في السيرة النبوية، وردت أحاديث كثيرة عن علاقة النبي محمد بزوجاته، وعن خلافات نشبت بينهنّ بدافع الغيرة، وصل الأمر في إحداها إلى حد تطليق النبي إحدى زوجاته، وفي ثانية إلى تشكيك إحداهنّ في عدالة الرسول.
وكان النبي إذا أطال المكوث في بيت إحدى زوجاته أكثر من الأخريات، تثور الشكوك في نفوسهن، وكثيراً ما حدثت مشكلة عندما لامس إحداهن في يوم الأخرى. وإذا تفننت زوجة من زوجاته في صنع طعام وأرسلته إليه وهو في بيت أخرى، قد تثور ثائرة الغيرة في نفس صاحبة المنزل، وتحطّم الطبق.
وفي حديث عن عائشة أن الرسول خرج من عندها ليلاً في إحدى المرات، فقالت: فغرت عليه، فجاء فرأى ما أصنع. فقال: ما لكِ يا عائشة؟ أغِرتِ؟ فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك؟ فقال: أقد جاءك شيطانك؟
من المواقف ذات الصلة ما حدث حين كان الرسول في سفر، وبرفقته زوجتاه عائشة وحفصة، فقالت حفصة لعائشة: ألا تركبين الليلة بعيري، وأركب بعيرك فتنظرين وأنظر؟ وافقت عائشة على المقترح، إذ كان هدفهما التعرّف على مشاعر النبي تجاه كل واحدة منهما، فركبت حفصة بعير عائشة وعائشة بعير حفصة، فجاء النبي إلى بعير عائشة وعليه حفصة، فسلّم ثم سار حتى نزلوا، وافتقدت عائشة الرسول، فما كان منها إلا أن وضعت قدميها بين الإذخر (نوع من الشجر)، وقالت: "ربّي سلّط عليّ عقرباً أو حيةً تلدغني، رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئاً".
لم توضح الرواية السابقة التي ذُكرت في صحيح البخاري، ما دار بين النبي وحفصة، ولكنها تشير إلى أنه أدرك منذ الوهلة الأولى أن راكبة جمل عائشة هي حفصة، ولكنه آثر مجاملتها وتطييب خاطرها، حسب ما ذكر محمد بن فارس الجميل، في كتابه "أزواج النبي"، وكان وضع عائشة قدميها بين الشجر تسأل الله أن يلدغها عقرب مجرد محاولة منها لجذب انتباه النبي.
"تتحدث مع ابنة اليهودي في يومي!"
كان النبي يقسّم وقته بين زوجاته، وحينما كان يتجاوز التقسيم ويذهب إلى واحدة منهنّ في يوم الأخرى، كانت أحياناً تنتج عن ذلك مشكلة. ففي إحدى أسفار النبي اصطحب معه زوجتيه أم سلمه وصفية بنت حُيي، فأقبل رسول الله على هودج صفية، وهو يظن أنه هودج أم سلمة، وظل يتحدث معها فغارت أم سلمة، إلا أن النبي شعر بالخطأ الذي ارتكبه، فعاد إلى أم سلمة وهي في ذروة غضبها، فقالت أم سلمة: "تتحدث مع ابنة اليهودي وفي يومي وأنت رسول الله". ثم بعد قليل رجعت إلى النبي نادمةً على ما ارتكبت، وقالت: "يا رسول الله استغفر لي، فإنما حملتني على ذلك الغيرة".
وكما تفهّم النبي موقف أم سلمة المذكور، كان أكثر رقةً وتعاطفاً مع عائشة في الواقعة الشهيرة التي حدثت بينهما بسبب بعير صفية بنت حُيي. كان حمل هذا البعير ثقيلاً، ما جعله يبطئ الركب، بينما بعير عائشة نشيط وحمله خفيف، فأمر النبي بتحويل متاع صفية إلى جمل عائشة، ومتاع عائشة إلى جمل صفية. قالت عائشة: "فلما رأيت ذلك قلت يا لعباد الله غلبتنا هذه اليهودية على رسول الله"، فجاء رسول الله يراضي عائشة، وقال لها: "يا أم عبد الله إن متاعك فيه خفّ وكان متاع صفية فيه ثقل".
ويبدو أن عائشة لم تقتنع بالسبب الذي قاله لها رسول الله، فقالت: "ألست تزعم أنك رسول الله؟"، فتبسم النبي قائلاً: "أوَفي شك أنت يا أم عبد الله؟"، فقالت عائشة: "ألست تزعم أنك رسول الله فهلا عدلت"، وكان على مقربة منهما أبو بكر يسمع كلام ابنته، فأقبل عليها مسرعاً ولطم وجهها، فقال رسول الله: "مهلاً يا أبا بكر"، فرد أبو بكر: "أما سمعت ما قالت؟"، فقال النبي ملتمساً العذر لعائشة: "إن الغيرة لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه".
