اقتنت أمي هاتفاً ذكياً، وأصبح لها حساب رسمي على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، اعتادت أن تتصفحه يومياً خلال ساعات النهار، بحثاً عن وصفة طعام جديدة، أو مقطع فيديو يوثّق الحياة اليومية لإحدى الأسر المصرية، التي عادة ما يدور محتواها هو مكائد السلايف وأحقاد الأقارب وما إلى ذلك، وبينما كنت أجلس إلى جوارها، استوقفني حوار في مقطع فيديو، بين أم وابنتها، تنهرها وترفع صوتها عليها. لا أعلم إن كان متفقاً على محتواه من قبل أم التُقط بشكل عفوي، لكن مضمونه أن خطيب الابنة قال لها: "بحبك" في رسالة على تطبيق واتساب، وقرأتها الأم بدون علم الابنة، فظلت تردّد: "عيب إنه يقول لك بحبك، الكلمة للمتجوزين بس". حاولت أن أستوعب العبارة، أعيد ترتيب الكلمات في رأسي، مرة واثنتين وثلاث مرات، أكدت لي أمي أن ما استمعت إليه صحيح: الأم ترى أن كلمة "بحبك" عيب، لا يصحّ أن يقولها الحبيب لحبيبته إلا بعد الزواج.
هل يغضب الله من كلمة بحبك؟
استعدت حينها موقفاً آخر حدث أمامي في إحدى وسائل المواصلات، حينما قال رجل لصديقه إنه لا يعترف بالحب قبل الزواج، وإنه عيب ونقيصة كبرى، بل وصفه بالفعل "الحرام"، ومن الكبائر الصغرى التي يعاقب الله فاعلها. تساءلت حينها: هل يغضب الله عندما أقول للشخص الذي أحبه "أحبك" عفوياً في حوار عابر بيننا؟ هل تهتز السماوات السبع لمشاعر إنسان، حاول أن يعبر عنها في كلمة بسيطة، قوامها أربعة أحرف وقليل من التشكيل؟ وضرب رأسي سؤال أكبر وأعقد، ربما لم أجد له جواباً بعد: إلى أين سنصل في أيامنا وسنواتنا القادمة؟
بالأمس سحرتهم "سيرة الحب"... واليوم تنفر منها أجسادهم
حقاً لا أعلم إلى أين وصل بنا الحال، فمن ينعتون الحب بالعيب والحرام، هم أبناء وأحفاد عشاق وجماهير أم كلثوم وعبدالوهاب ومحمد فوزي وعبدالحليم حافظ وغيرهم، من كانوا يتغنون ويتمايلون على إيقاع نغمات أم كلثوم وهي تشدو: "دوق معايا الحب دوق حبة بحبة"، أو معجزة الغناء المصري والعربي محمد فوزي، وهو يقول: "جاني اللي بحبه جاني، وفرحت بقربه تاني"،وغيرها من المئات، بل الآلاف، من كلمات وعبارات كانت جميعها تترجم كلمة واحدة، كلمة "أحبك"، التي أصبحت تختبئ خلف ألف ستار في مجتمع يتجرد من إنسانيته تدريجياً، تبتلعه أمواج المادية، المظاهر الخادعة والمصالح المتبادلة، وأسهل ما يفعله الشخص به، أن يُجرّم ويحرّم ويعيب ما لا يتوافق مع مصالحه وميوله الخاصة.
كأن يداً خفية تدخّلت دون أن نشعر، وبدلت هؤلاء بهؤلاء، فبات من أسرتهم "سيرة الحب" وآمنوا بأن "الهوى غلاب"، آخرين يرجمون الحب بألف حجر.
هل يغضب الله عندما أقول للشخص الذي أحبه "أحبك" عفوياً في حوار عابر بيننا؟ هل تهتز السماوات السبع لمشاعر إنسان، حاول أن يعبر عنها في كلمة بسيطة، قوامها أربعة أحرف وقليل من التشكيل؟
الحب قصة تُروى من وراء حجاب
ثلاثون عاماً وأنا أستمع لحكايات لم تكتمل، أنصاف قصص، كان للحب بها كلمة وكان للمجتمع كلمات. في البيت والأسرة والعائلة الحب عيب، وفي الجامعة يخبرنا البعض أنه لا ضرر في علاقة حب "خفيفة" لحين التخرّج. همسة ثم لمسة يد على استحياء، ثم لا بأس أن يخفي الطرفان علاقتهما عن الجميع، فيبدو أنه كان عيباً أيضاً في الجامعة! أما العمل، فكانت قصص الحب الوجبة الدسمة التي تُثري الحديث وتزيده حماسة، أملاً في انقضاء ساعات الشيفت الثقيلة، في حوار عادةً ما يهم الجميع، على كافة معتقداته وأفكاره، فإحداهن تحب زميل العمل وتتبادل معه النظرات واللقاءات خلسة، وعادة ما ينعتها الأغلبية بـ "الضائعة" التي لا أهل لها ولا رجل في بيتها، كأن الحب إذا رأى الرجل يدخل من باب البيت، هرب مسرعاً من الشُباك!
