يُعَدّ هاشم بن عبد مناف، الجد الثاني للنبي محمد، واحداً من أهم الشخصيات التي أثّرت بشكل كبير في تنظيم وتشكيل المجتمع المكي في الفترة السابقة لظهور الدعوة الإسلامية.
لعب هاشم دوراً محورياً في تعظيم المكانة التجارية لمكة في المنطقة من جهة. كما شهد عهده بدء الصراع الدموي الطويل بين كل من الهاشميين والأمويين من جهة أخرى.
الإيلاف وتأسيس تحالف قبلي
على الرغم من الأهمية الكبيرة التي تشغلها شخصية هاشم بن عبد مناف في المجتمع المكي قبل الإسلام، فإن المعلومات عنه قليلة جداً في المصادر التاريخية. لم تحدد المصادر توقيتاً دقيقاً لولادته. ويرى أغلب الباحثين أنه وُلد قبل 130 سنة من الهجرة النبوية إلى يثرب تقريباً.
تؤكد أغلب المصادر أن اسمه الحقيقي هو عمرو، ويذكر ابن هشام الحميري في "السيرة النبوية"، أن تسميته بهاشم كانت بسبب أنه "هشم الخبز لعمل الثريد في مكة" في وقت المجاعة.
ويذكر المؤرخون بعض المعلومات عن أسرة هاشم وعائلته ويشيرون إلى أنه كان أباً لأربعة من الذكور هم: أسد، وأبو صيفي، ونضلة، وعبد المطلب، ولخمس بنات. وتذكر الروايات أن هاشماً توفى في مدينة غزة في فلسطين، أثناء سفره في إحدى رحلاته التجارية. وقيل إن عمره لم يتعدَّ الـ25 سنة عند وفاته.
يتفق المؤرخون على الدور السياسي المهم الذي لعبه هاشم منذ فترة مبكرة من حياته. يذكر ابن جرير الطبري، في "تاريخ الرسل والملوك": "وولى هاشم بعد أبيه عبد مناف السقاية والرفادة". ومن المعروف أن السقاية والرفادة، والمقصود بهما الإشراف على إطعام الحجيج الذين يقدمون إلى مكة لزيارة الكعبة، كانا أهم المناصب المعروفة في مكة في تلك الفترة إلى جانب وظيفتي حجابة البيت الحرام والإشراف على دار الندوة اللتين عُهد بهما إلى بني عبد الدار بن قصي بن كلاب.
يتحدث ابن سعد، في "الطبقات الكبرى"، عن نجاح هاشم في أداء الوظائف التي ورثها عن أبيه عبد مناف. يقول: "كان هاشم بن عبد مناف بن قصي يخرج في كل عام مالاً كثيراً... وكان يأمر بحياض من أدم (من الجلد) فتجعل في موضع زمزم ثم يستقي فيها الماء من البئار التي بمكة فيشربه الحاج وكان يطعمهم أول ما يطعم قبل التروية بيوم بمكة وبمنى وجمع وعرفة وكان يثرد لهم الخبز واللحم والخبز والسمن والسويق والتمر ويجعل لهم الماء فيسقون...".
ولم يكتف هاشم بأداء تلك الأدوار فحسب بل نراه قد زاد عليها عندما عانت قريش من المجاعة ونقصت عندهم المؤن والأطعمة. يشرح محمد بن حبيب البغدادي، في كتابه "المنمق في أخبار قريش"، تلك المسألة فيقول: "أصابت قريشاً سنوات ذهبن بالأموال، فخرج هاشم إلى الشام فأمر بخبز كثير فخبز له فحمله في الغرائر على الإبل حتى وافى مكة فهشم ذلك الخبز ونحر تلك الإبل ثم طبخها وألقى تلك القدور على ذلك الخبز فأطعم أهل مكة وأشبعهم".
من المؤكد أن كرم هاشم مع قومه ومساعدته لهم في تلك الفترة العصيبة تسبب في إعلاء منزلته السياسية والاجتماعية ليصبح أهم زعماء قريش. يفسر لنا ذلك نجاحه في إنجاز أهم أعماله التجارية على الإطلاق، والذي يُعرف باسم "الإيلاف".
يُعرّف المؤرخون الإيلاف باعتباره مجموعة من عهود الأمان والحماية المتبادلة بين قريش والحلفاء التجاريين الإقليميين. وبحسب الروايات، فإن هاشماً هو الذي نظّم ورتب تلك العهود مع الملوك الذين يحكمون الدول المحيطة بشبه الجزيرة العربية مثل قيصر الروم وكسرى فارس. وبموجب تلك العهود، حظيت تجارة قريش بحماية القوى الكبرى مقابل الالتزام بدفع نسبة من أرباح التجارة إلى هؤلاء الملوك. وأثّرت تلك العهود بشكل كبير في تعظيم المكانة التجارية لمكة حتى أضحت واحداً من أهم المراكز التجارية في شبه الجزيرة العربية، كما صارت قريش وكيلاً تجارياً يؤمّن نقل البضائع بين الشرق والغرب بسهولة ويسر.