اللافت هنا أنه على الرغم من ثورة عائشة العارمة، ومساءلتها له حول رسالته، إلا أن النبي خاطبها بأحب الكُنى إلى نفسها، "أم عبد الله"، ولم يزجرها، بل هدّأ من روع والدها ودافع عنها وعزا ما صدر منها إلى الغيرة التي لا تتحكّم بها.
"كلوا غارت أمكم"
على الرغم من أن عائشة شهدت ببراعة صفية بنت حُيي في طهي الطعام، إلا أن الغيرة كان لها رأي آخر عندما أرسلت صفية جاريتها بطعامٍ أعدّته للنبي وهو في بيت عائشة. تقول عائشة عن ذلك: "فلما رأيت الجارية، أخذتني رعدة من شدة الغيرة، فضربت القصعة (إناء من خشب) فرميت بها، فقالت: فنظر إلي رسول الله، فعرفت الغضب في وجهه. فقلت: أعوذ برسول الله أن يلعنني اليوم. فقال: أولى، قلت: ما كفارته يا رسول الله، قال: طعام كطعامها وإناء كإنائها".
"أحياناً، كانت مجرد مداعبة أو كلمات عفوية من النبي إلى زوجة أمام أخرى، أو في منزلها، جديرةً بأن تشعل نيران الغيرة في قلب الأخيرة، وتفقدها توازنها"
وفي واقعة أخرى، أرسلت أم سلمة طعاماً إلى رسول الله وأصحابه وهو في بيت عائشة، فما كان من عائشة إلا أن أخذت حجراً وفلقت به الصفحة (إناء من غير الخشب)، فجمع النبي بين فلقتيها، وقال لأصحابه: "كلوا غارت أمكم" مرتين، ثم أخذ صفحة عائشة، وأرسلها إلى أم سلمة، وأعطى التي كُسرت لعائشة.
"أخّريه عني لا حاجة لي فيه"
أما الموقف الشهير المعروف بـ"مشكلة العسل"، فذُكر في روايات كثيرة، ولعل أقربها ما ذُكر في صحيح البخاري، من أن أم سلمة كانت تمتلك عسلاً، وكان النبي إذا زارها يطيل المكوث عندها، الأمر الذي أثار الغيرة في نفسَي عائشة وحفصة بنت عمر، فقررتا ممارسة حيلة مشتركة على النبي.
قالتا: "ليس شيء أكره إلى رسول الله من أن يقال له نجد منك ريح شيء"، أي رائحةً بشعةً، واتفقتا على أن تقولا ذلك إذا ما دنا منهما. ولما دخل النبي بيت عائشة، ودنا منها، قالت: إني أجد منك شيئاً، ما أصبت؟ فقال: "عسلاً من بيت أم سلمة"، فقالت يا رسول الله أرى نحلاً جرس عرفطاً (أي أن النحل الذي أنتج العسل أكل من نبتة العرفط كريهة الرائحة)، فخرج النبي متجهاً إلى بيت حفصة، فدنا منها فقالت له مثل عائشة، فدخل النبي على أم سلمة بعد ذلك، فأخرجت له العسل فقال : "أخّريه عني لا حاجة لي فيه".
تتضارب الروايات في تحديد صاحبة العسل، إلا أن رواية عائشة التي ذكرها ابن سعد في "طبقاته" ذكرت بالتفصيل أن صاحبة العسل هي أم سلمة، ولعل ما يقوّي الاحتمال أن أم سلمة ذكرت طرفاً من أمر العسل ومقام النبي عندها، فقد جاء عن عبد الله بن رافع المخزومي أنه قال: سألت أم سلمة عن آية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (سورة التحريم/ آية 1)، فقالت: كانت عندي عكّة من عسل أبيض، فكان النبي يلعق منها وكان يحبه، فقالت له عائشة: "نحلها تجرس عرفطاً"، فحرّمها فنزلت هذه الآية.
ولكن توجد روايات كثيرة أخرى تذكر أسباباً أخرى لنزول الآية المذكورة ترتبط أيضاً بالغيرة بين زوجات النبي، ومنها ما ذُكر في تفسير الطبري من أن رسول الله اختلى بمملوكته القبطية "مارية" في بيت حفصة، وكانت الأخيرة في بيت أبيها ولما عادت ووجدتهما غارت، فما كان من النبي إلا أن حرّم على نفسه معاشرة مارية بيمين، فنزلت الآية.
"هذا فعلي في ما أملك"
كان النبي أكثر ميلاً عاطفياً إلى عائشة، ما أثار غيرة زوجاته، فاجتمعن ذات يوم وطلبن من فاطمة أن تذهب وتنقل شكواهن إليه. استجابت فاطمة لطلبهن وقالت لأبيها عندما قابلته في بيت عائشة: "إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة"، فقال النبي: "أي بنية ألستِ تحبين ما أحب؟"، فقالت فاطمة: بلى، فقال النبي: فأحبّي هذه (إشارةً إلى عائشة)، فرجعت فاطمة إلى زوجاته وأخبرتهن بما قاله.