عزيزتي أحبي كما تشائين... الزواج شأن آخر
يا من صنعتم للحب عيداً... آمنوا به أولاً
تعدّدت القصص من حولي، اختلفت الأسماء والوجوه والملامح والأصوات، وبقيت تفاصيل الحكاية كما هي، ففي منزل قريب من بيتي الذي تركته قبل أكثر من عام، خرجت قصة كان حديث الجيران، عن فتاة لم تكمل عامها العشرين، أحبت سائق مركبة "توكتوك"، يبدو أنه صديق لشقيقها الأكبر، وبدلاً من أن تُكلل تلك القصة التي لم تخلُ من البراءة بالزواج، أصر الأب على أن تتزوج الفتاة من أي شاب في المنطقة عدا الذي أحبته! لم أفهم حينها لماذا أي رجل عدا من أحبته؟ أخبرتني أمي حينها أن هؤلاء يرون الحب عيباً، ولا يجوز أن تتزوج الفتاة بشاب أحبته.
علمت حينها سبب التعاسة والحزن الذي يبدو على وجوه كل النساء اللاتي ألتقي بهن في طريقي من البيت للعمل. ربما أكثرهن أُرغمن على زيجات لم يردنها، وأبعدتهن العادات عمن كان من المفترض أن يكملن حياتهن بجوارهم، لكني لم أجد الإجابة الواضحة عن بغض الكثير من رجال ونساء وطني للحب، وأنا من تعلم أنه لا شعور في الحياة يضاهي شعور المرء وهو بجوار من يحب، ربما لعلمي التام بذلك، أشعر بالحزن والأسى وقِصر اليد، وأنا أرى العالم من حولي يلفظ الحب بعيداً، يطرحه أرضاً وينهال عليه باللكمات، بينما ينزوي هو في ركن قصي، يراقب المشهد من بعيد، في مشهد تمثيلي، لعبارة قالها الكاتب الراحل وحيد حامد، على لسان الممثل المصري عادل إمام، في أحد أفلامه: "الدنيا هتنتهي بس لما الناس تبطل تحب بعضها".
يبدو أن هذا المشهد يتكرّر يومياً وفي كل لحظة، ولا أقصد بالحب هنا تحديداً العلاقة بين الرجل والمرأة فحسب، لكن الحب بمفهومه الأكبر والأشمل، الحب كفلسفة تحيا بها المجتمعات وتحارب بها الأفكار الشيطانية، التي لم يُخلق الإنسان يوماً لاعتناقها وتطبيقها، فلا أظن أن من يفرق بين قلبين ألف الله بينهما، باستطاعته أن يختبر شعور الحب، حتى وإن كان للوحة على جدار، أو طبق معكرونة باللحم المفروم والصوص الأحمر!
وددت لو أستطيع أن أجد وطناً آخراً لي، وللقليل ممن ما زالوا يبحثون عن عبارة في أغنية، أو بيت في قصيدة، أو جملة في رواية، تُحرّك المياه الراكدة في نفوسهم، تزيد إيمانهم بالحب والمعجزات التي يصنعها هذا الشعور
أحلم بوطن جديد لمن يملكون الحب كسلاح أخير
وددت لو أستطيع أن أجد وطناً آخراً لي، وللقليل ممن ما زالوا يبحثون عن عبارة في أغنية، أو بيت في قصيدة، أو جملة في رواية، تُحرّك المياه الراكدة في نفوسهم، تزيد إيمانهم بالحب والمعجزات التي يصنعها هذا الشعور الذي خصّ به الله الإنسان، ليحافظ عليه وينشره في بقاع الأرض شرقاً وغرباً، فأنا مؤمنة تماماً أن من يملك الحب هو وحده من ظل بشرياً ينبض قلبه، في زمن "حيونت" ماديته الكثيرين، وأصبح لكل شيء ثمنه، وبات القلب عضواً عضلياً يضخّ الدم لبقية أجزاء الجسم فحسب.
يتساءل الكاتب والصحفي والأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني: "هل هناك ما هو أكثر رعباً في حياة إنسان كان يخبئ الحب في جيبه كسلاح أخير للدفاع عن نفسه؟". أستكمل ما قاله، وأتساءل: هل يوجد ما هو أكثر رعباً في حياة إنسان يؤمن وحده بما كفر به الكثيرون؟ حين أصبحت أخاف أن أفصح عن رأيي في تجمع عائلي أو بين جماعات الأصدقاء، خاصة وأني قد نشأت في مجتمع صارم تحكمه الأعراف والتقاليد القبلية الجامدة، وأقول إن الفتاة من حقها أن تحب من ستتزوجه، بل وتختبر حبها شهراً واثنين وعشرين، قبل أن يُغلق عليهما باب واحد، وأن الحب ليس عيباً والإفصاح عنه ليس كَبيرة أو ضرباً من ضروب الفواحش.
أخيراً أقول لهم: يا من صنعتم للحب عيداً... آمنوا به أولاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
ماجد حسن -
منذ 10 ساعاتيقول إيريك فروم: الحبُّ فعلٌ من أفعال الإيمان، فمن كان قليلَ الإيمان، كان أيضًا قليل الحب..
Toge Mahran -
منذ 6 أياماكتر مقال حبيته وأثر فيا جدا♥️
Tayma Shrit -
منذ 6 أيامكوميديا سوداء تليق بمكانة ذاك المجرم، شكرا على هذا الخيال!
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ أسبوعالمقال بيلقى الضوء على ظاهرة موجوده فعلا فى مصر ولكن اختلط الامر عليك فى تعريف الفرق بين...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاحمد الفخرناني من الناس المحترمة و اللي بتفهم و للاسف عرفته متاخر بسبب تضييق الدولة علي اي حد بيفهم
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ أسبوعمقال رائع..