يتم إحياء ذكرى مقتل الإمام الحسين وأصحابه في واقعة كربلاء في إيران عبر طقوس عديدة وآداب تختلف من منطقة إلى أخرى، تعرف بالشعائر الحسينية. ويشكل تقديم وجبات الطعام في المناسبات المختلفة جزءاً مهماً من ثقافة الشيعة في إيران، ويطلق عليها "نَذري" أي النذورات. ويكون ذلك خلال الأيام التي تقام فيها طقوس عاشوراء أي من بداية شهر محرم إلى اليوم العاشر منه، فيُوزّع الطعام على الجيران والمشاركين في مجالس العزاء أو المارة في الشوارع.
لا توجد معلومات دقيقة عن بداية تقديم النذورات في شهر محرم في إيران، ولكن يبدو أن أطباق النذورات في عاشوراء أخذت شكلاً رسمياً وأصبحت طقوساً سنوية منذ ظهور الدولة الصفوية الشيعية في إيران في القرن السادس عشر، ففي تلك الفترة كان طبق "پُلو گوشْت" (الأرز باللحم) الوجبة الخاصة بفترة عاشوراء. وتتكون هذه الوجبة من الأرز ولحم الخروف أو البقر المطهو بالبهارات، إذ كانت الأسر المتمولة وأفراد العائلة الملكية الصفوية يعدون الطبق ويوزعونه على ثلاثة أشكال: أولاً: ملء الأواني التي يرسلها الناس إلى صاحب النذر، ثانياً: توزيع الطعام بين الفقراء، وثالثاً: توزيعه بين المجتمعين أمام المنزل.
ومن أطباق النذرورات العاشورائية في عهد الصفويين والتي اندثرت في ما بعد، هو توزيع الخبز والزبادي على الأشخاص المشاركين في عزاء اليوم التاسع من شهر محرم.
الفترة القاجارية وتوسيع رقعة النذورات
أما في العهد القاجاري وتحديداً في نهايات القرن الثامن عشر أخذ المطبخ العاشورائي في إيران أبعاداً مهمةً في الشعائر الحسينية، فكان القاجاريون شيعة يعيرون اهتماماً جاداً بالشعائر الشيعية، وقد تنوعت الأطباق بين الإيرانيين في هذه المناسبة، وكان الملوك القاجاريون يوزعون الآش (الحساء) الإيراني بين المشاركين في مراسم عزاء الإمام الحسين. وكان حساء الملك ناصر الدين شاه القاجاري (أبرز ملوك القاجار)، من أهم النذورات التي تُوزَّع في العاصمة طهران في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي.
كان الملوك القاجاريون يوزعون الحساء الإيراني بين المشاركين في مراسم عزاء الإمام الحسين. وكان حساء الملك ناصر الدين شاه القاجاري من أهم النذورات التي تُوزَّع في العاصمة طهران
ويتكون الآش الإيراني من مكونات مختلفة تتنوع بين الشعرية واللحم والخضار والبقوليات والبصل والثوم والبهارات، وبما أنه حساء شعبي ومتداول لدى معظم الإيرانيين على رغم اختلاف قومياتهم وأعراقهم، فطريقة إعداده وأسماؤه تختلف حسب مكوناته وتحضيره من منطقة إلى أخرى في البلاد.
أما "القيمة" فقد تتربع على عرش الأطباق التقليدية في شهر محرم في إيران، ويمكن الجزم بأن جميع المآتم في إيران تقدم هذه الوجبة المحببة للمشاركين. والقيمة هي مرق مكون من اللحم المقطع إلى مكعبات صغيرة مع البصل والحمص ومعجون الطماطم والبهارات والزيت، ويستخدم فيها ماء الورد والقرفة أيضاً، ويتم تقديمها مع الأرز والبطاطا المقلية. ویعود تاريخ دخول هذا الطبق إلى أيام عزاء الامام الحسين إلى الحكم البَهلوي (1925-1979).
كما يضم مطبخ عاشوراء في إيران، طبق الـ"قورمه سبزي" الذي يُعتبر أشهر الأكلات الإيرانية وألذها، وهو مرق مكون من الخضار واللحم والفاصولياء، يتم تحضيره بطريقة واحدة تقريباً في عموم البلاد، كما يتم تناوله مع الأرز، ولصعوبة إعداده يقتصر طهيه كنذر على يوم العاشر من شهر محرم هذه الأيام، إلى جانب كونه طبق الولائم العائلية.
"شُله" أكلة ضمن التراث المعنوي
وينفرد أهالي شمال شرقي إيران، لا سيما مدينة مشهد الحاضنة لمرقد ثامن أئمة الشيعة، الإمام علي بن موسى الرضا، بإعداد طبقٍ يُسمّى بـ"شُله مشهدي"، وهو طبق بين الحساء والهريسة، إذ يتم تجهيز مواده الأولية قبل يوم من طبخه، ويتكون من لحم الخروف والبقوليات المتنوعة وقليل من الأرز والأعشاب، ويتزين طبق الشُله بمرق القيمه والذي يمنحه طعماً لذيذاً.
ويعدّ هذا الطبق التقليدي الذي يتناولونه مع الخبز والمشروبات الغازية في الحسينيات من الأطباق المهمة في مشهد على مدى قرنين من الزمن، وحرصت وزارة التراث الإيرانية على تسجيله ضمن قائمة التراث المعنوي للبلاد.