ظهرت غيرة نساء النبي من عائشة في مواقف عدة، لأن النبي كان يقول على الملأ إن الأخيرة أحبّ زوجاته إليه. ففي حديث عمرو بن العاص أنه سأل النبي: من أحب الناس إليك يا رسول الله؟ فقال: عائشة. قال: من الرجال؟ قال: أبوها. وتالياً لم تقتنع نساء النبي بما قالته فاطمة، وطلبن منها العودة مرةً ثانيةً، فقالت لهن: والله لن أكلّمه فيها أبداً.
عندما تزوّج النبي أسماء بنت النعمان الكندية، وكانت جميلة جداً، وقبل أن يدخل بها، أخبرتها إحدى زوجاته بأنه يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول: "أعوذ بالله منك". فلما دخل عليها النبي، وأغلق الباب، قالت: "أعوذ بالله منك"، فوضع النبي كمّه على وجهه، واستتر به وطلّقها
الإلحاح على طلب العدل القلبي من النبي بين زوجاته، جعلهن يستعنّ بزينب بنت جحش، إحدى زوجاته، لتكرر ما قالته فاطمة، وبالفعل ذهبت إلى رسول الله في بيت عائشة، وقالت له: "يا رسول الله إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة". تقول عائشة: "ثم وقعت بي فاستطالت عليّ وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرقب طرفه هل يأذن لي فيها. قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر. قالت: فلما وقعت بها لم أنشبها حتى أنحيت عليها. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسّم: إنها ابنة أبي بكر".
عُرف عن النبي عدله بين زوجاته في وقته وفي أمور كثيرة، ولكن ما كنّ يطلبنه، حسب الرواية السابقة، هو العدل في الميل العاطفي، وهذا مناطه القلب، وهو أمر لا حيلة للنبي فيه، إذ قال في حديثه في هذا الصدد لأم سلمة: "لا تؤذيني في عائشة"، وأيضاً: "اللهم هذا فعلي في ما أملك، فلا تلمني في ما تملك ولا أملك".
"إنها حبّة أبيكِ وربّ الكعبة"
الأمر لم يكن هيّناً وبسيطاً بين زوجات الرسول. أحياناً، كانت مجرد مداعبة أو كلمات عفوية من النبي إلى زوجةٍ أمام أخرى، أو في منزلها، جديرةً بأن تشعل نيران الغيرة في قلب الأخيرة، وتفقدها توازنها.
ففي قصة تجمع بين عائشة وبين زوجة أخرى من زوجات النبي (أم سلمة في رواية، وزينب بنت جحش في رواية أخرى)، جعل النبي يداعب عائشة بحركة من يده، ولا يفطن إلى حضور "الثانية"، حتى نبّهته عائشة إلى الأمر فأمسك، فما كان من "الثانية" إلا أن ثارت في وجه عائشة، فأخذ النبي ينهاها فلم تنتهِ، وتبادلتا الشتائم، فذهبت "الثانية" إلى بيت فاطمة، وقالت لها إن عائشة فعلت كذا وكذا، فجاءت فاطمة إلى أبيها تبلغه ما سمعت، فالتفت إليها النبي قائلاً: "إنها حبّة أبيكِ وربّ الكعبة"، يقصد عائشة.
ومجدداً تبدو واضحةً "دبلوماسية" النبي بين زوجاته، فقد سمح لزينب بأن تحتج على ملاحظة عائشة، وسمح لعائشة بأن تدافع عن نفسها، ولم يهدد إحداهن بأي شكل، بل ترك للكل التنفيس عن مشاعره.
"أعوذ بالله منك"
واقعة زواج النبي الشهيرة من أسماء بنت النعمان الكندية، والذي لم يستمر لساعات حتى طلقها، كانت الغيرة السبب فيها. ففي رواية ابن سعد عن الواقدي بأسانيد متعددة، أن النعمان قدِم على النبي في المدينة مسلماً، فقال: "ألا أزوجك أجمل أيمٍ (أرملة) من العرب كانت تحت ابن عم لها فتوفي عنها، وقد رغبت فيك وحطت إليك؟". وبالفعل تزوجها النبي. فلما حضرت إلى المدينة، وكانت من أجمل أهل زمانها، قالت عائشة وقتها: "لقد وضع النبي يده في الغرائب يوشكن أن يصرفن وجهه عنا".
ولما بدأت تتهيأ ليدخل بها النبي، قالت عائشة لحفصة: أخضبيها أنتِ وأنا أمشطها، ففعلتا، ثم قالت إحداهما لأسماء إن النبي يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول: "أعوذ بالله منك". فلما دخل عليها النبي، وأغلق الباب، قالت: "أعوذ بالله منك"، فوضع النبي كمّه على وجهه، واستتر به، وقال: "عُذت معاذاً" ثلاث مرات. وقال الواقدي: "لم تستعِذ منه امرأة غيرها، وإنما خُدعت لما رُئي من جمالها وهيئتها، ولم يعاقب النبي زوجاته على هذه الحيلة التي تسببت له بالإحراج، بل اكتفى بقوله: إنهن صواحب يوسف وكيدهن عظيم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون