حكم الأمويون زهاء القرن من الزمن (40-132هـ). ومنذ عهد معاوية وابنه يزيد بن معاوية أصبحت الخلافة مؤسسة وراثية في ما يسميه المؤرخون شكلاً من الخروج عن سنة الخلفاء الراشدين ومبدأ الشورى المتبع في عهدهم. وفي ذلك يقول جلال الدين السيوطي في "الدرّ المنثور" على لسان سعيد بن جهمان أنه: "قال لسفينة (مولى الرسول) إن بني أمية يزعمون الخلافة فيهم، قال كذب بنو الزرقاء، بل هم ملوك و أشدّ الملوك، وأولهم معاوية".
ويعتبر جورج طرابيشي في مؤلفه المثير للجدل "هرطقات" أن السابقة الكبرى لمعاوية من منظور التمييز بين الدين والسياسة لا تتمثل في قلب الخلافة إلى مُلك فقط، بل في نقل العاصمة إلى دمشق ذات الأغلبية المسيحية آنذاك، بعيداً عن مكة والمدينة العاصمتين الروحية والزمنية للإسلام الأول. ويتابع أن أغلب الأقوام التي وقعت تحت الحكم الأموي على إثر حملات الغزو أو الفتوحات الإسلامية، استمرت بدفع الجزية للأمويين، ما يؤكد أهمية الولاء السياسي عندهم، وتقديمه على نشر الدعوة المحمدية والتبشير بها برأيه.
شَعرة معاوية
يمكننا اعتبار معركة بدر في العام الثاني للهجرة حدثاً مفصلياً في تاريخ العداوة بين بني هاشم وبني أمية، فقد هُزمت فيها قريش أمام أتباع محمد، وخسر بنو أمية أربعة من أهم فرسانهم على يد علي بن أبي طالب الهاشمي. أسس معاوية الأحزاب لمقاتلة المسلمين حيث كان من القتلى أخو معاوية حنظلة، وخاله الوليد بن عتبة، وجدّه عتبة، كما يذكر أحمد أمين في كتابه "فجر الإسلام".
ويقول محمد قباني في مؤلفه "الدولة الأموية من الميلاد إلى السقوط"، إنه رغم أن الخلاف بين ذوي القربى يعود إلى ما قبل الإسلام وسقوط مكة على يد محمد، أي منذ أن نفى هاشم بن عبد مناف ابن أخيه أمية بن عبد شمس إلى الشام، فقد سادت مكة نوع من المهادنة حيث لم تعرف حاكماً أو زعيماً واحداً، بل باتت تُحكم من قبل أشراف وعائلات عريقة أمثال هاشم وأمية، وتدار أمورها بالتداول والمشورة في دار الندوة.
السابقة الكبرى لمعاوية لا تتمثل في قلب الخلافة إلى مُلك فقط، بل في نقل العاصمة إلى دمشق ذات الأغلبية المسيحية آنذاك
وبعد انتصار محمد النهائي بسقوط مكة بيده أوشك أبو سفيان، ألدّ أعدائه على القتل على يد الصحابة لولا تدخل عمه العباس. عندها أدار محمد الأمور بحنكة داهية فاعتبرهم من المؤالفة قلوبهم وأعطاهم من باب الزكاة كسباً لودّهم، وأعطى الأمان لأهل مكة وقال: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، وتصاهر معهم فتزوج أم حبيبة ابنة أبي سفيان، وكذلك زوّج بناته لهم ومنهنّ رقية وأم كلثوم لأحد صحابته عثمان بن عفّان، واستمر الأمر، وفقاً لما يذكره أحمد أمين في المرجع السابق.
استمر الأمر هادئاً بين الفريقين طيلة عهد محمد وخلفائه، كان معاوية خلالها أحد كتاب الوحي، ويلقبه أهل السنة بـ"خال المؤمنين"، حتى جاءت الفتنة الكبرى التي أدت مقتل عثمان، الخليفة الراشدي الثالث عام 34 للهجرة، فخرج معاوية، والي الشام، ناقضاً بيعةَ علي، ومطالباً إياه بالقصاص من قتلة عثمان، وكان من المحرضين عليه والداعمين لمعارضيه يوم الجمل كما يورد محمود شاكر في كتابه "التاريخ الإسلامي".
وقد ذكر الطبري صاحب "تاريخ الملوك" أنه قبل معركة الجمل عام 36 للهجرة بعث معاوية برسالة إلى الزبير بن العوام قال فيها: "فإني قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الجلب، فدونك الكوفة والبصرة، لا يسبقك إليها ابن أبي طالب، فإنه لا شي بعد هذين المصريين، وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك، فأظهرا الطلب بدم عثمان، وأعدوا الناس إلى ذلك، وليكن منكما الجد والتشمير، أظفركما الله وخذل مناوئكما".
بعد ذلك ارتقى طمعه إلى الخلافة وتصادما بموقعة صفين عام 37 للهجرة، والتي انتهت لا غالب ولا مغلوب، والتجأ الطرفان إلى التحكيم الذي أفضى إلى انقسام الدولة. وبفضل دهائه ومكره ومقدرته إلى كسب الحلفاء سواء باللين وشراء الذمم، واستغلال قضية عثمان خير استغلال، تمكن معاوية من الوصول للسلطة بعد مقتل علي وتنازل ولده الحسن عن السلطة عام 40 للهجرة، كما يؤكد محمود شاكر في كتابه آنف الذكر.
ويروي الطبري في تاريخ الملوك أنه في عام 50 للهجرة دعا معاوية لأخذ البيعة لولده يزيد، فكاتب ولاته، ومن بينهم مروان بن الحكم في المدينة الذي خطب بأهلها: "إن أمير المؤمنين رأى أن يستخلف عليكم ولده على سُنة أبي بكر وعمر، فقام عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال: بل سُنة كسرى و قيصر. إن أبا بكر وعمر لم يجعلاها في أولادهما، ولا في أحد من أهل بيتهما".
أتى الوليد بأربعين شيخاً، فشهدوا له أنه ما على الخليفة حساب ولا عذاب
وللتدليل على دهاء معاوية أنه حين سئل عن كيفية حكمه لدولته رغم كل القلاقل والاضطرابات، أجاب وفقاً لما ذكره ابن حبان في "روضة العقلاء": "لو بيني و بين الناس شَعرةٌ ما انقطعت. قيل: وكيف؟ قال: لأنهم إن مدوها خليتها، وإن خلوها مددتها".
يزيد ويوم بدر
رغم ما يذكره ابن كثير صاحب "الكامل في التاريخ" بأنه: "كان يزيد أول من غزا مدينة قسطنطينية بين 53-60 للهجرة، وقد ثبت في الحديث أن رسول الله قال: أوّل جيش يغزو قيصر مغفور له"، إلا أنه يؤكد على ضرورة لعنه (يزيد)، ويذكر بيتاً من الشعر أنشده (يزيد أيضاً):
لعبتْ هاشمُ بالمُلك فلا/ملِك جاء ولا وحيٌ نزل
وله أيضاً شعرٌ آخر يقول فيه:
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا/جزعَ الخزرجِ من وقعِ الأسل
حين حكت بقباءٍ بركها/واستمرّ القتلُ في عبدِ الأشل
ويورد الطبري أن يزيداً أنشد هذه الأبيات في موضعين؛ الأول عندما غزت جيوشه بقيادة مسلم بن عقبة المدينةَ، واستباحها لثلاثة ليال، وأجبرت أهلها على مبايعة يزيد كعبيدٍ له، والثاني عندما قُدّم له رأس الحسين بن علي قتيلاً.
ومما يذكر في سيرة حكمه أن قائده الحصين بن نمير قام برمي الكعبة بالمنجنيق عام 64هـ، بعد لجوء عبد الله بن الزبير إليها، رافضاً تأدية البيعة ليزيد. هذا التهاون بما هو مقدس إسلامياً تكرر أيضاً في عهد عبد الله بن عبد الملك عام 73هـ، حيث قرر الخليفة في مرحلةٍ من مراحل القوة التي مرّ بها الحكم الأموي أن يسير حملة عسكرية لإخضاع مكة والمدينة اللتين كانتا تحت سلطان الزبيريين، فكلف أحد قادته يدعى الحجاج بن يوسف الثقفي للتوجه بجنوده إلى مكة للقضاء على ثورة ابن الزبير، فقام الحجاج بنصب المنجنيق على جبل أبي قبيس، ثم رمي الكعبة، فكانت نتيجة هذا الأمر القضاء على ثورة ابن الزبير وقتله. وقد أعاد الحجاج بناءَ الكعبة بعد هذه الحادثة، بأمر الخليفة.
عبد الملك بن مروان
يذكر جلال الدين السيوطي في "الدرّ المنثور": "قال ابن عائشة: أفضى الأمر إلى عبد الملك والمصحف في حجره، فأطبقه، وقال: هذا آخر العهد بك". ويستعرض فرج فودة في كتابه المثير "الحقيقة الغائبة"، تناقض سلوك عبد الملك مع سيرته الأولى كفقيه ومتحدث ديني قائلاً: " لا تناقض على الإطلاق لأن ذلك كان قبل ولايته، فلما تولى أدرك أن النسك والعبادة قد ولى، فأطبق المصحف وأطلق شيطان الحكم الإمارة".
ويدلل فودة على ذلك أن ساعده الأيمن كان الحجاج بن يوسف الثقفي، وقد عرف مواهبه، وأدرك أنه بالحجاج قد وطد دعائم سلطانه. فكانت وصيته الأخيرة لولده الوليد أن يحفظ للحجاج صنيعه، وأن يلزمه وزيراً ومشيراً، وهو ما كان.
ويذكر في الختام أن الدولة الأموية حفلت على قصر عمرها برجال دولة عظام، كان على رأسهم معاوية، رجل الغاية لا الوسيلة، ورجل الحكمة الشهيرة: "إن لله جنوداً من عسل"، والذي يعتبره فرج فودة أعظم حكام الدولة الإسلامية، ولعل نجاح حكمه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بفصل الدين عن الدولة.
يعتبر فرج فودة معاوية أعظم حكام الدولة الإسلامية، ولعل نجاح حكمه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحكمته السياسية
الفنون من شعر، وعمارة، وغناء، وأكثر من ذلك مذاهب الفقه والاجتهادات انطلقت وتألقت في أواخر هذه الدولة، وانحسرت الشكلية للدولة الدينية، واكتمل تطورها في الطور الأول من الدولة العباسية الهاشمية التي أسقطت حكمهم في عهد آخر خلفائهم، مروان بن محمد عام 632م.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...