يذكر المؤرخ العراقي جواد علي، في كتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، نموذجاً عن كيفية انعقاد تلك المعاهدات. بحسب الرواية، فإن هاشم زار بلاد الشام وتعمّد أن يبدي كرمه وجوده في أسواقها حتى سمع قيصر الروم بخبره وأرسل يستدعيه للمثول بين يديه. وعندما مثل هاشم بين يدي القيصر قال: "أيها الملك، إن قومي تجار العرب، فإنْ رأيت أن تكتب لي كتاباً تؤمّن تجارتهم فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه فتباع عندكم فهو أرخص عليكم!". وأثار عرض هاشم فضول القيصر فوافق وكتب له كتاباً بذلك العهد. وتسبب انعقاد تلك المعاهدات في تنظيم الكثير من الرحلات التجارية من قِبل تجار قريش في السنوات اللاحقة. يذكر ابن هشام في سيرته أن أهم تلك الرحلات كانت رحلة الشتاء إلى اليمن والعراق، ورحلة الصيف إلى الشام. وهما الرحلتان اللتان وردت الإشارة إليهما في سورة قريش في القرآن.
مقابل ذلك، عملت بعض الروايات على تقديم وجهة نظر مخالفة إلى حد ما للصورة السابقة، وأشارت إلى أن تأسيس الإيلاف لم يكن عملاً فردياً لهاشم وإنما كان عملاً جماعياً اشترك فيه جميع أبناء بني عبد مناف مع بعضهم البعض.
على سبيل المثال، يذكر ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ": "أخذ لهم (لقريش) هاشم حبلاً (عهداً) من الروم وغسان بالشام وأخذ لهم عبد شمس حبلاً من النجاشي بالحبشة وأخذ لهم نوفل حبلاً من الأكاسرة بالعراق وأخذ لهم المطلب حبلاً من حمير باليمن...".
من الممكن أن نردّ الاختلاف في الروايات إلى التنازع الذي سيحدث في ما بعد بين الهاشميين والأمويين. وكان من الطبيعي أن يبحث كل فريق لأبيه الأعلى عن دور في تأسيس أهم اتفاقات قريش الاقتصادية عبر تاريخها.
كان اسمه عمرو، ولكن عندما عانت قريش من مجاعة خرج إلى الشام "فأمر بخبز كثير فخبز له فحمله في الغرائر على الإبل حتى وافى مكة فهشم ذلك الخبز ونحر تلك الإبل... فأطعم أهل مكة وأشبعهم". ولأنه هشم الخبز في تلك الحادثة لُقّب بهاشم
في سياق آخر، تُظهر أخبار الزيجات التي قام بها هاشم نيّته المبيتة في عقد تحالف قبلي قوي لخدمة أهدافه الاقتصادية-السياسية. تؤكد المصادر أنه تزوج من عدد كبير من النساء اللواتي اختلفت أصولهن القبلية، واللواتي استحوذت كل منهن على قدر كبير من المكانة الاجتماعية في قبيلتها. فقد تزوج من كل من أميمة القضاعية، وقيلة الخزاعية، وهند الخزرجية، وأُم عدي بنت حبيب الثقفية، وسلمى النجارية. وإذا تماشينا مع الروايات الكثيرة التي تؤكد أن هاشماً توفى ولم يتعدَّ الـ25 من عمره لتأكدنا من الطابع البراغماتي النفعي لكل تلك الزيجات.
التنافس مع عبد شمس
عمل المؤرخون المسلمون على ربط الأحداث السياسية التي وقعت في القرون الأولى من الهجرة بسيرة هاشم بن عبد مناف، وأكدوا أن الصراع الدامي الذي استعر بين بني هاشم (العلويين والعباسيين) وبين بني أمية قد بدأ منذ لحظة ميلاد هاشم وأخيه عبد شمس.
يقول العقوبي في تاريخه موضحاً ذلك الرأي: "ويقال إنّ هاشماً وعبد شمس كانا توأمين، فخرج هاشم، وتلاه عبد شمس، وعقبه ملتصق بعقبه، فقطع بينهما بموس، فقيل ليخرجن بين ولد هذين من التقاطع ما لم يكن بين أحد". أيضاً، ذكر الطبري: "وقيل إن: عبد شمس وهاشماً توأمان وإن أحدهما ولد قبل صاحبه وأصبع له ملتصقة بجبهة صاحبه فنحيت عنها فسال من ذلك دم فتطير من ذلك فقيل تكون بينهما دماء...".
تذكر الروايات أن عبد شمس توفي في سن صغيرة، وأن إرثه انتقل إلى ابنه الأكبر أمية. وتحكي المصادر التاريخية أن أمية حسد عمه هشاماً على مكانته العالية في قريش، فحاول أن يقلده في كرمه وجوده ولكنه عجز عن ذلك. ونشأت بين الرجلين عداوة فتحاكما إلى أحد الكهنة من قبيلة خزاعة. وحكم الكاهن بتغريب أمية بن عبد شمس وإبعاده عن مكة "فخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية"، وذلك بحسب ما يذكر الطبري في تاريخه.
أورد المقريزي أبياتاً شعرية توضح اشتعال نار الحرب بين بيت هاشم وبيت عبد مناف جيلاً بعد آخر: عبد شمس قد أضرمت لبني/ هاشم حرباً يشيب منها الوليد/ فابن حربٍ للمصطفى وابن/ هند لعليٍ وللحسين يزيد
على الرغم من عدم القدرة على التأكد من وقوع تلك الأحداث إلا أن المؤرخين المسلمين استندوا إليها في تفسير ما سيحدث في ما بعد. مثلت تلك القصة إرهاصاً للحروب الدامية التي سيخوضها الطرفان (بنو هاشم وبنو أمية) للوصول إلى كرسي الخلافة بعد الإسلام. وفي ذلك المعنى أورد تقي الدين المقريزي، في كتابه "النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم" بعض الأبيات الشعرية التي توضح اشتعال نار الحرب بين البيتين جيلاً بعد آخر:
عبد شمس قد أضرمت لبني/ هاشم حرباً يشيب منها الوليد
فابن حربٍ للمصطفى وابن/ هند لعليٍ وللحسين يزيد
في المُتخيل الشيعي... مؤمن يعرف بحفيده المنتظر
يرى الشيعة الإمامية إن جميع أجداد النبي كانوا من المؤمنين الموحدين الذين لم يعرفوا الكفر أو الشرك قط. يستند الشيعة في ذلك الرأي إلى مجموعة من الأحاديث المنسوبة للنبي ومنها: "لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات"، و"إنّ الله عز وجل اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى هاشماً من قريش، واصطفاني من بني هاشم".
من هنا، يظهر هاشم بن عبد مناف في المُتخيل الشيعي باعتباره مؤمناً موحداً لم يعرف عبادة الأوثان الشائعة في قريش في زمنه. على سبيل المثال، جاء في تاريخ اليعقوبي أن هاشماً كان يتفانى في تعظيم البيت الحرام، وكان يدعو أهل مكة لخدمة زواره طمعاً في الثواب "فيقوم خطيباً في أهل قريش عندما يحل موسم الحج في كل سنة فيقول: ‘يا معشر قريش! إنكم جيران الله وأهل بيته الحرام، وأنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله يعظمون حرمة بيته، فهم أضياف الله، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه، وقد خيركم الله بذلك، وأكرمكم به، ثم حفظ منكم أفضل ما حفظ جار من جاره، فأكرموا ضيفه وزواره، فإنهم يأتون شعثاً غبراً من كل بلد’".
وفي هذا السياق، يؤكد رياض رحيم حسين الصفراني، في بحثه "هاشم بن عبد مناف: دراسة في سيرته الشخصية"، أن "سيرة هاشم خالية من عبادة الأصنام فلا يوجد فيها ما يثبت أنّ هاشماً قد نطق يوماً بعبادة تلك الأوثان".
من جهة أخرى، عملت بعض المصادر الشيعية على التأكيد على معرفة هاشم بالمستقبل المزدهر الذي ينتظر حفيده النبي الموعود. على سبيل المثال، يذكر محمد باقر المجلسي، في كتابه "بحار الأنوار"، أنه "تزوج هاشم بن عبد مناف بسلمى بنت عمرو النجارية ودخل بها فحملت بعبد المطلب جد رسول الله، وانتقل النور الذي كان في وجهه إلى سلمى فزادها حسناً وجمالاً وبهجة وكمالاً حتى شاع حسنها في الآفاق، وكان يناديها الشجر والحجر والمدر بالتحية والاكرام، وتسمع قائلاً يقول عن يمينها: السلام عليك يا خير البشر، ولم تزل تحدث بما ترى حتى حذرها هاشم فكانت تكتم أمرها عن قومها...".
لم يكتف هاشم بذلك، بحسب السردية الشيعية، بل إنه أخبر أقاربه وأصحابه عند احتضاره بأهمية الاعتناء بابنه الجنين في بطن زوجته سلمى النجارية تحديداً دوناً عن بقية أبنائه، فقال لهم: "وإني أوصيكم بولدي الذي اشتملت عليه سلمى، فإنه سيكون له شأن عظيم". سيُفسر هذا الاهتمام في ما بعد بكون عبد المطلب هو الجد المباشر للنبي محمد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...