"بالنسبة لنا امتزجت الشُله بعزاء شهريْ محرم وصَفر، ونتناولها في هذه المناسبات... إنها وجبة تراثية محببة"؛ هكذا يقول حسين يَزدي نجاد، أحد أهالي المدينة عن سرّ إعداد الشُله في هذين الشهرين دون غيرهما.
وهناك وجبات خاصة بشهر محرم في مدينة الأهواز جنوب غربي إيران، حيث تُقدم "لفة العباس" أو "خبز العباس"، كنذر في هذه المدينة، إلى جانب الأرز والمرق والهريسة والأكلات الأخرى. ولفة العباس هي وجبة خفيفة وسريعة تتكون من نصف رغيف الخبز المحشي بقطعة جبنة مع الخيار والكراث، وتقدم في اليوم السابع من شهر محرم، والذي يُسمى بيوم أبي الفضل العباس لدى الشيعة، وتشتهر المجالس النسوية بتوزيع هذه الوجبة.
أطباق بين الحلو والحامض
أما في شمال البلاد فيطهو أهالي مدينة رَشْت طبق "خورشْت فِسِنجان" (مرق الفسنجان أو الفِسِنجون)، وطبق "خورشْت آلو" (مرق البرقوق)، في شهر محرم. ويتكون مرق الفسنجان من كُرات اللحم أو قطع الدجاج بالإضافة إلى دبس الرمان والجوز المطحون، ويكون طعمه حامضاً وحلواً.
أما مرق البرقوق فيتشكل من مكعبات اللحم مع البرقوق المجفف ومعجون الطماطم وطعمه حلو. ويشتهر الطبقان بـ"غذاي خيراتي" ما يعني "الطعام الخيري" بالفارسية، ولهما شعبية واسعة في تلك المنطقة.
وفي شمال شرقي البلاد وتحديداً في محافظة سِمنان القريبة من طهران، يعدّون في عاشوراء طبختي "ماني پُلو" و"خورشْت آلو" للمعزين في ذكرى مقتل الإمام الحسين، وتتشكل الأكلة الأولى من الأرز ولحم الجمَل وطعمها حلو لكثرة المشمش والبرباریس والشعرية والبهارات، وهي أكلة فاخرة.
أما الطبق الثاني فهو مرق البرقوق الحامض (خورشْت آلو)، ولا يتم طهي هذا المرق باللحم، بل ببيض الدجاج. يُعتبر مرق البرقوق أكلة محلية تقليدية في هذه المحافظة، لا سيما في مدينة دامْغان، ويتم تناولها مع الخبز أو الأرز.
و"متنجنة"، نوع من المرق الذي يعدّه سكان محافظة كِرمان الواقعة وسط البلاد، ويُلقَّب بمرق الإمام الحسين أيضاً، كونه يعدّ ويُوزع في اليوم العاشر من شهر محرم، ويتكون هذا المرق من اللحم والجوز والليمون والبطاطا والمشمش والحلبة والزعفران.
سنوياً تحضر في أنحاء إيران الأطباق النذرية في مكان مكشوف وعبر قدور كبيرة وكثيرة يتشارك في تحضيرها الأشخاص بنيّة كسب الثواب ومواساة الإمام الحسين
و"قیمه پیچاق"، مرق آخر یُعِدّه المواطنون الأتراك في مدينة أرْدَبيل الواقعة شمال غرب البلاد، ويتشكل من اللحم والبيض واللوز، ويحرص الأهالي على توزيعه في أيام عاشوراء، خصوصاً في اليوم التاسع من شهر محرم الذي يحظى بأهمية بالغة لديهم.
مشاركة جماعية في إعداد نذورات الطعام
أما سكان مدينة كاشان السياحية الواقعة وسط إيران فيشتهرون بأكلة "لوبیا گوشت"، وهي شوربة الفاصولياء البيضاء مع اللحم بلا عظام والزعفران والقرفة. وفي محافظة قزوين القريبة من طهران يحرص الأهالي على أن يقدمون أكلتهم المفضلة إلى المشاركين في عزاء الحسین، وهي "قيمه نثار" ومكوناتها الحم والمكسرات كـ اللوز والفستق إضافة إلى الزعفران وماء الورد والهيل.
وفي شمال غربي إيران، هناك نذورات متنوعة، أبرزها "چِلو گوشْت هویج"، وتتكون من الأرز مع لحم البقر وشرائح الجزر، وهي أكلة شهيرة بين أهالي مدينة تبريز التركية، يتناولونها مع الخضار.
تُعدّ سنوياً في أنحاء إيران أنواع الأطباق النذرية في مكان مكشوف وعبر قدور كبيرة وكثيرة يتشارك في تحضيرها الأشخاص بنية كسب الثواب ومواساة الإمام الحسين. وما سبق ذكره من أطباق عاشوراء في إيران، هو الجزء المهم والشهير وليس كل الأكلات والأطباق التي تعدّ في أنحاء البلاد خلال هذه الفترة، حيث هناك أطباق ووجبات أخرى منها "شُله زرد" (طبق حلو يتكون من الأرز واللوز والزعفران والسكّر وماء الورد) و"حليم" (هريسة باللحم أو الدجاج)، وأطباق أخرى، إلى جانب المشروبات التقليدية الإيرانية التي تسمى "شَربَت" أو شاي القرفة وشاي الزعفران.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه