على عقولنا لتجاوزها، وذلك بمحاولة إيجاد مغزى أو معنى لما نتساءل حوله، فتقودنا حدّة الشعور إلى إظهار ميول غريبة أو منحرفة يتسيّدها الفضول للانجرار إلى التلصّص والتلذّذ بمتعة الانتهاك.
ولكن بمقاربة أكثر تعمّقاً لهذا السلوك، ربما يبدو الأمر محاولة لتجاوز صورة الأسد لدى السوريين، والتي حاولَ الرئيس المخلوع وزبانيته وأبواقه الإعلامية تصديرها بغير ما هي عليه على مدار 25 عاماً من حكمه غير الموصوف، صورة تُظهِرُ الأسدَ بوصفه "نصف إله"؛ صور بأحجام ضخمة تتصدَّر كلّ شيء، الساحات، الشوارع، المكتبات "الوطنية"، المكاتب العقارية، وصولاً إلى أكشاك وبسطات بيع الدخّان في عشوائيات دمشق وحلب وغيرها من المدن الكبرى.
ويليها عبارات جوفاء له ولوالدهِ تُدرَّس لطلبة المدارس والجامعات لحفظها بصماً، بوصفها بوصلة لوعيهم السياسي والفكري والأدبي والأخلاقي والأسري، ويكاد يطاول العاطفي، لولا سمحوا لبعض الممثلين والإذاعيين بأن يشغلوا موقع المرجعيات العاطفية للسوريين من باب الكرم الباذخ لآل الأسد.
ولكن عملية هدم صورة بشار الأسد ووالده بدأت منذ عام 2011، فقد شهدت منطقة عامودا أول إسقاط لتمثال حافظ الأسد، معلنة عن نهاية عصر الخوف من طاغية، ليتبعها إسقاط لتمثال آخر في دوما ثم في بانياس، ثم في منطقة معرة النعمان في ريف إدلب سنة 2012، وآخر من درعا في نفس العام، ثم في الرقة عام 2013، وفي حلب وحمص في العام الذي يليه، وهكذا توالت أصوات الرفض الممنهج لهذا النظام إلى أن وصلت إلى سقوط النظام المخلوع في 2024 التي أسفرت عن نزع أخر رموز الأسد الأب والابن مع سقوط حكم بشار الأسد في سوريا.
لا يوجد شيء ملفت في "كلاسين الأسد" أو محتويات القصر البائس الذي تعكس برودته طبيعة العلاقات بداخله، إنما في تداول أخبار القصر الغامضة، محاولة تسدّ فيها نشوة السخرية المؤقتة ثغرة اللهاث حول حقائق لن تشفي غليل أحد
رمزية "الكلسون" الرئاسي
ومع وصول مسار التاريخ إلى 8 من كانون الأول/ديسمبر، وفي ذروة الهيستيريا الجماعية، أصبح جنون المحيط سيّد الموقف، وبقدر ما كانت مقاومته كانت قوته وتأثيره، فما عاينه السوريون من إجرام وخداع جمعي من نظام الأسد دفعة واحدة، وضعهم في أسوأ أوقاتهم، يعتمل بداخلهم خليط من مشاعر الغضب والعجز والكراهية والحقد، غريمهم الأعظم اختفى، تركهم في رغبة ملحة لإيجاد تفسير كلي منطقي، سبب واحد يكظم غيظهم، يحقق انتقامهم، غضب أطلق العنان لجنون الهيستيريا الداخلية، وجعلها أسيرة لعنة الانتقام لغريم بعيد المنال، فابتلعتهم كأفراد وأعطت للخداع دور البطولة في كادر مشهديّتهم.
وإن واقع ظهور تلك الصور والألبومات والحرية الكاملة في تداولها والتعليق عليها، أحدث ثقوباً في تلك الجدران المنيعة العالية، أتاحت استباحتها بتشفّي عيون متعطشة لمعرفة ما الذي كان يحدث وراء تلك الأسوار، وكيف كانت حياة المقيمين خلفها، ليخرج التساؤل الأهم، هل ستجد تلك العيون المترقبة أجوبة حول تساؤلاتها الملحّة؟ هل ستجد ما يواسيها على مصابها؟
حقيقة الأمر لا يوجد شيء ملفت في "كلاسين الأسد" أو محتويات القصر البائس الذي تعكس برودته طبيعة العلاقات بداخله، إنما في تداول أخبار القصر الغامضة، محاولة تسدّ فيها نشوة السخرية المؤقتة ثغرة اللهاث حول حقائق لن تشفي غليل أحد، ليتضح السر حول هذا الغموض، وهو أنه لا يوجد سرّ أصلاً، لا يوجد معنى، لا توجد إجابات، لا يوجد معنى خلف تلك العائلة الهلامية الخاوية الّلهم إلا من الأمراض والسادية والعقد النفسية التي قاموا بصبّها علينا، سحقتنا نحن، وغذّت ساديتهم على مدار عقود عجاف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...